محتوى مترجم
المصدر
Philosophy Now
التاريخ
2012/12/01
الكاتب
Eric Walther

كان فريدريك نيتشه، والذي ولد عام 1844 وغرق تماما في الصمت عام 1889 وتوفي بعد ذلك بإحدى عشرة سنة، أحد أعظم فلاسفة القرن العشرين. ما جعله ولا يزال يجعله شديد الأهمية، تناوله شديد الوضوح والمثير للإعجاب لأكثر إشكاليات الحداثة إثارة للقلق:إشكالية القيم. وعلى الرغم من أن محاولاته لم تكلل بالنجاح إلا أنها أظهرت طبيعة وعمق الإشكاليات التي لا تزال تؤرقنا حتى اليوم.

دعونا نبدء من إعلانه الصادم «موت الإله» في كتابه «العلم المرح» 1872. ينتشر في زمننا هذا التفكير العلماني، لكن في زمن نيتشه كان يعتبر هذا الإعلان نبوءة شديدة الدلالة. الدلالة المقصودة هنا لا تشير إلى الإلحاد: على الرغم من أن نيتشه كان بالتأكيد ملحدًا، إلا إنه لم يكن أحد رواد الإلحاد الأوروبي، لكن الدلالة تكمن في سوسيولوجية الإعلان. يقصد نيتشه أن حلول الله كمعنى في الأشياء لم يعد موجودًا في الثقافة الغربية. حسنًا، مصطلح سوسيولوجية مبهم نوعا ما، حيث لا يوجد ما يعادل القيم، كما يؤكد نيتشه. فموت الإله كان بمثابة هدم حجر الزاوية في منظومة القيم الغربية، وفتح باب للحضارة الغربية على الهاوية. فقد فقدت كل القيم معناها، وأصبحنا نسير على غير هَدي سواء أدركنا هذا أم لا. والسؤال الآن، ماذا نفعل؟

فموت الإله كان بمثابة هدم حجر الزاوية في منظومة القيم الغربية، وفتح باب للحضارة الغربية على الهاوية

ربما تبدو قضية «موت الإله» مألوفة لنا في البداية، حيث يجادل المحافظون المسيحيون أن فكرة أن الرب غير موجود تعني بالضرورة أن القيم الأخلاقية غير موجودة أيضًا، إلا أن العلمانيين الإنسانيين يرون أن الأحكام الأخلاقية التي نتخذها لا علاقة لها بوجود الله من عدمه.

يتفق نيتشه مع الملحدين بأن القيم الأخلاقية فقدت الموضوعية كسمة، لكن يختلف عنهم في أنه لا يتخذ «أزمة المعنى» كسبب يرده للإيمان بالله. فهو لا يرى أن القيم تولد معناها ذاتيًا، بحيث تصبح قناعات شخص ما سليمة قياسا بقناعات شخص آخر. بدلا من ذلك، يرى نيتشه أن للقيم قوة، وتزدهر القيم كذلك بالقوة: ككل الأعمال الفنية، تكمن عظمتها في قدرتها على تحريكنا.

للإعلام قوة وقدرة على التلاعب بمشاعر الناس، لكن ليس هذا النوع من القوة ما يجعل القيم تزدهر، لأن معظم الناس تقريبا يسيرون في القطيع. وكل ما يتعلق بالقيم كمرجعية بالنسبة لعوام الناس (وبالنسبة حتى للطبقة الأرستقراطية) هي محاولة منهم للتمسك بموضوعية القيم. لكن إذا كانت موضوعية القيم هي غاية في حد ذاتها، فيجب البحث عن مصدر جديد وجذري بل وفردي كليا للقيم. يصبح بذلك مفهوم نيتشه عن سلطة القيم وقوتها نخبوي: فوحدهم العظماء من يستطيعون خلق القيم.

يجادل نيتشه كذلك أن في العصور الغابرة، كانت القيم تنتمي لمن ابتدعها:

«ثمة بيان لما هو خيّر يخيّم على كل شعب. تنبّه، إنه بيان انتصاراتهم. تنبّه، إنه صوت إرادتهم للقوة: «لا بد أن تكون الأول دومًا وأن تتفوق على الآخرين: ولا ينبغي لروحك الغيورة أن تحبّ أحدا، عدا أن يكون صديقا» -ذلك ما كانت تَخْفِق به روح اليوناني، وهكذا راح يسلك دربه إلى العظمة
«كن وفيّا. ومن أجل وفائك، لتبذلْ دمك وشرفك في أكثر الأشياء ضررًا ومخاطرة»: بمثل هذه التعاليم استطاع شعب آخر أن يتغلب على نفسه، وفي التغلّب على نفسه على هذا النحو حَبِل وغدا مثقلًا بعظيم الآمال» (هكذا تكلم زرادشت، الكتاب الأول، 1883)

وهكذا، كانت القوة التي يُعرف بها الناس أنفسهم في العصور القديمة هي ما خلقت أيضًا فضائلهم. ثم جاء بعد ذلك ما يسميه نيتشه بالتعقيد المتدهور للمسيحية، حيث أصبح الضعف هو ما يعتبر جوهر الفضائل وليس القوة: «طُوبَى لِلْوُدَعَاءِ، لأَنَّهُمْ يَرِثُونَ الأَرْضَ» (متى 5: 5).

