في ثمانينات القرن الـ20، كانت صناعة السيارات اليابانية مثار حسد العالم. لقد مثلت الشركات اليابانية، مثل تويوتا وهوندا، صورة مصغرة لمفهوم الشركات الحديثة التي تحقق أقصى استفادة ممكنة مما لديها من موارد، ولم يكن الصرح الصناعي الذي ينتج سيارات تويوتا وشاحناتها عبارة عن شركة واحدة؛ بل كان في الواقع مجموعة مكونة من نحو 200 شركة يجمعها اهتمامها المشترك بإمداد شركة تويوتا بكل شيء؛ بدءًا من المكونات الإلكترونية وصولًا إلى أغطية المقاعد، لكن يجمعها ما يُعرَف بـ«نظام إنتاج تويوتا».

ما يجعل هذا النظام فريدًا حقا هو الالتزام الشديد بتطبيقه داخل مجموعة تويوتا. فالشركات في المجموعة -بما في ذلك الشركات التي يتنافس بعضها مع بعض للعمل مع تويوتا- تتعاون إلى حد يكاد يبدو معارضًا لمصالحها، فتتبادل الموظفين فيما بينها باستمرار، وتتشارك الملكية الفكرية، ويعاون بعضها بعضًا على حساب ما لديها من وقت وموارد.

كل ذلك دون الحاجة لعقود رسمية أو الاحتفاظ بسجلات مفصلة. وتتبع هذه الشركات نهجًا، في العديد من النواحي؛ أشبه بالإخوة وليس الشركات، باذلةً أقصى ما لديها من جهد لتحظى باستحسان شركة تويوتا، التي تراقبها عن كثب كما لو كانت أٌمًّا تحرص على التوافق بين الجميع مثلما تهتم بالأداء.


تويوتا – آيسون

من أهم الشركات المكونة لمجموعة تويوتا وأكثرها موثوقية شركة «آيسين سيكي». صارت آيسين شركة مستقلة، بعد أن كانت جزءًا من شركة تويوتا نفسها في الأساس، وذلك عام 1949م، لينصب تركيزها بالتحديد على صناعة مكونات الفرامل.

تنتج آيسين بالتحديد فئة من المعدات تُعرَف باسم الصمامات بي. وعلى الرغم من أن الصمامات بي، التي لا يتجاوز حجمها حجم علبة السجائر؛ ليست بالأمر المعقد على الإطلاق، لكن نظرا لدورها المحوري للغاية في مسألة الأمان، لابد من تصنيعها بدقة، ومن ثم فهي تُنتَج في منشآت عالية التخصص باستخدام مقاييس ومثاقب مصممة خصيصًا لهذا الغرض.

ونظرًا لما تمتعت به شركة آيسين من تاريخ مشرف من حيث الأداء، صارت بحلول عام 1997م المورد الوحيد للصمامات (بي) لشركة تويوتا، ولأسباب تتعلق بالكفاءة اختارت شركة آيسين إقامة خطوط إنتاجها للصمامات (بي) في مصنع واحد؛ المصنع رقم 1 في مدينة كاريا.

في الصباح الباكر ليوم السبت الأول من فبراير/ شباط عام 1997م، اشتعلت النيران بمصنع كاريا وسوَّته بالأرض! حدث الأمر على نحو مباغت. بحلول الساعة التاسعة صباح ذلك اليوم، دُمِّرت جميع خطوط إنتاج الصمامات (بي)، وفي غضون ما لا يزيد عن خمس ساعات، تلاشت السعة الإنتاجية لشركة آيسين تمامًا، وتطلب إحياؤها شهورًا.

شهورًا! كانت تويوتا تصنِّع آنذاك ما يزيد عن 15 ألف سيارة يوميًا بنحو 30 خط إنتاج، لكن بحلول يوم الأبعاء 5 فبراير/ شباط توقف الإنتاج تمامًا، ليسفر ذلك عن تعطل ليس فقط مصانع تويوتا نفسها، بل أيضا المنشآت والعاملين بالكثير من الشركات التي قام عملها على إمداد تويوتا بمستلزماتها.

