«كيف أعلم ابني الرسم»، «ابنتي شغوفة بالأشكال والألوان»، «ابني يرسم جيدًا ما يراه، أريد تعليمه المزيد»… كل هذه التساؤلات تواجهنا يوميًا كأمهات، فنحن نريد تقديم كل ما هو جميل ومفيد لأبنائنا، وخاصة إذا كان ابنك أو بنتك يحمل بداخله طاقة فنية وإبداعية واضحة تريدين تنميتها، ولا تعلمين كيف لك مواجهة وحش الإبداع الظاهر بوضوح على أبنائك!

أولًا، دعونا نفرق بين الأطفال الموهوبين فنيًا والأطفال العاديين. فالموهوب أصبحت لديه كثير من المؤسسات والمراكز التعليمية التي يمكن اللجوء إليها. ولكن من نتطلع إليه في مقالنا هذا هو الطفل الذي لا يمتلك مهارة الموهوب، بل نريد تنمية ذائقته الفنية والإبداعية حتى لا نحيد عن فطرته التي فطره الله عليها بأن يحب ويرى كل جميل.

فلكل طفل الحق في الحصول على تعليم فني مع اختلاف أنواعه: فنون بصرية، حركية وسمعية. فالفن يساهم بشكل كبير جدًا وفعّال في عمليات تطور ونمو الطفل بأكمله، ليس فقط كي يعد الطفل للحياة، بل ليملأه بهجة وسعادة وفرحًا. فالفن يقدَّر بقيمته في تحسين مختلف المهارات المعرفية والعقلية المختلفة.

نحاول من خلال هذا المقال أن نقدم لكم بعض الخطوات العملية التي تمكّن الوالديْن أو المربي من مباشرة الطفل فنيًا من خلال المنزل، وذلك من خلال بعض الأفكار التي ربما تساهم في إثراء عملية نمو طفلك الفني والإبداعي.

1. ابدأ بنفسك

أولًا فليبدأ المربي بنفسه، وذلك بتورطه في العملية الفنية والعمل مع الطفل بروح من المرح والبهجة والاستمتاع دون البحث عن المثالية في نتائج الأعمال الفنية. فقط الفن لسعادتك أنت وطفلك دون تقييم. فالفن مهارات تراكمية لا نهائية.

2. الارتباط بالطبيعة

على الطفل أن يرتبط بالطبيعة، فهي المعلّم الأول للجمال والتناسق والانسجام الطبيعي.

«الرسم هو كيف ترى Drawing is how to see» مقولة منسوبة للرسام ليوناردو دافنشي، ربما لم يقلْها بنفس الصيغة الواردة، ولكن هكذا كان يعلّمنا أساتذتنا في كلية الفنون الجميلة، عندما تتعلم كيف ترى الأشياء بتفاصيلها الكثيرة التي لا يمكن أن يلحظها إلا أنت، وقتها تستطيع ترجمة ما تراه إلى فن.

هناك بعض الأفكار لمحاولة الاستفادة أثناء جولات الطبيعة للطفل:

1. نشاط تحليل الأشكال الموجودة في الطبيعة وإرجاعها إلى أشكالها الهندسية المناسبة لها، الشمس والقمر كدائرة أبسط مثال. قد تكوّن أغصان الأشجار شكل قلب. أوراق النباتات التي قد تأخذ شكل المثلث، وغيرها من الأفكار. كما أن لعملية جمع بعض المقتنيات من خلال تمشية الطبيعة ووضعها على طاولة الطبيعة في حجرة الطفل يساعد كثيرًا في عملية التذكّر، وربما إعادة استخدام هذه العناصر في أعمال فنية لاحقة.

2. تحليل الألوان الموجودة بالطبيعة كالسماء وقت الغروب، ومقارنتها بلوحة للسماء وقت الظهيرة، وهكذا. ويفضل في هذا النشاط أن يصطحب الطفل أثناء جولته الطبيعية ألوانه المائية فقط: الأخضر، الأحمر، الأزرق، الأصفر، الأسود والأبيض، وباليته وماء وفرشة عريضة، وطبعًا أوراقًا ذات كثافة عالية لتحمل الماء لتكوين درجات الألوان المختلفة وعمل لوحات مختلفة. ويمكن مقارنة اللوحات في وقت لاحق. فهذا النشاط يقوّي كثيرًا من الحس اللوني لدى الطفل، ويدعم نظرية «كيف ترى».

3. يراقب الطفل الطيور التي تطير بعيدًا ويقارنها بحجم الحيوانات أو الطيور القريبة. وهذا درس هام جدًا يساعد على فهم مسألة الأبعاد والقريب والبعيد واختلاف ألوانهم وظلهم وأشكالهم.

3. الابتعاد عن تلوين الرسومات جاهزة الرسم

فهناك أمر هام جدًا على الطفل تعلمه عن الألوان والمساحات. في الطبيعة، لا يوجد إطار أسود يحيط بالأشكال، فقط مساحات لونية متراصة ومتداخلة تكون أشكالًا وظلالًا. وعليه، فعلينا أيضًا عدم الإفراط في استخدام الألوان التي تعطي خطوطًا وليست مساحات (وداعًا للألوان الفلوماستر).

