تعرضت الآثار الإسلامية في مختلف العصور إلى العديد من محاولات السطو ومحو أسماء منشئيها الأصليين، خصوصًا أن هذه الظاهرة تضرب بجذورها إلى عصور موغلة في القدم، في هذا المقال نسلط الضوء على أبرز منشآت الخلفاء والسلاطين الذين تعرضت أسماؤهم المنقوشة على الآثار الإسلامية للمحو والسطو من قبل الحكام ذوي النفوذ والغلبة، الذين قضوا على خصومهم وحرصوا على محو أسماء منافسيهم المنقوشة على عمائرهم التي شيدوها وطمس أي ذكر لهم.

ولا شك أن المحرك الأساسي وراء هذه الظاهرة كانت الصراعات والخلافات السياسية أو المذهبية على السلطة أو نتيجة خلاف دب بين الحكام وكبار رجال دولتهم، أو إهمال أصاب بعض المنشآت؛ مما حدا ببعض الحكام للسطو على ممتلكات غيرهم ممن سبقوهم ومحو أسمائهم.

العباسيون ومحو ذكر خلفاء بني أمية

تمكن العباسيون من القضاء على دولة بني أمية وإسقاطها عام (132هـ / 749م)، وتروي العديد من المصادر التاريخية عن نزعة العباسيين في الانتقام من بني أمية، فأخذوا في تعقبهم واستئصال شأفتهم عبر هدم قصورهم وعمائرهم ومحو آثارهم، بل قاموا بنبش قبورهم لطمس أي ذكر لهم.

ومن بين حوادث السطو ومحو أسماء الخلفاء على الآثار الإسلامية، تلك التي يرويها المؤرخ المقريزي عن قيام الخليفة محمد المهدي بمحو اسم الخليفة الوليد بن عبد الملك بن مروان من نقوش المسجد النبوي الشريف بالمدينة المنورة.

حيث قام الوليد بن عبد الملك بعمارة الجامع النبوي وتوسعته على يد واليه على المدينة المنورة عمر بن عبد العزيز – خليفة فيما بعد – وذلك فيما بين عامي (88 – 91هـ / 706 – 709م)، وعندما آلت مقاليد الأمور إلى العباسيين شرع الخليفة محمد المهدي فيما بين عامي (162 – 165هـ / 778 – 781م) بإجراء عمارة أخرى على المسجد الشريف، فوجد اسم الخليفة الوليد بن عبد الملك منقوشًا بالفسيفساء على جميع جدران المسجد، فأمر الخليفة المهدي بمحو اسم الوليد من جميع نقوش المسجد على الفور ونقش اسمه بدلًا عنه. (المقريزي : الذهب المسبوك – ص 46).

ثم ننتقل إلى حادثة سطو ومحو أخرى تُصنَّف على أنها الأقدم والأشهر ضمن أعمال السطو ومحو أسماء الخلفاء على الآثار الباقية، وهي قيام الخليفة عبد الله المأمون بمحو اسم الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان المنقوش على قبة الصخرة المباركة بمدينة القدس الشريف.

حيث بدأ الخليفة عبد الملك بن مروان بعمارة قبة الصخرة عام (65هـ / 684م) وكان تمام بنائها عام (72هـ / 691م)، وأشرف على عملية البناء كلٌّ من رجاء بن حيوة الكندي ويزيد بن سلام.

وفي عام (216هـ / 831م) أجرى الخليفة المأمون إصلاحات على قبة الصخرة، ثم قام بمحو اسم الخليفة عبد الملك بن مروان من نقش قبة الصخرة وإحلال اسمه محله، لكن النقاش غفل عن تغيير تاريخ الفراغ من بناء القبة المنقوشة بالفسيفساء عام (72هـ / 691م) والتي لا تقع في خلافة المأمون (198 – 218هـ / 813 – 833م)؛ مما أدى إلى عدم تجانس الشريط الكتابي، لا سيما لون الفسيفساء، فضلًا عن كتابة اسم المأمون بخط ضيق يختلف من حيث الأسلوب مع باقي الخط المنفذ به سائر الشريط الكتابي بالقبة. (محمد حمزة الحداد : النقوش الآثارية – ص 108 – 109)

أحمد بن طولون يسطو على مقياس النيل

شرع الخليفة المتوكل على الله ببناء مقياس النيل في جزيرة الروضة بمدينة القاهرة عام (247هـ / 861م) لقياس منسوب مياه نهر النيل وتنظيم مواسم الزراعة والري بالبلاد، وما يترتب عليه من تحصيل الضرائب، كما كانت تقام احتفالات وفاء النيل إذا بلغ مقدار الزيادة 16 ذراعًا، وإن قل عن ذلك أصاب الناس الخوف والهلع جراء القحط والجفاف وما ينجم عنه من غلاء وارتفاع في الأسعار.

