للتيار الجهادي جذور ممتدة في التربة المصرية، إلى حد إمكان الرجوع بظهوره التاريخي إلى اللحظة التي نشأت فيها أولى مجموعات الجهاد المصرية والتي ضمت أيمن الظواهري وقتما كان فتى يافعا على أعتاب كلية الطب، قبل أن يصير واحدا من أبرز رموز التيار الجهادي العالمي. لكن هذا الحضور المصري القوي في التيار الجهادي العالمي قد تراجع مع صعود “الجيل الثاني للقاعدة”، وهو الوصف الذي أعطاه الصحفي الأردني فؤاد حسين لمجموعة أبي مصعب الزرقاوي أو أحمد فاضل الخلايلة الأب الروحي لتنظيم الدولة الإسلامية (داعش)؛ الجيل الذي عرف بنزوعه إلى التشدد والقسوة.

لم يكن ميلاد هذا الجيل في الأردن مفاجأة، فالأردن هي موطن عصام البرقاوي أو أبي محمد المقدسي، أحد أهم منظري السلفية الجهادية التاريخيين، والذي عرف بمواقفه المتشددة والمتأثرة بميراث الدعوة الوهابية. وقد كان أبو محمد أحد المشارب الرئيسية التي استقى منها أبو مصعب الفكر الجهادي بعد عودته من رحلته الأولى إلى أفغانستان، ثم حين ترافقا في السجن في الأردن أعواما قبل أن يشمل الزرقاوي العفو الملكي العام سنة 1999. ولكن: هل نشأ إذن هذا الجيل الجديد بمعزل عن أي تأثير مصري؟

فقه الدماء:

للتيار الجهادي جذور ممتدة في التربة المصرية، إلى حد إمكان الرجوع بظهوره التاريخي إلى اللحظة التي نشأت فيها أولى مجموعات الجهاد المصرية

يحكي ميسرة الغريب أحد رفقاء الزرقاوي عن الأثر الكبير للشيخ أبي عبد الله المهاجر على الزرقاوي، وعن أهمية كتابه “فقه الدماء” في التنظيم. درس الزرقاوي على الشيخ هذا الكتاب 4 سنوات حسب ما يذكر الغريب، وكان يحضه الزرقاوي على أن يدرس كتابا آخر للشيخ نفسه هو “أعلام السنة المنشورة”، حتى وصلهم كتاب “فقه الدماء” بعد معركة الفلوجة الثانية (معركة من أبرز معارك المقاومة العراقية مع الغزو الأمريكي، وقعت في نوفمبر وديسمبر 2004، وانتهت بسقوط الفلوجة أحد أهم معاقل المقاومة في يد الأمريكي بعد مقاومة شرسة وتدمير أمريكي همجي للمدينة) حيث طبع الكتاب بعنوان “مسائل من فقه الجهاد”.

يظهر من العنوان الذي اختاره صاحب هذا الكتاب له، طبيعة اختياراته القاسية، فهو مصطلح ليس بالمتداول في مجال الفقه الإسلامي، وهو ما قد يفسر العدول عن هذا العنوان إلى عنوان مأخوذ من هيكلية الكتاب الذي قسمه صاحبه إلى عشرين مسألة فأسمي الكتاب “مسائل من فقه الجهاد”. اختار المهاجر هذا الاسم للكتاب كونه كما يقول في مقدمته جزءا خاصا بأحكام الدماء وما تعلق بها من كتاب أوسع له هو “الجامع في فقه الجهاد”.

اتسمت اختيارات المهاجر في المسائل العشرين بالشدة الظاهرة، والانشغال بشرعنة طرق القتل القاسية خاصة في المسألة الثانية عشرة التي جعلها لـ”مشروعية قطع رؤوس الكفار المحاربين”، وهي الطريقة التي اشتهر بها تنظيم الزرقاوي منذ ذبح الزرقاوي أحد الرهائن الأمريكيين في العراق في فيديو مصور 2004.

كان للمهاجر كذلك أثر كبير في إقناع الزرقاوي بمشروعية العمليات الاستشهادية (المسألة الخامسة في الكتاب) التي كان الزرقاوي نفسه يتخذ منها موقفا متشككا. وهو ما مكن التنظيم لاحقا من تحويل تلك الوسيلة إلى تكتيك عسكري ناجع في تحقيق الاقتحام السريع للأماكن المحصنة وكذلك إلى تحقيق أشرس درجة من المقاومة ودفع الثمن من المهاجمين.

ويمكن القول بأن النظرية العامة للكتاب هي توسيع إمكانات القتال والقتل خاصة أكثرها شدة بما يمكن المقاتلين من تحقيق أكبر قدر من النجاعة العسكرية بأكبر قدر من الشدة.

كان للشيخ أبي عبد الله المهاجر الأثر الكبير على أبو مصعب الزرقاوي حيث درس على يديه فقه الدماء لأربع سنوات

فمن هو أبو عبد الله المهاجر؟

أبو عبد الله المهاجر هو الشيخ المصري عبد الرحمن العلي الذي التحق مبكرا بالجهاد الأفغاني ضد الغزو السوفييتي، ثم استقر لاحقا في باكستان وأفغانستان، بعد أن حصل على الماجستير في الشريعة من الجامعة الإسلامية في إسلام أباد.

