تعد انتفاضة 15 خرداد التجربة العملية للثورة الإيرانية التي نجحت عام 1979 في إقامة جمهورية يحكمها رجال الدين حتى اليوم، وكذلك يمكن اعتبار انتفاضة خرداد من توابع زلزال «الثورة البيضاء»، وهو مشروع تبناه الشاه محمد رضا بهلوي تضمن إحداث تغييرات اجتماعية واقتصادية تصادمت بسببها الدولة مع رجال الدين والإقطاعيين.

ففي بداية كانون الثاني/يناير 1963، أعلن شاه إيران ما سماه «الثورة البيضاء»، التي كانت تتكون من مجموعة إصلاحات كبيرة تشمل نواحي اقتصادية واجتماعية وسياسية تضمنت منح المرأة حق التصويت وإشراك العمال في أرباح المصانع والخصخصة وتأميم الغابات، وقوانين الإصلاح الزراعي وفق مبدأ الأرض لمن يزرعها، وطُرحت هذه الحزمة للاستفتاء الشعبي في 26 من ذلك الشهر، فعارضها رجال الدين بقوة.

وقد استفاض الكاتب الصحفي الإيراني، باقر معين، في كتابه «الخميني: حياة آية الله» (Khomeini: Life of the Ayatollah الصادر باللغة الإنجليزية عام 1999)، في الحديث عن مقدمات وأحداث انتفاضة خرداد عام 1963، ومع أن الكاتب معروف بميله لجانب الثورة الإيرانية إلا أنه يعرض بالتفصيل السرديات المعتمدة من قِبَل صانعي هذه الأحداث، لذا يكتسب كتابه أهمية كبيرة.

ويذكر الكتاب أن رجال الدين بخاصة روح الله الخميني أعلنوا الحداد وقرروا مقاطعة احتفالات رأس السنة الإيرانية المعروفة بعيد النيروز في 21 آذار / مارس، وهو أهم عطلة في التقويم الإيراني، وأصدر الخميني بيانًا بعنوان «رجال الدين لا يحتفلون هذا العام»، واتهم «النظام الاستبدادي» بـ«انتهاك حرمة الشريعة الإسلامية» وقال إنه كان على وشك «انتهاك تعاليم القرآن وشرف المسلمين» من خلال تجنيد فتيات يبلغن من العمر ثمانية عشر عامًا، ورغم أنه لم يكن لدى الشاه مثل هذه الخطط، ونفيه بشدة لهذا الاتهام، ولكن في مثل هذا الجو المشحون للغاية، لم يكن هناك سوى القليل من المستعدين لتصديقه، وذاع تصريح الخميني إلى أبعد مناطق إيران، ودعم رجال الدين البارزين دعوته للتخلي عن احتفالات رأس السنة الجديدة.

حادثة «الفيضية»

في 22 مارس/آذار 1963، وقعت حادثة مدرسة الفيضيّة، حيث هاجم الأمن الإيراني المدرسة وأمسك أحد المهاجمين بالميكروفون وامتدح الشاه في وجود المرجع الشيعي، كلبايكاني، فاشتبك طلاب الحوزة الدينية مع عناصر الأمن الذين يتخفون في ملابس مدنية، وصعد الطلبة إلى سطح المبنى، وبدأوا يمطرون الحرس الإمبراطوري ورجال الأمن بالحجارة وأي شيء آخر يمكن أن يضعوا أيديهم عليه، وكان هذا الهجوم المضاد فعالاً وتراجع المهاجمون مؤقتًا، وجاء عدد آخر من الطلاب للدفاع عن المدرسة الفيضية.

ولقي أحد عناصر الأمن مصرعه بسبب إلقاء الحجارة، فأعادت القوات تنظيم صفوفها وأطلقت النار على الطلبة وتم إلقاء بعضهم من أعلى السطح فماتوا، وأصيب البعض بجروح خطيرة، وانطلقت قوات الأمن في حالة من الهياج، فحطموا كل ما استطاعوا وضع أيديهم عليه، واقتحموا غرف المدرسة ونهبوها، وجمعوا ما وجدوه من العمائم والعباءات وأضرموا النار فيها، بينما تم إخفاء كلبايكاني ومرافقيه في إحدى الغرف.