أمر أحمد بن طولون والي مصر المناوئ للخليفة العباسي آنذاك بإجراء إصلاحات على مقياس النيل عام (259هـ / 872م)، وعلى الفور قام بإزالة اسم الخليفة المتوكل على الله من نقوش المقياس بالحائط الغربي الذي تمكن من قراءته وتوثيقه المؤرخ ابن خلكان قبل طمسه، وحلَّ محله بعض آيات القرآن الكريم ثم اختتم نقش المقياس بالصلاة على النبي – صلى الله عليه وسلم – ويُلاحظ في كلا النقشين مدى الاختلاف من ناحية الأسلوب بين النقش العباسي والنقش الطولوني، فالثاني أقل جودة من النقش الأول ويشبه نقوش الجامع الطولوني بمدينة القاهرة. (الحداد : النقوش الآثارية – ص 111 – 112)

استيلاء السلطان الناصر محمد بن قلاوون على آثار مناوئيه

اتسم عصر السلطان الناصر محمد بن قلاوون بتقلبات كثيرة أدت إلى خلعه عن عرش سلطنة المماليك بمدينة القاهرة أكثر من مرة، لكن في المرة الأخيرة أرسى دعائم دولته وازدهر العمران بمدينة القاهرة بشكل كبير عقب تخلصه من جميع منافسيه على السلطة.

ففي عام (690هـ / 1290م) تمكن السلطان الأشرف خليل بن قلاوون من فتح مدينة عكا، ثم قام بنقل بابٍ رخامي مُصمَّم على الطراز القوطي كان على كنيسة القديس يوحنا بالمدينة إلى مدينة القاهرة.

وفي عهد السلطان العادل زين الدين كتبغا أدخل هذا الباب الرخامي في مدرسته التي شيدها بخط النحاسين (شارع المعز لدين الله حاليًّا) في حي الجمالية بمدينة القاهرة، حيث وصف المقريزي المدرسة بأنها : «من أجل مباني القاهرة»، كما يصف بابها الرخامي المنقول من مدينة عكا بأنه : «من أعجب ما عملته أيدي بني آدم، فإنه من قطعة واحدة من الرخام الأبيض البديع الزي الفائق الصناعة ….». (المقريزي : الخطط – جـ 4 – ص 528)

فلما تسلطن الناصر محمد بن قلاوون للمرة الثانية عام (698هـ / 1298م) عقب خلع السلطان العادل زين الدين كتبغا، قام على الفور بمحو اسم كتبغا من شريط الطراز الباقي بواجهة المدرسة، وحلَّ محله اسم وألقاب السلطان الناصر محمد: «مولانا السلطان الملك الناصر ناصر الدنيا والدين أبو المعالي …»، دون أن يقوم بتغيير تاريخ بناء المدرسة الواقع في سلطنة العادل زين الدين كتبغا عام (695هـ / 1295م).

لكن المقريزي ذكر أن السلطان الناصر محمد اشترى هذه المدرسة قبل تمامها والإشهاد بوقفها من قِبل وصيِّه قاضي القضاة زين الدي علي بن مخلوف المالكي (الخطط – جـ 4 – ص 529)، لكن الدراسات والأبحاث أثبتت استيلاء السلطان الناصر محمد على هذه المدرسة، وذلك وفقًا للدليل المادي المنقوش بشريط الطراز أعلى المدرسة. (حسن عبد الوهاب : الآثار المنقولة والمنتحلة – ص 250)

وفي عام (706هـ / 1309م) شرع السلطان بيبرس الجاشنكير (أي متذوق طعام السلطان) ببناء خانقاه في حي الجمالية بمدينة القاهرة، وكان الفراغ منها عام (709هـ / 1309م) وقرر بها أربعمائة صوفي، وصفها المقريزي بأنها : «أجل خانقاه بالقاهرة وأوسعها مِقدارًا وأتقنها صنعة» ويردف أيضًا أنه: «لم تبنَ خانقاه أحسن من بنائها». (الخطط – جـ 4 – ص 732)

وعقب خلع السلطان بيبرس الجاشكنير، اعتلى السلطان الناصر محمد بن قلاوون العرش للمرة الثالثة والأخيرة عام (709هـ / 1309م) ثم أمر بالقبض على بيبرس الجاشنكير وقتله وغلق الخانقاه بعد أن استولى عليها وعلى سائر أوقافها، ولم يكتفِ بذلك، بل قام بمحو اسمه من الطراز – أي الشريط الكتابي – الذي بظاهرها فوق الشبابيك، وظلت الخانقاه معطلة نحو عشرين عامًا، حتى أمر الناصر محمد بن قلاوون بإعادة فتحها عام (721هـ / 1321م). (الخطط – جـ 4 – ص 740)، لكن فات على الناصر محمد تغيير اسم السلطان بيبرس الجاشنكير وألقابه المنقوشة على باب الخانقاه الخشبي المصفح، وهو ما تم الكشف عنه مؤخرًا.