4. التشكيل

التشكيل من أهم الأفكار التي تساعد الطفل على الإحساس بالكتل والأحجام وغيرها. وعليه، فلنحاول قدر المستطاع الابتعاد عن أدوات أو اسطمبات التشكيل الجاهزة، فهي تمنع الطفل من محاولة التجسيد والإحساس الحقيقي بالكتل المختلفة.

5. محاولة رسم المجسمات المختلفة

من عناصر موجودة فعلًا في المنزل فقط بالملاحظة مع إرشادات بسيطة، وهذا في السن الأكبر قليلًا من سن 7 سنوات مثلًا. وهذه تعتبر بداية لفن رسم الطبيعة الصامتة Still life. فيبدأ الطفل برسم أحد مكعباته، وبعد إتقان رسمه في مختلف مواقع المنظور المختلفة: مكعب من أعلى، من الأسفل، وفي مستوى النظر، نحاول إضافة مكعب آخر في محاولة للبدء برسم تكوينات أكثر تعقيدًا. كما يمكن رسم بعض العناصر التي نقوم بجمعها، وهذا كله باستخدام القلم الرصاص لكي يسمح للطفل بالمسح والتعديل.

6. ضع وقتًا خاصًا يوميًا للأعمال المهارية والفنية لطفلك

فهذا يقوي كثيرًا من ارتباطه بكل أنواع الفنون التشكيلية مثل الرسم والنحت بالتشكيل وغيرها، والفنون التطبيقية كذلك كصناعة الحلي البسيطة والأعمال اليدوية كالخياطة والحياكة بالتريكو والكروشيه.

7. نظرية الأجزاء المفككة Loose Parts

وهي نظرية أسّسها المعماري سيمون نيكولسون Simon Nicholson، وتعد هذه النظرية بداية ممتازة لتعلم مبادئ التصميم من خلال استخدام عناصر البيئة المحيطة بالطفل التي تثري وتقوي عملية الإبداع لديه. يمكن العمل بعناصر طبيعية مثل الأزهار وأغصان الأشجار والأخشاب والحصى والرمال وأوراق النباتات وغيرها ،كما يمكن أن نستخدم القطع المختلفة من الألعاب من خامات مصنعة كالبلاستيك أو غيرها.

الهدف هو ترك هذه العناصر للطفل لعمل تصميمات لانهائية من خلال التركيب والإضافة والاصطفاف والمزج بين أكثر من عنصر لخلق تكوين جديد تمامًا. هناك كثير من المنازل ذات الحدائق الصغيرة التابعة لها التي يحوّلها بعض الآباء لساحات إبداعية بإثرائها بعديد من العناصر الطبيعية التي تصلح لعمل تكوينات لا نهائية لتعزيز الابتكار عند أطفالهم. لا يهم أين تكون المساحة المخصصة، الأهم هو أن تكون بيئة إيجابية محفّزة تدعم عملية الإبداع والتصميم.

8. رسم الأشكال Form Drawing

وهي من الوحدات الدراسية المميزة التي تقدمها فلسفة والدورف Waldorf Education التعليمية التي تهتم بشكل كبير بالفنون والمهارات في مناهجها.

في هذه المادة نحاول تقديم الأشكال الهندسية من أبسطها لأكثرها تعقيدًا تمهيدًا للكتابة و أيضًا للرسم الهندسي. فأول دروسها هو رسم الخط المستقيم والخط المنحني، وقد وجد رودولف شتاينر Rudolf Steiner أن هذين الخطّيْن هما أساس كل الأشكال من حولنا.

تقدَّم هذه المادة عن طريق سرد حكاية بها ذكر لأنواع الخطوط المختلفة كالحديث عن طفل يسير في طريقه المستقيم، ورأى القمر هلالًا في السماء في طريقه لجده وجدته. وبعدها، يتم رسم الخطوط على أوراق الرسم باستخدام الألوان المائية أو الباستيل. تتطور الأشكال المقدمة من الخطوط المختلفة المستقيمة والمنحنية والمتعرجة وغيرها مرورًا بالأشكال مثل الدائرة والمربع وصولًا لأكثر الأشكال الهندسية تعقيدًا.

9. تقنية التلوين المبلل

هناك أيضًا تقنية مميزة في منهج والدورف التعليمي وهي تقنية التلوين المبلل على ورق مبلل Wet on Wet Water coloring، وهي أفضل تقنية يمكن أن نقدم بها عالم اللون للطفل. فحسب رودولف شتاينر، مؤسس فلسفة والدورف، فإن اللون هو روح الطبيعة، بل هو الكون بأكمله.

في تلك التقنية، نقوم ببل ورقة رسم ذات كثافة عالية لتحمل البلل من الألوان بطريقة معينة، ونأتي بأي ألوان مائية، الأساسي منها فقط: أحمر، أزرق، أصفر، وفرشاة مبطّطة Flat paintbrush. ويقوم المربّي أو أحد الوالديْن بحكي قصة أثناء التلوين.