خيَّم الصمت على أضخم المصانع بجميع أرجاء منطقة تشوكيو الصناعية، مع سقوط مجموعة تويوتا المنيعة جراء انهيار إحدى لبناتها الأساسية! إلا أن ما تلا ذلك لم يقلَّ في تأثيره عن الكارثة نفسها. ففي استجابة منسقة تنسيقًا مذهلا من أكثر من الـ200 شركة، ودون إشراف مباشر يُذكر من أيٍّ من آيسين أو تويوتا!

أُعيد إنتاج ما يزيد عن 100 نوع من الصمامات (بي) في غضون ثلاثة أيام بعد الحريق! وما إن حلَّ يوم الخميس الموافق 6 فبراير/ شباط، حتى أُعيد فتح اثنين من مصانع تويوتا. ويوم الاثنين التالي، أي بعد ما يزيد عن الأسبوع بقليل من وقوع الكارثة، عاد الإنتاج لقرابة 14 ألف سيارة يوميًا، وبعد ذلك بأسبوع عاد الحجم اليومي للإنتاج إلى مستواه قبل الكارثة.

خلفت أزمة تويوتا-آيسين التاريخية كما هائلا من التساؤلات عند متخصصي علم الشبكات؛ وخاصة الأسئلة المتعلقة بالأنظمة المعقدة، وإمكانية انهيارها المفاجئ. الأمل في وجود أنظمة ذاتية المعالجة بدون إدارة مركزية! أو بقدر ضئيل من التحكم المركزي، معيدة في نفس الوقت مناقشة فرضية «أن البنى التنظيمية القائمة على التسلسل الهرمي» أمر مفروغ منه للوصول لأي نتائج فعالة.

سواء كان ذلك الوصول في صورة مؤسسات الدول الحديثة أو الشركات، أو التنظيمات البشرية بشكلٍ عام، خاصة مع وجود أصوات مشككة في هذه الفرضية داعية إلى الحل السحري لـ«بيور وسابيل» المعروف بـ«التخصص المرن»، حيث يقوم العمل على فرق منظمة تنظيمًا مرنًا من العاملين ذوي المهارات العالية، حيث يمكنهم إعادة مزج مهاراتهم المتخصصة على نحو سريع ومتكرر، لسهولة التعامل مع المهام المطلوبة والمفاجئة!


الدول .. الأحزاب .. الشركات

في كل عصر من العصور تسود قناعة راسخة حول قضية أو مجموعة من القضايا. فالمجتمعات التي تعيش على وجه الأرض الآن، تؤمن بأنه لا يوجد أي تصور لأي نظام سياسي غير صورة الدولة القومية الحديثة، ولا ممارسة اقتصادية بغير شكل الشركات، ولا مقاومة سياسية بغير حزب سياسي، أو تنظيم – علنيًا كان أو سريًا.

ومع اختلاف النطاقات السابقة (الدولة/الشركة/الحزب/التنظيم)، إلا أن المشترك الجامع بين هذه الصور هي بنيتها التنظيمية الهرمية الصلبة! وليست التيارات الإسلامية بدعًا من دون الناس في ذلك. فجميع التصورات الإسلامية ما بعد الاستعمارية، وهي جميعًا بنت الحداثة -التقليدية منها والراديكالية- تؤمن بشكلٍ أو بآخر بهذه القناعات السابقة وتمارسها، أو تسعى لممارستها.

وهذا واضح لا يحتاج إلى بيان في حالة التيارات الحركية؛ مثل جماعة الإخوان المسلمين ومن شابههم، وكذلك في حالة التيارات الجهادية -في ظنّي-، وفي كثير من التصورات السلفية الممارسة للعمل الحزبي بالفعل، والتيارات الدعوية؛ مثل جماعة التبليغ والدعوة، أو حتى الطرق الصوفية ذات التقليد الهرمي الموغل في القدم.

