خمسون عاماً وما زالت تحفة ستانلي كوبريك البصرية «2001: A Space Odyssey» صامدة كأحد أهم الأفلام السينمائية في التاريخ، حسب مكتبة الكونجرس، والتي اختارت الفيلم في السجل الوطني الأمريكي للأفلام، كذلك حسب أكاديمية علوم السينما الأمريكية التي صنَّفت الفيلم -الحائز على جائزة أوسكار أفضل مؤثرات بصرية- كأهم وأبرز فيلم في فئة أفلام الخيال العلمي.

كوبريك الذي يعد واحداً من أهم المخرجين في تاريخ صناعة السينما، استطاع في ملحمته الفضائية أن يقفز بالزمن ويقدم ما قد عُدَّ نقلة نوعية وإنجازاً غير مسبوق في فنون الصور السينمائية والمؤثرات الخاصة والتمرد على أنماط السرد في الأفلام. إنجاز فتح الباب للعديد من السينمائيين من بعده، فيكفي أن تعرف أن هذا الفيلم كان سبباً في تغيُّر النظرة لأفلام الخيال العلمي، وكان سبباً في ظهور أفلام مثل السلسلة الأشهر Star Wars، وإلهام مخرجين أمثال «جورج لوكاس» و«ستيفن سبيلبيرج»، مما يجعله إنجازاً يستحق أن نقف أمامه بالنقد والتحليل.

كيف تسبق الزمن من كرسي المخرج؟

قد يرى البعض أن «2001: A Space Odyssey» فيلم عن التطور البشري أو عن التكنولوجيا واستخدامها من قبل الإنسان أو حتى عن الدين، وقد يطرح كثيرون تفسيرات عديدة لقصة ومقاصد الفيلم، والحقيقة أن الفيلم المأخوذ عن قصة كاتب الخيال العلمي «آرثر سي كلارك» إحدى ميزاته العديدة أنه يحتمل كل الآراء والتفسيرات. فالعمل الفني عموماً والعمل السينمائي خصوصاً يختلف تفسيره حسب اختلاف المتلقي، وملحمة الفضاء هو خير مثال على ذلك، خمسة عقود من الآراء المختلفة والتفسيرات العديدة مر بها الفيلم وما زال التوهج مستمراً مع كل مُشاهِد جديد يكتشف الفيلم للمرة الأولى.

إن كنت مشاهداً جديداً يكتشف الفيلم للمرة الأولى وتشاهده في العام 2020، فربما ستجد صعوبة في تصديق أن ما تراه أمامك قد مرَّ على إنتاجه أكثر من خمسين عاماً بالتمام والكمال. بالتأكيد ستسأل نفسك كيف استطاع ستانلي كوبريك أن يتوقع المستقبل بكل هذه الدقة المتناهية، هل كان يعلم بأجهزة الكمبيوتر اللوحية والاتصال بتقنية الفيديو والذكاء الاصطناعي والعديد من الأشياء التي نستخدمها بسهولة في يومنا هذا.

الإجابة ببساطة أن هذا هو الخيال السينمائي. يقول المخرج السينمائي الشهير «كريستوفر نولان» إن سبب تعلقه بالسينما هو أن والده قد أخذه وهو في عمر سبع السنوات لمشاهدة فيلم «2001: A Space Odyssey»، عندها علم نولان أن الأفلام يمكن أن تكون ما نريد مهما كان، يمكن أن تكون أي شيء وكل شيء.

علامة فارقة

إذن ما الذي يجعل الفيلم تحفة بصرية وعلامة فارقة في تاريخ صناعة الأفلام عموماً وأفلام الخيال العلمي خصوصاً؟

الفيلم الصادر عام 1968 رُشِّح لأربع جوائز أوسكار (أفضل سيناريو وأفضل مخرج وأفضل ديكور وأفضل مؤثرات بصرية) وقد فاز بالجائزة عن الفئة الأخيرة. كوبريك الذي اختار أن يصوِّر فيلمه بالكامل في بريطانيا لتوافر إمكانيات أفضل من الموجودة في الولايات المتحدة وقتها، خاصةً في الجانب الخاص بالصوت، استخدم في ملحمته الفضائية أنماطاً وأساليب تصوير جديدة وغير مسبوقة في وقتها، ومؤثرات خاصة أصلية مُبتكرة للغاية، في عصر ما قبل المؤثرات الخاصة المصنوعة بالكمبيوتر والتكنولوجيا السينمائية، مؤثرات اُستخدمت فيما بعد في العديد من الأفلام، وأفلام الخيال العلمي خاصةً.

كوبريك كان متمرداً على أساليب السرد السينمائي المعتادة، فالفيلم المأخوذ عن رواية «الحارس» لم يعطِ اهتمامه الأكبر للحوار بين شخصياته الرئيسية ولا لخلفيات وأصول كل شخصية، حيث رأى ستانلي كوبريك أن تكون رواية «آرثر سي كلارك» هي السرد التقليدي ويكون الفيلم سرداً بصرياً يعتمد على الإبهار في الصورة والتقنية، مُعتمداً على الرمزية في العديد من مشاهده.

ربما لم يكن معتاداً أن تسمع الكلمة الأولى في حوار الفيلم بعد مرور 20 دقيقة من بدايته، لكن الرؤية الإخراجية لكوبريك أعطت اهتماماً بالغاً للصورة حتى إن كان على حساب الحوار، وهو ما أثبت نجاحه بعد ذلك، ليخرج الفيلم كتجربة بصرية مذهلة ورحلة فضائية غير مسبوقة وغير معتادة على شاشات السينما.