ومع سريان إشاعات عن التخطيط لهجوم آخر على منزل الخميني، قرر الأخير التوجه إلى الفيضية فحاول من حوله منعه فرفض، وتكررت المناشدات حتى تراجع في النهاية.

وبدأت القصص تنتشر في المدينة أن الحرس الإمبراطوري أشعلوا النار في القرآن الكريم وحكايات أخرى عن الفظائع التي ارتكبوها، بينما صوّر رئيس الوزراء حادثة الفيضية على أنها اشتباك بين الفلاحين أنصار الإصلاح الزراعي ورجال الدين المعارضين للإصلاحات، وصورتهم الصحف على أنهم رجعيون ونصحتهم بالابتعاد عن السياسة.

أصبحت جدران مدينة قم مسرحًا لحرب كلامية بين الطرفين فانتشرت كتابات وشعارات معادية للشاه كما ظهرت ملصقات يُزعم أنها تابعة للمنظمة النسائية بقيادة شقيقة الشاه ، الأميرة أشرف الملوك، تهاجم الخميني، وظهرت ملصقات مناهضة لرجال الدين أيضًا منسوبة الجبهة الوطنية، إلا أن الجبهة تبرأت منها واتهمت الشرطة بتلفيق الموضوع لدق إسفين بين قوى المعارضة الدينية والعلمانية.

أخذ الخميني في توسيع نطاق معارضته وإثارة قضايا جديدة؛ فرفض السماح للمرأة بأن تصبح قاضية، وإعطاء معاملة تفضيلية للطائفة البهائية باعتبارهم عملاء لإسرائيل، وبدأ يرى نفسه «ممثلاً للشعب» ومتحدثًا باسمه، وأصبحت عبارة «مجد إيران» مثلًا من المفردات السياسية الجديدة التي دخلت إلى قاموس مصطلحات رجال الدين، وزادت جاذبية الخميني بين النشطاء السياسيين العلمانيين.

ومع نمو مكانته انتشرت الحكايات الشعبية التي تتحدث عن بطولاته ومواقف تحد بينه وبين الشاه شخصيًا، وتداول الناس أمثال تلك القصص على نطاق واسع وصدقوها، ومن أشهر تلك الحكايات أن الشاه محمد رضا بهلوي أرسل رسالة إلى الخميني يهدده بأنه إذا استمر في سلوكه فسوف يرتدي حذاء والده ويأتي إليه، فرد عليه الخميني: «حذاء والدك كبير جدًا على قدميك»، وهكذا.

وأرسل الشاه رسالة إلى الخميني عن طريق آية الله شريعتمداري، مفادها أنه سيتلقى دعوة من آية الله الحكيم يدعوه فيها للقدوم عليه في النجف بالعراق، وأن الحكومة الإيرانية ستسهل له رحلته إن قبل الدعوة، وتتوعده بالويل والثبور إن قرر البقاء وإثارة الاضطرابات بعد ذلك، وكانت هجرة رجال الدين من مدينة قُم إلى النجف تقليدًا شيعيًا معروفًا حيث كان علماء المذهب يلجأون إليه عند تعرضهم لضغوط في إيران ورغبتهم في إثارة قضايا سياسية.

واجتمع الخميني مع رجال الدين الآخرين لمناقشة الاقتراح واتفقوا على رفضه، ورد الخميني على الحكيم قائلا: «إذا هاجرنا فإن المركز الإسلامي العظيم في قم سوف يلقى في هاوية الكفر والإلحاد».

شرع الشاه في مشروع آخر نجح فيه لفترة قصيرة لتخويف رجال الدين، لا سيما الشباب منهم؛ ففي النصف الأول من أبريل/نيسان 1963، أمر بتجنيد طلبة الحوزة الدينية، الذين كانوا حتى ذلك الحين معفيين من الخدمة العسكرية، وتمت اقتيادهم من الشوارع بالقوة، وإرسال عديد منهم إلى الثكنات حتى دون إعطاء الوقت لإبلاغ زوجاتهم أو أولياء أمورهم، واقتيد المئات في شاحنات وجردوا من ملابسهم الدينية وارتدوا الزي العسكري، وبدأ المجندون الجدد بالتجمع للصلاة وتشجيع الجنود الذين لم يجرؤوا من قبل على إظهار مشاعرهم الدينية على الانضمام إليهم في المراسم الدينية.