لكن الصورة الأكثر غموضًا هي تصورات المؤسسات التقليدية (مثل الأزهر في مصر)، والسلفية السلطانية (أو المخابراتية) مثل التيار المدخلي. فهي وإن مارست الرفض النظري -ذا الأصل الشرعي- للتصور الحزبي والتنظيمي، ولكنها تقبله بصورة أكثر فجاجة في تقبلها لصورة الدولة القومية الحديثة ذاتها، وما ينبثق عنها من جميع البنى التنظيمية ذات الهياكل الهرمية.

لذا فهي لديها تحفظ على اتجاه الممارسة (أي كونه مع الدولة أم ضد الدولة)، لكنها بشكلٍ غير واعٍ تقبل أصل الممارسة؛ وهذا الأصل هو ضرورية ولزومية البنية التنظيمية الهرمية كشكلٍ وحيد للحصول على أي نتيجة منظمة.

والمبرر الأكبر، والحجة المشتركة، وكلمة السر في ذلك الإجماع هي «الفاعلية». فحتى لو بدأنا سلسلة الاستدلال النظري من منطلقات شرعية؛ فلا بد أن ننتهي إلى جملة (بما أن… إذن:…) الهندسية. فمن أجل تحقيق جميع الأهداف الشرعية سابقة الذكر في أي استدلال بشكلٍ فعال، إذن يجب بناء تنظيم هرمي لتحقيق هذا الهدف (السياسي، أو الاقتصادي، أو الشرعي الدعوي، أو المقاوم…إلخ).

والحق أن المطلوب على الحقيقة هو النظام، وليس صورة التنظيم (ذات البنية الهرمية)، ومن أجل مناقشة هذه الحقيقة البسيطة كُتب هذا المقال.


في البدء كان التنظيم!

ظلت ثنائية الصلاحية والذاتية هي معضلة المسلمين المعاصرين. ففي الوقت الذي يؤمن فيه المسلم المعاصر بصلاحية الإسلام في ذاته، إلا أنه لا يستطيع الإجابة على استشكال الفاعلية، الذي ما فتئ الغرب يستذله به في صورة المعضلة التي لا تنتهي.

إن كان صالحًا في ذاته (الإسلام)، فلماذا هو غير فعال وناجح؟ وإن كنا لسنا صالحين (غير المسلمين)، فلماذا نحن فاعلون؟!

ومن باب مبدأ «تعلم ولو من عدوك»، أخذ المسلم منذ نهايات القرن الـ18 الميلادي، تحت ضغط هذه المعضلة، يحاول استنساخ جميع ما هو فعال عند عدوه، من وجهة نظره، لعله يحصِّل هذه الفاعلية السحرية، بدءًا من بنية الدولة الحديثة الفاعلة والضابطة لجميع مناحي الحياة، مرورًا بأنظمة الجندية والعسكرية، والبنية القانونية الصارمة (ولو عن طريق تقنين الشريعة ذاتها).

كذلك التخطيط العمراني للمدن والشوارع، والضبط البراني للزي المدرسي، وطرق إدارة المؤسسات والشركات، وكذا بنية الأحزاب السياسية المقاومة، والتنظيمات السرية المناضلة دون أن يلحظ في عملية الاستنساخ الآنفة، أنه اضطر إلى شيء بسيط وعارض في جميع هذه الصور. وهو تغيير تكوين الوحدة البنائية الصغرى لجميع هذه الأنظمة وهي: الإنسان.

مفاهيمه، مناهجه التعليمية، منظومته الأخلاقية، أهدافه النهائية والغائية – إن كانت ثمة هناك أهداف. ففي الوقت الذي كانت جميع هذه النظم في السابق تتطلب تكوين إنسان -سواء كان حاكمًا/ جنديًا/ قاضيًا/ فقيهًا/ مهندسًا/ معلمًا/ تاجرًا/ سياسيًا/ مجاهدًا/ داعيًا- يغلب عليه الاجتهاد والإبداع في ضوء قواعد، وضوابط عامة يعلمها القاصي والداني بشكلٍ أفقي داخل المجتمع، حيث الأهداف الغائية للمجتمع مشاع مبذول لكل أحد داخل المجتمع المسلم.