إدارة التوحش:

لقد كانت تلك الاجتهادات مناسبة للاستراتيجية التي طرحها مصري آخر هو أبو بكر الناجي في مجموعة مقالات جمعها عنوان “إدارة التوحش”. والتوحش كلمة أخذها الناجي من منظر جهادي تأثر به كثيرا هو الشيخ أبو قتادة الفلسطيني واسع الصيت، حيث ذكر الفلسطيني في مجموعة مقالاته “بين منهجين” التي كتبها في دعم الجماعة الإسلامية المسلحة صاحبة الممارسات العنيفة والمواقف المتطرفة كذلك في الجزائر، وتحولت تلك المقالات إلى كتاب فيما بعنوان “الجهاد والاجتهاد: تأملات في المنهج”.

ففي المقال 48 من السلسلة يشرح أبو قتادة النظرية الجهادية التي تتوقع أن تنهار سيطرة المركز الغربي على العالم، مما يؤدي إلى ظهور التوحش البدائي في بعض المناطق، وهنا يضع الناجي استراتيجيته لإدارة التوحش مستجيبا لدعوة الفلسطيني؛ فإدارة التوحش كما يصفها الناجي هي:

“إدارة حاجيات الناس من توفير الطعام والعلاج، وحفظ الأمن والقضاء بين الناس الذين يعيشون في مناطق التوحش وتأمين الحدود من خلال مجموعات الردع لكل من يحاول الاعتداء على مناطق التوحش”

النظرية الجهادية تتوقع أن تنهار سيطرة المركز الغربي على العالم، مما يؤدي إلى ظهور التوحش البدائي في بعض المناطق، ويهتم الناجي بإدارة هذا التوحش

وتمر المجموعة الجهادية خلال تلك الإستراتيجية بمراحل ثلاثة:

الأولى هي مرحلة الشوكة والنكاية التي تحاول فيها إنهاك العدو، وجذب الشباب الجديد، وإخراج المنطقة المختارة من سيطرة الأنظمة (وهذا ما نراه قابلا للحدوث في سيناء ما لم نتنبه لذلك)، والارتقاء بالمجموعات العسكرية.

الثانية هي إدارة التوحش.

الثالثة هي مرحلة التمكين أو إقامة الدولة.

ومن بين القواعد التي يضعها الناجي لإدارة التوحش، اعتماد الشدة؛ حيث يعزو الناجي مثلا نجاح الثورة العباسية على الأمويين في مقابل فشل ثورات آل البيت كالنفس الزكية إلى دموية العباسيين.

كذلك ينصح الناجي بالحرص على اعتماد القواعد العسكرية المجربة: ومنها مثلا أن الجيوش النظامية إذا تمركزت فقدت السيطرة وإذا انتشرت فقدت الفاعلية؛ وربما يكون هذا هو ما نشهده بأنفسنا في سيناء.

من هو أبو بكر الناجي؟

يبقى هذا السؤال بلا إجابة إلى الآن. تخبرنا مقالاته الإلكترونية التي عنونها بالخونة بأنه مصري كان يعيش في مصر إبان التسعينات وربما أيضا مطلع الألفية، وهو ما يضعف الرأي الذي ذهب إليه د. سيد إمام أمير تنظيم الجهاد السابق، بأنه هو محمد خليل الحكايمة القيادي في الجماعة الإسلامية الذي بايع القاعدة في 2007، حيث يعيش الحكايمة خارج مصر منذ الثمانينات.

ثمة مصري آخر كان له دور في احتواء الزرقاوي في أفغانستان كما يحكي فؤاد حسين، هو سيف العدل المسئول الأمني في القاعدة، الذي ساعد الزرقاوي على الرغم من رفضه التعاون مع القاعدة أول الأمر.

التيار الجهادي في مصر:

كان للمصريين حضور قوي باستمرار في التيار الجهادي العالمي، وتميزوا بوعيهم الاستراتيجي وبشدتهم في الوقت ذاته

كان إذن للمصريين حضور قوي باستمرار في التيار الجهادي العالمي، وتميزوا بوعيهم الاستراتيجي وبشدتهم في الوقت ذاته، وربما نجد تفسيرات كثيرة لذلك منها قسوة التعامل الأمني في مصر، وانسداد أفق التغيير السياسي على مدى سنوات طويلة، مع مفارقة هي أن هذه القسوة الأمنية وهذا الاستبداد السياسي قد صاحبهما حضور قوي باستمرار للأيديولوجيات الإسلامية المختلفة، ونوع من التعليم والانفتاح المعلوماتي الذي مكن الشباب من الاطلاع على الأفكار المختلفة وتطوير إمكاناتهم النظرية والحركية.

كل هذا ينبهنا إلى الخطر الذي يكتنفنا في مصر ما لم نتعامل مع الفكر والحركات الجهادية بحكمة وباستراتيجية شاملة تتحرر من الانفعال ومن التوجيه الحزبي والمصالح التكتيكية الضيقة، وإلا فنحن على أعتاب سوريا أو عراق جديدة.