وفي الواقع، فإن الطبقة الكهنوتية الحاكمة لا تمارس رغبتها في السلطة بانتصارها على الشعوب الوثنية، لكن بتحويل كل الغرائز الحيوانية التي تعتبر فخر الإنسان إلى رغبة في الفقر، إماتة الجسد، الإحساس بالذنب على الخطأ؛ مفاد رسالة الرب المعلق على الصليب هي المعاناة. والرسالة واضحة وهي أن الفضيلة لا تكمن في الرجال العظماء الدنيويين، بل فيما يتجاوز الدنيوية. والحقيقة عكس ذلك: فسلطة الكهنة ظهرت في انتصارتهم على ما يميزهم.

هذا النصر في المسيحية «كارثة» حيث يقوم على إنكار الذات وليس على الرغبة في الحياة كما يسميه نيتشه. لكن بموت الإله، انهارت فكرة الضعف كجوهر للقيم، وليس لدى إنسان الحداثة ما يمنعه من أن يحل شيئا آخر محل هذا. فـ «قيمنا» عبارة عن قطع أدبية متعارضة وغير متماسكة مجمعة من العديد من المصادر. سمى نيتشه هذه القيم: «البقرة متعددة الألوان».

يوضح تعدد سُبل الإيمان في الغرب اليوم ما تنبأ به نيتشه بجدارة: القيم كالسلع الاستهلاكية، تم المزج بينها وتنسيقها. أدت هذه السخافة في النهاية لخور القوى. لكن متى وأين تستطيع إرادة الإنسان كقوة أن تحكم انطلاقا من مجموعة جديدة من القيم؟ كانت هذه هي معضلة نيتشه، وقد أصبحت بعد ذلك معضلة الحداثة، كما تنبأ تمامًا.

ككل الفلاسفة العظام، حاول نيتشه محاولات بطولية أن يحل معضلته، وأعطى الحل اسم Übermensch، ويترجم حرفيا إلى «الحاكم المطلق»، ويؤلمنا أن نترجمه إلى «السوبرمان». فهو ليس مجرد إنسان، بل هو ما يخلق الفضائل ويعطيها قيمتها، وفرديته تبرهن على كونه غير مؤهل للمهمة.

إلا أن عظمته تكمن في استعداده الجسور للتجربة: «فكما تمثل القرود حرجًا للإنسان، سيمثل الإنسان حرجًا للسوبرمان». فالسوبرمان هو نوع من الأفراد لديه ثقة شديدة في قدراته، ومن خلال التأكيد الشديد على تفرده، قد تُخلق فضائل جديدة: فضائل لا يخلقها الناس، ولا تنبع قوتها كونها من لدن إله متجاوز، ولكن ولأول مرة تنبع قوتها ويبررها تفرد الشخص الذي يقوم بها وتعريفه لها على أن هذه هي القيم. وهذه القيم يجب أن تُخلق خلقًا، لا أن تكتشف كأنها كانت موجودة بالفعل.

لم يدع نيتشه أنه يعرف بالتفاصيل ما هو السوبرمان. أعتقد جديًا أن السوبرمان سيكون له أقران، سيكون له أخوة مجازيين، إلا أنه فرد ومتفرد على الرغم من هذا: فسوبرمان المستقبل ليس له جنس. لذلك فإن معظم دارسي نيتشه يعتبرون أكبر جرائمه هو مفهوم السوبرمان الذي وظفته النازية بعد ذلك في صراع العرق الأنقى، على الرغم من أن نيتشه أعرب عن احتقاره للمعادين للسامية ولكل الدعاية التي تقوم بها ألمانيا عن تفوق الجنس الآري.

يستطيع كل فرد العيش وفق ما يعتبره «قيمه الخاصة»، لكنها ليست عادة قيمه الخاصة، بل شذرات مجمعة من هنا وهناك في معرض الحداثة

فإنسان الحداثة، الإنسان الشامل، يعتبر لعنة بالنسبة لنيتشه. ففكرة أن الإنسان الحديث عندما «يكون نفسه» يستطيع تجاوز الإرث الإبداعي لشعوب بأكملها ويكون السوبرمان: «محض هراء». معظم الناس أصغر بكثير من هذه المهمة. يستطيع كل فرد العيش وفق ما يعتبره «قيمه الخاصة»، لكنها ليست عادة قيمه الخاصة: بل شذرات مجمعة من هنا وهناك في معرض الحداثة، وليس للإنسان أدنى فكرة من أين أتت هذه القيم. فليس هناك شيء أكثر وضوحًا بالنسبة لنيتشه من أن الإنسان العادي لا يعرف كيف تؤسس القيم.

أعتقد أن نيتشه يقدم لائحة اتهامات للحداثة. بالطبع، قد يكون نيتشه مخطئا بخصوص أن الفضيلة هي ما تخلقها إرادة القوة. أنا نفسي أرى أنه مخطئ. فأنا أتفق معه بخصوص أن الفرد هو من يخلق الفضيلة، لكن لا أتفق معه في أن من يخلق الفضيلة لا بد أن يكون السوبرمان. علاوة على ذلك، أعتقد أن هناك قيما تتجاوز الإنسان كخالق للقيم. في هذا الصدد، أنا أنتمي لكانط، بالطبع، الإنسان كفرد متعدد الثقافات في زمن الحداثة لا يستطيع خلق القيم، لكن يمكن الاحتفاظ للأفراد بصلاحية التشريع، بعيدا عن إحساس البعض بأنهم خارقون بالنسبة للآخرين.

لماذا لا يزال إنسان الحداثة مُعذبًا إذن؟ لا أعرف، لكنني لن أتفاجأ إذا كان نيتشه هو أعظم فلاسفة القرن العشرين أيضًا.