فيغلب عليه الاجتهاد السياسي، والفقهي، والقضائي، والابتكار العلمي، والتشقيق المتواصل للعلوم، والابتكار المؤسسي المتواصل في صورة أفكار مؤسسات الوقف الأهلي التي لا تنضب، وحرية الجهاد والدعوة. استُبدِلَ ذلك كله بعد عملية الاستنساخ هذه إلى الفرد الترس شديد التخصص عالي الكفاءة، لكن في تنفيذ ما يُطلب منه ممن فوقه داخل البنية الهرمية داخل جميع البنى المجتلبة في حالةٍ من الجندية أو العسكرة العامة!

والحق يقال أن جماعة مثل جماعة الإخوان المسلمين منذ النشأة، هي تجمعٌ لأفراد هم جميعًا أبناء أحد الأنظمة المستنسخة السابقة، سواء الأنظمة التعليمة الإنجليزية المبنية على أساس عسكري، أو أنظمة الجندية والعسكرية المجتلبة، دون التقليل من أثر بنية الطرق الصوفية الهرمية في الصورة الأولى للجماعة.

الجماعة قبل نشأة التنظيم

هناك أمر لافت للنظر فيما يتعلق بالمذاهب -الفكرية منها والفقهية- والجماعات، وهو أن مؤسسيها في أول الأمر يغلب عليهم الاجتهاد والإبداع، مع توفر إمكانية مراجعة المنطلقات والأفكار والاعتذار عنها، بل وتبديلها بالكلية في كثير من الأحيان.

فنجد جميع أئمة المذاهب يدلُّون أصحابهم وأتباعهم على الاجتهاد، وعدم الوقوف على أقوالهم، وأن يجتهدوا كما اجتهدوا، بل يمكن أن يغير إمام المذهب مذهبه بالكلية، وهو على قيد الحياة! ثم يخلف من بعده أجيالٌ تقل فيهم الإبداعية والاجتهاد، وتطغى عليهم روح التقليد – ولو بنية حسنة.

فنكون بذلك على أعتاب ميلاد مذهب جديد، وينغلق هذا النسق الاجتهادي المفتوح لصالح هذا النسق التقليدي المنغلق، حتى يأتي مجدد بعد جيلين أو ثلاثة لينادي بفتح هذه الأنساق كما كانت مرة أخرى. وهكذا الحال في شأن المذاهب الفكرية والفلسفية. فمن المشهور عن «ماركس» عندما رأى متطرفي الماركسية الفرنسيين، قال: لو كان ما أنتم عليه هو الماركسية، فإذا أنا لست ماركسيًا!

وهكذا الحال في شأن التنظيمات بل أسوأ. فالمؤسس لفكرة الجماعة التي ستصبح تنظيمًا بعد ذلك لا ينتمي على الحقيقة إلا للفكرة. أما التنظيم فذلك يأتي بعد انغلاق النسق الفكري والإبداعي. ومن المشهور عن الشيخ «حسن البنا»-رحمه الله- إحساسه بالندم الشديد عند رؤيته لبعض الممارسات التنظيمية للتنظيم الخاص قبل موته، وإدراكه أو استشرافه لمستقبل هذه الممارسة.

وكذلك المرشد الثاني لجماعة الإخوان المسلمين الأستاذ «حسن الهضيبي» -رحمه الله- حيث أتى من خارج الجماعة، تقريبًا، ليضبط الفكرة لا ليحافظ على التنظيم، بل لا نبالغ في القول إذا قلنا أنه جاء ليحل التنظيم لصالح الفكرة وهكذا فعل على الحقيقة؛ بإصداره لقرار حل التنظيم الخاص، الذي كان له الأثر الحاسم في استهداف الجماعة الأولى وتصفيتها.

