كانت ثورة 1919، التي قادها سعد زغلول، صيحة الطبقة الوسطى المصرية من أجل الاستقلال والدستور. ما من حضور للدوائر الثلاث، العربية والإفريقية والإسلامية، التي سيدعو إليها، لاحقًا، جمال عبد الناصر في «فلسفة الثورة» (1954)، وإنما الحضور كله لـ «الوطنية المصرية». سوف يشرح، فيما بعد، غالي شكري، موقف توفيق الحكيم ونجيب محفوظ وحسين فوزي من السلام مع إسرائيل بالعودة إلى مباديء تلك الوطنية (نجيب محفوظ من الجمالية إلى نوبل، 1991).:

صمت جيل ثورة 1919 عن مصريته وليبراليته ثمانية عشر عامًا، فما أن انطوت الصفحة الناصرية حتى وجد نفسه تتحقق في شعارات النظام الجديد: مصر عمرها سبعة آلاف سنة ومصر الليبرالية تعود بدستورها الدائم وأحزابها المتعددة وصحافتها الحرة. تلك كانت الشعارات التي أخرجت «المكبوت» من صدر الجيل (المصري) الذي لا يعرف من العروبة سوى ما ينسب إلى سعد زغلول من أنها «صفر+صفر+صفر» سواء كان هذا قوله أو مدسوسًا عليه. وإنما هم يعرفون «الجيران» أقطارًا مكتفية بذاتها لا يجمع بينها سوى اللغة العربية الفصحى المكتوبة والدين. هنا يصبح النزاع في الشرق الأوسط صراعًا داخليًا بين الإسرائيليين والفلسطينيين، وليس صراعًا قوميًا بين «العرب» و«الصهاينة».

ينبغي التذكير أن الخطاب الناصري بشأن «الرجعية العربية»، التعبير الذي كان يشير إلى الأنظمة السياسية في الخليج وتونس (بجانب حكام الخليج، كان الحبيب بورقيبة موضع سب وشتم من قِبل عبد الناصر في خطبه، فقد وصفه بـ «العميل» و«المهووس»، والصحافة المصرية، خصوصًا كاريكاتيرات صلاح جاهين)، قد تبلور على أساس معيارية الموقف من الاستعمار والقضية الفلسطينية.

مع العصر الساداتي، سيتبلور الموقف من الدول العربية على أساس الوطنية المصرية، التي سيصير السلام مع إسرائيل واحدًا من انتصاراتها، ثم واحدًا من أركانها. من هنا، سيكون المعنى السياسي لهذه الوطنية هو: الاستقلال والدستور والسلام (أما المعنى الثقافي فمن أبرز معالمه فرعونية مصر وارتباطها بحضارة البحر الأبيض المتوسط).

وإذا كان التاريخ الاجتماعي والسياسي والثقافي لمصر، في العصر الحديث، قد صاغ مضامين صلبة لكل من الاستقلال والدستور، فإن التحدي الجديد هو السلام.

سيتم اختراع السلام كثالث أضلاع الوطنية المصرية، في عصري السادات ومبارك، عن طريق الترويج لـ «الواقعية السياسية» و«النضج» المصري مقابل «مراهقة» الحكام العرب المعادين لـكامب ديفيد، وربط خطط التنمية والتعمير بالسلام، فالحرب قد استنزفت إمكانيات البلاد، ومصر ليست دولة بترولية -كما هو حال دول الخليج- حتى تغامر هنا وهناك، ولكنها بلد متحضر ينبغي أن يستأنف حضارته. يمكن تلخيص الأمر في برقية توفيق الحكيم (الذي كتب في طور سابق له نصوصًا فظيعة في لاساميتها) إلى السادات بُعيد توقيع المعاهدة المصرية الإسرائيلية (الصحف المصرية المنشورة بتاريخ 7 مايو 1979):

تحية لموقفكم الراسخ أمام الأقزام، لقد أفزعهم صلح الفئتين المتحضرتين، بعد اطمئنانهم إلى ضعف مصر لتذل تحت أقدامهم. مالهم وجهلهم؟ سر المقاطعة والتخريب خوفهم من قوة مصر بعد الصلح لأنهم يريدونها منهكة القوى بالحروب لتستنجد بهم وتتملقهم فيحتقرونها، فإلى الأمام نحو الكرامة والحضارة، وخطوة من المتحضرين نقابلها بخطوتين، فلن ترجع مصر مع المتخلفين إلى للوراء، فالتقدم دائمًا والمجد لمصر المتحضرة.

بعد ثورة 25 يناير، لن تقوم الطبقة الوسطى سوى بالإلحاح على الضلع الدستوري ووجوب تغذيته، وليس من المستغرب أن يزداد الكلام المعسول عن مصر الليبرالية قبل 1952، التي ستصبح المرجع الرومانسي لكلام كثير سيكتب في الصحف والمنصات الإلكترونية عن الحرية والازدهار. ستصب اللعنات كلها على «دولة يوليو»، وهي (اللعنات) ستزداد بعد تولي عبد الفتاح السيسي السلطة.

بعد اغتيال يوسف السباعي، في قبرص، عام 1978، على يد شبان فلسطينيين من جماعة أبو نضال، نتيجة مرافقته السادات إلى القدس، رتّب الأمن المصري مظاهرة ضخمة، في ميدان طلعت حرب بوسط القاهرة، بإشراف سعد زغلول نصّار، مدير إعلام السادات. كان الهتاف الرئيس هو: «لا فلسطين بعد اليوم».

بالمعنى الاجتماعي (ولا ينبغي أن تكون شيوعيًا أحمر حتى تدرك ذلك)، لا يوجد استقلال. ولا توجد سياسة حتى يكون ثمة دستور. الضلع الوحيد القائم هو السلام، والهتاف الوحيد القائم هو: لا فلسطين بعد اليوم.