بعد سقوط الخلافة العباسية بدخول المغول بغداد، لم تستطع قوة أن تصدهم عن اجتياح الجناح الغربي للعالم الإسلامي إلا المماليك الذين هزموهم في «عين جالوت».

وهذه القوة التي أوقفت تقدم المغول هي نفسها التي كان بإمكانها إحياء نظام الخلافة الذي سقط في بغداد، وهو ما حدث، حيث أتى السلطان الظاهر بيبرس بالأمير العباسي أحمد بن الخليفة الظاهر، وأقام له احتفالًا مهيبًا في القاهرة ولقبه بـ«المستنصر بالله» وأعلن بيعته له كخليفة للمسلمين وأميرًا للمؤمنين في رجب 659هـ – يونيو 1261م.

وأمر بيبرس بالدعاء للخليفة على المنابر، وصك اسمه على العملة، وأخذ البيعة له من الولايات؛ وهنا اكتسب بيبرس دعمًا شرعيًا لسلطته؛ فوجوده في السلطة ليس لأنه قتل السلطان قطز واستولى على الحكم فقط، ولكن لأن الخليفة صاحب السلطة الروحية على المسلمين يدعمه، وكذلك فإن المسلمين سيقدرون له إحياء الخلافة التي يعتبرونها ضرورة شرعية.

قُتَل المستنصر بالله سريعًا لدى محاولته استرداد بغداد وإعادة مقر الخلافة إليها، فأتى بيبرس بالأمير أبي العباس أحمد، ولقّبه بـ«الحاكم بأمر الله» وجعله خليفة للمسلمين ومقر خلافته قلعة الجبل بالقاهرة، لتستمر الخلافة العباسية في القاهرة لما يقرب من 300 عام، ويتناوب عليها نحو 17 خليفة.

الفكرة السائدة أن الخليفة العباسي في القاهرة كان بلا سلطة، فهو رجل يجلس في الظل، لمجرد التبرك به، والسلطة دائمًا في يد سلطان المماليك، لدرجة أن بيبرس نفسه ألغى بعد ذلك صك اسم الخليفة على العملة وأسكنه أحد أبراج القلعة، وأمره أن يصعد إليه أول كل شهر هجري ليهنئه بحلوله، بل وحدد إقامته ومنعه من لقاء الناس.. هكذا كان الخليفة ضعيفًا أمام السلطان؛ ليتجنب الصدام مع المماليك أصحاب السلطة الفعلية.

إلا أن المتأمل يجد أن الأمر لم يكن كذلك دائمًا؛ فقد جرت صدامات بين الطرفين، وحاول العباسيون ممارسة السلطة، بل إن أحدهم نجح في تولي السلطة بالفعل، وجمع بين الخلافة (السلطة الروحية) والسلطنة (السلطة المادية)، وفرح الناس واعتقد البعض أن العباسيين سيعيدون أمجاد عصرهم الأول في بغداد، وستعلو من جديد راياتهم السوداء.

متى وكيف ترك العباسيون عزلتهم وظهروا وصارعوا المماليك على السلطة، وما ملابسات ذلك؟ هذا ما نرصده في السطور التالية خلال عصور 3 من الخلفاء.

المتوكل على الله: المتآمر الذي نجا من الصلب

في عام 763هـ – 1361م تولى المتوكل على الله محمد الخلافة بعهد من أبيه، وظل ساكنًا لا يشتبك طيلة 15 عامًا، ولكن في عام 778هـ 1376م هرب السلطان الأشرف واختفى، فاجتمع أمراء المماليك بالخليفة ونصبوه سلطانًا عليهم فرفض مؤثرًا السلامة، وطلب منهم أن يختاروا أحدهم لهذه المهمة؛ فنصبوا علي بن الأشرف شعبان سلطانًا ولقبوه بالمنصور.

المتوكل أيضًا تورط في مؤامرة للانقلاب على السلطان برقوق عام 785هـ – 1383م، بالاتفاق مع الأميرين قرط وإبراهيم ابني قطلوا أقتمر، بحشد أتباعهما من التركمان والأكراد والانقضاض على السلطان والأمراء وهم يلعبون الكرة في الميدان وقتلهم، ثم تنصيب الخليفة المتوكل سلطانا على البلاد.

علم السلطان بالمؤامرة من نائب الشام صلاح الدين بن تنكز، الذي أبدى استعداده لسحق المتآمرين الثلاثة وتأييد السلطان، وشرح لبرقوق تفاصيل المؤامرة.