السلطان ابن برقوق يستولي على أوقاف الأستادار

أنشأ الوزير جمال الدين يوسف الأستادار مدرسته في حي الجمالية بمدينة القاهرة عام (811هـ / 1408م)، لكن تغير حال السلطان الناصر فرج بن برقوق على وزيره فقبض عليه عام (812هـ / 1409م) ثم احتاط على ماله، ثم عزم على هدم هذه المدرسة والسطو على أوقافها الكثيرة والاستيلاء على رخامها، لكن كاتب السر أثنى السلطان عن ذلك وأخذ يُرغِّبه في الإبقاء عليها، وأن يقوم السلطان بإزالة اسم جمال الدين الأستادار وينقش اسمه لتنسب إليه. (الخطط – جـ 4 – ص 647)

السطو على باب مدرسة السلطان حسن

شرع السلطان المؤيد شيخ المحمودي ببناء مجمع معماري كبير بجوار باب زويلة بمدينة القاهرة يضم جامعًا ومدرسة وحمامًا وخزانة للكتب وقبتي مدفن، إحداهما للرجال مسقوفة بقبة والأخرى للنساء، حيث شرع السلطان في البناء عام (818هـ / 1415م) وكان الفراغ منها عام (822هـ / 1419م)، وتتميز المدرسة بمئذنتين شُيِّدتا على بدنتي باب زويلة، أما المئذنة الثالثة فقد اندثرت.

ويصف المقريزي هذا البناء بأنه: «الجامع الجامع لمحاسن البنيان، الشاهد بفخامة أركانه وضخامة بنيانه …». (الخطط – جـ 4 – ص 338).

وفي تلك الأثناء همَّ السلطان المؤيد شيخ بالاستيلاء على باب مدرسة السلطان حسن الخشبي البالغ ارتفاعه 6 أمتار المصفح بالنحاس والمكفت بالذهب ونقله إلى مدرسته، حيث يعد هذا الباب الخشبي المصفح من أجمل وأفخم وأكبر التحف الخشبية التي صُنعت في العصر المملوكي آنذاك، بل أدقها صنعًا، لكن فات على السلطان المؤيد شيخ تغيير اسم السلطان الناصر حسن وألقابه المنقوشة على هذا الباب وتاريخ الصنع أو عمارة المدرسة عام (764هـ / 1363م).

حيث صرح بعض الباحثين أن المؤيد شيخ أخَذَ باب المدرسة مقابل وقف على المدرسة بإحدى مدن القليوبية. (حسن عبد الوهاب : تاريخ المساجد الاثارية – ص 210) (سعاد ماهر : مساجد مصر – جـ 4 – ص 99)، لكن المقريزي يقرُّ بأن السلطان المؤيد شيخ اشترى الباب والتنور النحاس المكفت بمدرسة السلطان حسن بـ 500 دينار، ويردف قائلًا: «وكان الملك الظاهر برقوق قد سد باب المدرسة وقطع البسطة التي كانت قدامه فبقى مصراعا – أي ضلفتا – الباب والسد من ورائهما حتى نُقلا مع التنور الذي كان معلقًا هناك». (الخطط – جـ 4 – ص 342).

المراجع
  1. المقريزي، تقي الدين أحمد بن علي (ت: 845هـ / 1441م) : الذهب المسبوك في ذكر من حج من الخلفاء والملوك – تحقيق : جمال الدين الشيال – القاهرة – 1955م.
  2. نفس المؤلف : المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار – الجزء الرابع – تحقيق : أيمن فؤاد سيد – لندن – 1995م.
  3. حسن عبد الوهاب : تاريخ المساجد الأثرية – الجزء الأول – الطبعة الأولى – القاهرة – 1946م.
  4. نفس المؤلف : الآثار المنقولة والمنتحلة في العمارة الإسلامية – محاضرة ألقيت بالمجمع العلمي – العدد 38 – القاهرة – أبريل 1956م.
  5. سعاد ماهر : مساجد مصر وأولياؤها الصالحون – الجزء الرابع – المجلس الأعلى للشئون الإسلامية – وزارة الأوقاف – القاهرة – 1976م.
  6. محمد حمزة إسماعيل الحداد : النقوش الآثارية مصدراً للتاريخ الإسلامي والحضارة الإسلامية – المجلد الأول – الطبعة الاولى – القاهرة – 2002م.