في سن ما قبل المدرسة، يفضّل أن يلوّن الطفل بلون واحد فقط. وفي مرحلة الروضة، يمكن استخدام لونيْن.

تُحكى الحكاية بأداء صوتي متنوّع، حيث يؤثر هذا على حركة فرشاة الطفل وفق انفعالات الحكاية المختلفة. كحكاية الأرنب المختبئ في وسط مزارع الذرة، فيقوم الطفل بملء اللوحة باللون الأخضر، ووسط اللوحة يقوم الطفل ربما بمساعدة المربي أن يملأ الفرشاة فقط بالماء لعمل بقعة بيضاء وسط اللون الأخضر بما يمثل الأرنب مختبئًا.

يمكن استبدال الحكاية ببعض الموسيقى الكلاسيكية التي تحمل كثيرًا من النقلات الموسيقية التي يمكن أن تؤثر في تلوين الطفل وانفعالاته.

وتظهر اختلافات هذه الانفعالات في ضرباته المختلفة للفرشاة، وتتباين الدرجات لذات اللون الواحد، فهناك الأخضر الفاتح ذو الماء الكثيف، وهناك لون كثيف جدًا بماء قليل. هناك بقع لونية، وهناك خطوط لونية، وهكذا. تساهم هذه التقنية في تعزيز علاقة الطفل باللون بشكل كبير جدًا.

10. التركيز على فكرة النسب و الأبعاد وعلاقة الأشياء ببعضها

إذا أخذنا تطبيقًا على جسم الإنسان، فيمكن تقريب الأمر بالحديث عن الوجه وعلاقة نسبة الأذن بالوجه ككل. أين تقع العين والأنف وعلاقتهما. أشكال الوجوه المختلفة، فلا يهم أن يرسم الطفل العين كما هي قبل أن يعرف موضعها في وجه الإنسان وعلاقتها بالأذن.

11. زيارة المتاحف الفنية والمزارات الفنية المختلفة

فمشاهدة أعمال فنية مهمة ومميزة ترسّخ القيم الفنية المختلفة. مرة أخرى، «تعلّم كيف ترى». فمتابعة الأعمال الفنية التشكيلية المختلفة والتعرف على المدارس الفنية المختلفة، وخصائص كل منها، تنمّي ذائقة الطفل وقدرته على النقد والتحليل.

وقد أظهرت بعض الأبحاث التي أجريت على عدد من زوار المتاحف أنهم يتمتعون بقدر كبير من التسامح تجاه الآخرين والمجتمع ككل، كما أنهم سجّلوا مستويات أعلى من القدرة على التفكير النقدي من خلال إجراء اختبارات لهم بالرنين المغناطيسي على الدماغ بعد تعرّض المبحوثين لمواد بصرية مختلفة. إن مشاهدة الفنون البصرية قيمة مقدّرة كصناعة الفنون تمامًا، فالفن يُتلقّى أولًا، وبعدها يُنتج إن وجدت الموهبة والقدرة.

12. إثارة الخيال

هناك مقولة شهيرة لألبرت أينشتاين: «إذا أردت أن يصبح أبناؤك أذكياء، اقرأ لهم قصص الجنيّات. وإذا أردت أن يكون أبناؤك أكثر ذكاء، اقرأ لهم قصص جنيّات أكثر».

ليس المقصود بالطبع قصص الجنيات بالتحديد بل الاهتمام بالحكايات التي تثري الخيال. فالخيال هو زاد الطفل الصغير. حاول أن يرسم أطفالك القصص التي ترويها لهم، وأن يجسّدوا شخصياتها من خيالهم بخامات وأدوات مختلفة. قد تساعد صناعة أرضيات اللعب المختلفة في تمثيل هذه القصص من قبل الوالدين أو الطفل نفسه كترجمة حقيقية لما سمعه من قصصك. «فكل شيء يمكنك تخيله هو حقيقة» كما أكّد لنا بيكاسو. وكما كان يفعل فان جوخ، كان يحلم برسوماته ويرسم أحلامه.

13. احتفل بأعمال طفلك الفنية

بقدر من التشجيع دون مبالغة، وذلك بعمل ركن خاص بالأعمال الفنية للطفل واختيار ما يرى من الأعمال أنه يستحق العرض. وربما يقوم الطفل بوضع إمضاء مميز له على كل لوحة، على سبيل المثال أول حرف من اسمه يكتب بطريقته الخاصة.

الفن ليس حكرًا على الموهوبين، بل هو حق لكل طفل. فتنمية ذوق الطفل ورهافة حواسه هدف سامٍ جدًا يجب علينا أن نسعى له. ليس شرطًا على كل الأطفال أن يكونوا فنانين، بل واجبنا أن نربي أطفالًا ذائقتهم الفنية سليمة ولديهم قدر كافٍ من الحس الفني والنقدي الذي يمكّن الطفل من التعامل مع الفن فيما بعد. «كل طفل بداخله فنان، المشكلة هي كيف يمكن أن نُبقي على هذا الفنان عندما يكبر»، هكذا أخبرنا بابلو بيكاسو!