كما علم السلطان أن المتوكل وقرط وإبراهيم وضعوا خطة بديلة، مفادها أنه في حالة فشل الخطة الأساسية يذهب الأميران إلى الفيوم لحشد العربان لتأييد الخليفة، إضافة إلى مراسلة المتوكل لأطراف من العربان أيضًا في إقليم البحيرة في الوجه البحري لمصر لتأييده حال الانقلاب.

استدعى السلطان قرط وإبراهيم والخليفة وواجههم بما وصله من معلومات، وبعد ممارسته ضغوطًا عليهم اعترف قرط بأن المتوكل هو من استدعاه وقال له، إن برقوق ظالم ويستولي على أموال الناس دون وجه حق، وأنه (الخليفة) اضطر إلى تأييد توليته السلطنة رغمًا عن أنفه؛ طالبًا منه نصرته في الانقلاب عليه وأعوانه.

أنكر المتوكل معرفته بالأمر برمته، فسأل السلطان طرف المؤامرة الثالث «إبراهيم» فأنكر حضوره الاتفاق بين الخليفة وأخيه قرط أو موافقته، ولكنه أقر بأن الخليفة استدعاه إلى بيته وطلب منه مثل ما طلب من أخيه ولكنه رفض، وفي المقابل أنكر الخليفة أيضًا ما نسب إليه من الأميرين.

نتيجة لذلك استل السلطان سيفه وهم بضرب عنق الخليفة فهدأه الأمير المملوكي سودون الشيخوني ومنعه من ذلك، فأمر برقوق بإعدام الثلاثة بـ«التسمير».

والتسمير هو صلب الرجل على صليب خشب ودق أطرافه بالمسامير في الصليب، ويترك على حاله حتى يموت، وكان من أدوات الإعدام قديمًا.

ولكن سودون حذر السلطان من إعدام الخليفة خوفًا من إثارة الناس؛ فالخليفة له قدسية دينية عندهم، فتراجع السلطان وأمر بتسمير قرط وإبراهيم والطواف بهما في شوارع القاهرة، وبالفعل سُمِّرا ولكن شفع الأمراء في إبراهيم وفكوه من المسامير قبل أن يموت واستبدلت عقوبته بالسجن؛ ولكن مات أخوه.

كما أمر السلطان بسجن الخليفة المتوكل وتقييده من ساقيه، ومن شدة القيد ذاب لحم الخليفة تحته؛ وكذلك بايع بدلًا منه ابن عمه عمر «الواثق بالله» خليفة، وفي المقابل فوض الواثق السلطان برقوق بإدارة السلطنة.

بعد فترة وبعد وساطة أمراء من المماليك أمر برقوق بخروج المتوكل من سجنه وإسكانه إحدى الدور والسماح بإقامة أهل بيته معه فيها، وظل الأمر كذلك حتى مات الخليفة الواثق، فطلب أهل الحل والعقد من السلطان أن يعيد الخليفة المتوكل لمنصبه، فرفض واختار تنصيب زكريا شقيق الواثق، ورغم ذلك كان الناس يشعرون بالغضب ولا يرون أحدًا أهل للخلافة إلا المتوكل.

وفي عام 791هـ – 1388م تمرد الأميران منطاش ويلبغا الناصري على السلطان في الشام، وأعلنا دعمهما للمتوكل وحرضا على السلطان برقوق، فشدد الحراسة على المتوكل خوفًا من هربه إلى الشام، ولكن بعد تفكير وجد أن من الأفضل أن يحتوي المتوكل ويستغل شعبيته لصالحه فأفرج عنه وأعاده للخلافة في 791هـ – 1389م وخلع زكريا المستعصم بالله.

كما منح السلطان برقوق إلى المتوكل امتيازات لم تكن تمنح لخلفاء من قبله، فنزل في موكب ضخم من القلعة إلى قصر له، وأعطي إقطاعات وأموال، إضافة إلى قصر في القلعة، وسمح له بالتنقل بين قصريه أو أي مكان، وخطب باسمه على المنابر.

ورغم ذلك أطيح بالسلطان برقوق وحمل أسيرًا إلى الكرك، واستبد الأمير يلبغا الناصري بالأمر، وأعلن أمام الناس مبايعته للخليفة سلطانًا، فرفض المتوكل.

كان عند المتوكل بعد نظر، فخاف أن يقبل بالمنصب وتتبدل الأمور، وهو ما حدث بالفعل حيث استطاع برقوق أن يعود إلى السلطنة، فبايع المتوكل بالخلافة، وفي المقابل فوضه المتوكل بأمور السلطنة، وظلت الأمور هادئة بينهما حتى توفي المتوكل عام 808هـ – 1406م، وكان قد عهد بالخلافة لابنه العباس (المستعين بالله) من بعده.