اتهم بسببه من غلاة التنظيمية أنه ماسوني مدسوس على الجماعة، حيث كانت فكرة (الفكرة= الجماعة= التنظيم= الأمة!) تبلورت بالفعل داخل التنظيم، معلنة بدء انغلاق النسق وقيام التنظيم!

رافقت جميع محاولات الإحياء التالية للجماعة غلبة الحس التنظيمي، وتراجع الحس الاجتهادي بحيث أصبحت القيادات المتنفذة دائمًا من النخب ذات التخصصات العلمية والهندسية والقانونية والإدارية، وهي أكثر قطاعات المجتمع المسلم -الاستعماري وما بعد الاستعماري- تأثرًا بمركزية نموذج البنى الهرمية المنضبطة! بحيث تصبح المُسَلمة الأولى غير القابلة للمناقشة أو النقد هي جدوى وجود التنظيم ذاته.

أو بصياغة أخرى هل ثمة طريقة للحصول على نتيجة منظمة دون تشكيل تنظيم ذي بنية هرمية صلبة؟ وهل من الممكن أن يكون حل التنظيم هو أفضل وسيلة للحصول على الغرض الذي أُنشئ من أجله التنظيم ذاته؟ (كما كانت نية «البنا» رحمه الله، وكما فعل «حسن الهضيبي» بالفعل).

وحتى لا يكثر الخرص أو التخمين حول معنى حل التنظيم هنا، فبدون مواربة في الحديث، أعني بحل التنظيم هو إعادة النظر إلى جميع الأفراد المنتمين للتنظيم على أساس كونهم أفرادًا مكلفين من قبل الخالق، وليس من قبل لجنة عليا داخل التنظيم. ومن ثم إعادة تشكيل مناهجهم التعليمية، والمهارية، وتكليفاتهم الشرعية الكفائية والعينية مرة أخرى طبقًا لهذا الأساس الجديد.

لا يستثنى من ذلك أحدٌ سواء من القيادات أو القواعد، وإعادة توزيعهم طبقًا لهذا المبدأ لا غير، كأفراد مكلفين من الأمة، لا مجرد قواعد تنظيمية محاسبة من قبل قياداتها وفقط، بحيث تصبح هذه المجموعات المرنة بمثابة أذرع نجم البحر الشهير.

أي أنها تحمل جميع الكفاءات اللازمة للإبداع والعمل، دون حاجة للقيادة المركزية المقيدة للعمل والحركة، وذات تكامل حقيقي في المهارات، وتكامل في الاهتمام بقضايا الأمة بعيدًا عن حجة الانضواء لتنظيم عالمي قائم على الفهم المتكامل للإسلام، المعطلة للطاقات الفردية! حيث تعطينا الأمثلة التاريخية لهذه الحجة نموذجًا للطاقة السلبية المعطلة للتنظيم تجاه أفراده كالتالي:-

1. النظرة المحلية القطرية لقضية الجهاد – سواء الجهاد الأفغاني أو البوسنة والهرسك، أو الجهاد السوري… إلخ: فالعذر في ذلك كله مبني على حجة أنه بما أني أنتمي لتنظيم لديه رؤية شمولية ومتكاملة للإسلام، وبما أن هذا التنظيم له فروع في جميع أنحاء العالم، وبما أن العمل المؤسسي يستلزم الثقة في القيادات وعدم تحصيل أي خلفية معرفية، أو مهارية غير لازمة لوظيفتي داخل التنظيم؛ إذن، فالحرج الشرعي ساقط في حقي.