تميز الفيلم لم يقتصر على الصورة فقط، المؤثرات الصوتية أيضاً والموسيقى الخاصة بالفيلم كان لهما نصيبهما من التميز والإتقان. اختار ستانلي كوبريك أن تكون تجربته الفضائية مُقترنة بالموسيقى الكلاسيكية، فالمُشاهد يبدأ الفيلم على لقطات في الفضاء الخارجي مصحوبة بموسيقى «هكذا تكلم زرادشت» لـ «ريتشارد شتروس»، مع تعمد أن تظهر سفن الفضاء في بعض اللقطات كما لو كانت ترقص في إيقاع منتظم مع الموسيقى، وهو ما ضَمَن تجربة سمعية ما زالت مميزة رغم مرور نصف قرن. كذلك تعمَّد كوبريك أن يتخلل الفيلم دقائق من الصمت بين مشاهده، صمت يتماشى مع طبيعة الفضاء والسكون فيه وطبيعة الإيقاع البطيء نسبياً للفيلم والذي قد يعتبره البعض عيباً من عيوب الفيلم، لكن كما ذكرنا سابقاً الفيلم يتمرد على أساليب السرد السينمائي التقليدية المعتادة، ويحتاج من المشاهِد مزيداً من الصبر في المتابعة والتركيز الكبير على التفاصيل.

على صعيد التمثيل نستطيع أن نلاحظ أن الفيلم لا يشهد أي أداء تمثيلي غير اعتيادي أو مُبهر، فالصورة كانت هي البطل الرئيسي، وربما يكون الأداء الأبرز على الإطلاق من نصيب «دوجلاس راين»، وهو أداء صوتي فقط، حيث أدَّى الصوت لشخصية الكمبيوتر «هال 9000»، فاستطاع راين بصوته أن يعكس تحولات الشخصية وجانب الشر الممزوج برعب نفسي بشكل ممتاز ومُقنع للغاية.

يمكن أيضاً أن نذكر المونتاج كأحد نقاط قوة وتمييز «2001: A Space Odyssey»، فالفيلم الذي يتتبع رحلة جسم فضائي غريب عبر أربعة فصول رئيسية؛ في فصله الأول «فجر الإنسانية» يروي كوبريك عبر مشاهد بديعة قصة بداية الإنسان وتطوره واكتشاف الأدوات والتحول من الخير إلى الشر وارتكاب الجريمة الأولى عندما استطاعت مجموعة من القرود التوصل لأن العظام يمكن استخدامها كسلاح، وينتهي الفصل الأول بما يمكن عده واحداً من أفضل مشاهد التحول السينمائي في تاريخ صناعة الأفلام، حيث يتم القطع والتحول من قطعة من العظام ألقاها أحد القرود طائرة في الهواء إلى أن نجد نفسنا في المشهد التالي أمام قمر اصطناعي طائر في الفضاء الخارجي. مشهد واحد في خلال أقل من ثوانٍ معدودة اختصر فيه كوبريك بعبقرية إخراجية ومونتاجية آلاف السنين من التطور البشري والإنساني، مشهد كعادة الفيلم غارق في الرمزية ويحتمل العديد والعديد من التفسيرات.

نصف قرن من الجدل السينمائي

بالتأكيد ربما يمكن وصف «2001: A Space Odyssey» بأنه واحد من أكثر الأفلام جدلاً في التاريخ السينمائي، بعد مرور أكثر من خمسين عاماً على الفيلم ما زلنا نرى تفسيرات عديدة للفيلم المقدم في أربعة فصول، خاصة تفسيرات فصل النهاية الأكثر غرابة والرمزي للغاية والذي يحتمل أكثر من تفسير، لكن المؤكد أن هذا ما كان يسعى له ستانلي كوبريك من البداية.

فالمخرج المتوفى في 7 مارس/أذار عام 1999 أكد مراراً وتكراراً أنه كان يريد ويسعى لأن يخرج فيلمه فلسفياً، يتحدى وعي المشاهد وعقل ه، ويُحفِّزه على التفكير العميق في مقاصد وأهداف الفيلم وقصته، حيث رفض كوبريك كثيراً تفسير أي شيء في فيلمه قائلاً عبارته الشهيرة:

هل كنَّا سنُقدِّر الموناليزا اليوم لو أن ليوناردو دافنشي كتب أسفل اللوحة هذة السيدة تبتسم بخجل لأن أسنانها مسوسة، أو قال لأنها تخفي سراً عن حبيبها؟! كان هذا سيُبطل تقدير المُتفرج ويحصره في واقع محدد غير واقعه، ولم أرد أن يحصل ذلك مع فيلمي «2001: A Space Odyssey» أيضاً، فيلم يصل عميقاً في وعي المتفرج ويلامسه داخلياً عوضاً عن تقديم تفسيرات مباشرة وصريحة.

باختصار ورغم الجدل حول الفيلم، فلا شك أننا أمام واحدة من التحف السينمائية السابقة لعصرها، والصامدة في وجه الزمن كأحسن ما يكون، فنحن أمام فيلم يملك كل مقومات السحر السينمائي والإتقان في الصناعة، فيلم لا يكشف عن كل أسراره من المُشاهَدة الأولى، لكنه بكل تأكيد قادر على النفاذ إلى عقلك كمتفرج وعاشق لفن السينما.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.