وعلى الرغم من أن آيات الله المعتدلين رفضوا ما وقع في الفيضية لكن بعضهم حاول تهدئة الأوضاع وإقناع الشاه بالتخلي عن حملته بهدوء، فشن الخميني هجومًا عليهم قائلًا: «ويل لهذه النجف الصامتة، ويل لقُم الصامتة!» وذاعت هذه الجملة وسط النشطاء الشباب الأكثر تشددًا، في حين واصلت أبواق السلطة اتهاماتها للخميني ومنها الزعم بأنه على اتصال بالحكومة المصرية ويتلقى الأموال من الرئيس جمال عبد الناصر الذي كان على عداء مع الشاه.

أحداث شهر المحرم

يعد شهر المحرم الموسم الديني السنوي الأبرز لدى الشيعة وتصل المشاعر ذروتها في اليوم العاشر منه، عاشوراء، الذي قُتل فيه الحسين بن علي، رضي الله عنه، على أيدي جيش الحاكم الأموي، يزيد بن معاوية، وتحمل هذه الأحداث رمزية سياسية تتغير بتغير الأحداث ففي كل صراع بين الحاكم الظالم والشعب يستحضر الناس قصة الحسين، وقد ركزت الدعاية الدينية على استحضار أوجه التشابه بين أحداث الفيضية ومعركة كربلاء مع ضخ شحنات عاطفية مؤثرة.

ومع اقتراب شهر المحرم عام 1963 خشي النظام من استغلال هذه المناسبة لمهاجمة الثورة البيضاء، فطلبت السلطات من أمناء المساجد والهيئات الدينية التعاون لمنع استخدام الخطب الدينية لأغراض سياسية، لكن الخميني رفض تفويت الفرصة وتضييع الحماس الشيعي دون الاستفادة منه في قضيته، فأصدر بيانًا طالب فيه الخطباء بـ«تجاهل توجيهات الشرطة ومواصلة مناقشة الاستبداد والتهديدات ضد الإسلام» و«ذكر خطر إسرائيل وعملائها»، وقال: «الصمت في هذه الأيام يعني دعم النظام المستبد وأعداء الإسلام»، ولقيت كلماته استجابة واسعة.

وفي كل ليلة من الليالي العشر من 24 مايو/آيار إلى 2 يونيو/حزيران، تنقل الخميني بين مساجد مختلفة، لكن ذروة حملته كانت في خطبة عاشوراء في 3 يونيو/حزيران، وتم توجيه تحذيرات مباشرة له، لكنه ألقى خطبة مهينة للشاه واتهمه بالتبعية والخضوع لأعداء الأمة.

الانتفاضة

بعد خطبة الخميني تحولت مواكب عاشوراء إلى مواكب احتجاجية، وتم اعتقال الخميني من منزله لتشتعل مدينة قم الدينية بالاحتجاجات الدموية الغاضبة في 15 خرداد بالتقويم الهجري الشمسي، الموافق 5 يونيو/حزيران، وانتقلت المظاهرات إلى العاصمة.

حاولت السلطات تجنب الصدام المباشر مع الحوزة الدينية في وقت فوران المشاعر الدينية فحينها كان الشاه سيضع نفسه فورًا في صف يزيد أمام أعين العامة، فلجأت السلطة إلى مجموعات البلطجية وقادة العصابات في جنوب طهران، وفي المقابل تلقى رجال الدين دعمًا من رجال عصابات آخرين لهم موقف سلبي من النظام.

وهاجم المحتجون مراكز الشرطة في طهران ومكاتب جهاز السافاك الأمني، وعددًا من المباني الحكومية في وسط المدينة، بما في ذلك وزارتي العدل والداخلية والإعلام، واستطاعت الحكومة قمع التظاهرات دون تدخل الجيش، وتم شن حملة اعتقالات واسعة وسط المحتجين.

وكانت تلك التظاهرات، التي مات فيها المئات من المتظاهرين، تجربة عملية للخميني تم فيها اختبار أفكاره وتأثيرها على الجماهير، ولجأ إلى استخدام هذا الأسلوب بطريقة أقوى بين عامي 1977 و1979، حيث نجح في إسقاط الحكم الملكي واستبداله بحكم رجال الدين.