(أعلن «محمد حامد أبو النصر» مرشد الإخوان المسلمين -رحمه الله- إبان الجهاد الأفغاني، أن الجماعة لن ترسل مجاهدين إلى أفعانستان إلا لو أمر بهذا ولي الأمر! وهو رئيس الجمهورية!)[1]2. النظرة المركزية لتحصيل العلمي الشرعي:

بما أن الجماعة لديها هيئات شرعية مركزية؛ إذن ليس من المطلوب تكليف جميع القواعد بالتحصيل العلمي. إذن ستظل جميع القواعد تابعة للهيئة المركزية الشرعية للتنظيم! ويكمن تتبع جميع التكليفات بنفس الطريقة السابقة.

ويمكنني صياغة هذه المعضلة -معضلة التنظيم- بلغة خبراء الشبكات الاجتماعية كالتالي:

التنظيمات ليست فعالة في زيادة قدرة أعضائها على القيام بواجبات الأمة -كما تزعم لنفسها-، لكنها فعالة في زيادة المشاركة في الانخراط في صفوفها، لأنها تخفض مستوى التكليفات الفردية الربانية لأعضائها!.


آيسين – تويوتا مرة أخرى!

إن الاختلاف الجوهري بين النموذجين، التنظيم الهرمي، والشبكي المرن، هو أن الهياكل الهرمية تتجاوب تجاوبًا ضعيفًا مع الغموض والفشل، وإن كانت تُعد بِنىً رائعة لممارسة الضبط. حيث يمثل الضبط السمة المركزية للنظم البيروقراطية والتنظيمات الهرمية الصلبة على حد سواء، في مقابل المرونة الفائقة للشبكات الأفقية المرنة للتعامل مع المفاجآت والغموض والفشل العارض.

المعضلة الكبرى في المسألة هي شبكة توزيع المعلومات وصناعة القرار. ففي الوقت الذي تتميز به الهياكل الهرمية بأنها شبكة توزيع عالية الكفاءة (صورة إصدار التعليمات والأوامر)؛ لكنها ضعيفة جدًا في حالة المفاجآت حيث يحدث ما يشبه باختناق معلوماتي عند قمة الهرم التنظيمي بما يزيد عن قدرته على معالجة المعلومات أو اتخاذ القرار المناسب، مع عجز الأطراف التنظيمية عن اتخاذ أي قرار مع أي موقف مفاجئ للغياب التام للمهارات الإبداعية اللازمة لذلك.

فإذا أردنا العودة بنتائج مثال «آيسين – تويوتا» على حالة التيارات الإسلامية؛ فالتنظيمات الإسلامية ذات البنية الهرمية الصلبة لديها فعالية هائلة في المهام التقليدية، مثل الفوز بالانتخابات أو الحشد لقضية أو موقف سياسي مؤيدًا كان أو معارضًا، لكنها تفشل فشلًا مثيرًا للدهشة -ولدهشتها هي نفسها- إذا ما واجهت أي شيء طارئ أو مفاجئ.

على سبيل المثال توفر جبهة جهادية خارج مخططات التنظيم، أو انهيار نظام سياسي قبل الموعد المقرر داخل أدبيات الجماعة، أو انقلاب عسكري من أصدقاء الأمس! إن الدرس المستفاد من تجربة «تويوتا – آيسين» -ولا فارق كبير بين بنية الشركات والتنظيمات- هو أن هناك صورة مختلفة، سواء على مستوى الهيكل، أو مستوى تكوين الفرد، حيث يستطيع القيام بدوره التقليدي؛ مع قدرته على التعامل مع الطارئ والمفاجئ.

وليس الحل فيما يطلق عليه بعض قيادات التنظيم الحالية بـ«إعادة الهيكلة»، فهذا أحد صور إعادة تشكيل التنظيم لكن بوجوه جديدة مع بقاء العيوب البنيوية القاتلة. الحل المقترح هو حل التنظيم وإعادة توزيع مهامه الأساسية على الأفراد، لا بكونهم أفرادًا داخل التنظيم، ولكن كمرحلة انتقالية لحالة نجم البحر!


[1]حرب 1948م هي الحالة الاستثنائية الوحيدة لهذه النظرة؛ وإن كانت ختمت بهذه النظرة!