العباس المستعين بالله: ورطة المماليك

في البداية هادن المستعين بالله السلطان فرج بن برقوق، حتى أنه شاركه في تحركاته في الشام لحرب أعدائه، وفي حملة فرج الأخيرة على الشام لمقاتلة نائبي الشام الثائرين عليه المؤيد شيخ، وسيف الدين نوروز، وقع الخليفة في الأسر عام 814هـ – 1412م، وهرب السلطان إلى قلعة دمشق للتحصن بها.

هنا أصبحت السلطنة المملوكية في نزاع جديد بين المؤيد شيخ وسيف الدين نوروز، فتدخل كاتب السر فتح الدين فتح الله واقترح تولية الخليفة المستنصر بالله السلطنة بجانب الخلافة لفض الاشتباك بين الأميرين؛ فرفض المستنصر؛ لعلمه أن المماليك لن يتركوه في منصبه بل سيتآمرون عليه ويقتلوه كما غيره.

وأمام رفضه لجأ المؤيد ونوروز إلى حيلة يورطوه بها ليقبل المنصب، فكتبوا على لسانه– دون علمه- بيانًا وأذاعوه للناس في مصر والشام، وفي البيان سب لفرج برقوق وتعديد لمساوئه، وإعلان خلعه من السلطنة.

لم يكذب المستعين بالله البيان خوفًا منهم، بل وقبل مبايعتهم له بالسلطنة في عام 815هـ – 1412م، وتعهد له الأميران بالطاعة ومنحاه كافة السلطات التي تمنح لأي سلطان، واشترط ألا يُعزل من الخلافة إذا ما أدت الظروف إلى خلعه من السلطنة لاحقًا، وألا يعزل أو يعين أحدًا في السلطنة إلا باتفاق كبار الأمراء منه.

ولهذه المناسبة ابتهج الإمام ابن حجر العسقلاني الذي كان معاصرًا للأحداث فقال:

الملك أصبح ثابت الأساسِ بالمستعين العادل العباسِ
رجعت مكانة آل عم المصطفى لمحلها بعد طول تناسِ
لا تنكروا للمستعين رياسة في الملك من بعد الجحود الناسي

بعد توليه السلطنة وهو في الشام، نصب المستعين بالله الأمير نوروز نائبًا له على الشام كله، بينما نصب المؤيد شيخ مدبرًا عامًا لشؤون السلطنة وعاد معه إلى القاهرة.

ظن المؤيد شيخ أن المستعين بالله سيتنازل له عن السلطنة بعد العودة لمصر، والاكتفاء بالخلافة، ولكن المستعين بالله سكن قصر السلطنة في القلعة وبدأ يمارس مهامه، وهنا غضب المؤيد، فاستغل سلطاته كمدبر لشؤون الملك، وجعل مراسيم الدولة كلها تعقد في بلاطه وليس في بلاط المستعين بالله.

ولم يكتف المؤيد بذلك بل أجبر المستعين على تفويضه في جميع شؤون المملكة ليتخذ القرارات دون الرجوع إليه فيها، وبعدها عين أميرًا تابعًا له -وهو جمق الأرغون- دويدارًا على قصر السلطان، ليمنعه من لقاء الناس، ويحول دون توقيعه على أي قرارات تخص إدارة الدولة، إلا بعد عرضها على المؤيد وموافقته عليها.

لم يقف المؤيد عند هذا الحد، بل جمع الأمراء والمشايخ والقضاة وأهل الحل والعقد واجتمع بهم في قصره، بمساعدة فتح الله كاتب السر، الذي تحدث للحضور وقال، إن أحوال الدولة أصابها الاضطراب والفساد والفوضى بعد سلطنة المستنصر؛ لأن الناس اعتادت أن يحكمهم سلطان تركي قوي الشكيمة، داعيًا إياهم إلى تنصيب الأمير المؤيد شيخ ليكون سلطانًا، فوافقوا وبايعوه.

 ثم تحرك القضاة إلى بيت الخليفة المستعين بالله، ليعلنوه بذلك، ويشهدوا على تنازله عن السلطة.

وبالفعل تنازل المستنصر عن السلطنة مع احتفاظه بالخلافة، وبعدها أمر المؤيد شيخ بتحديد إقامة الخليفة في داره بالقلعة.

ولكن ذلك لم يرض نوروز نائب الشام، الذي أعلن تمرده على المؤيد الذي أخل بالاتفاق، فأعلن استقلاله ببلاد الشام عن السلطنة ودعا إلى عودة الخليفة إلى السلطنة، وهنا استعد المؤيد إلى الخروج بجيشه إلى الشام لإخضاع نوروز.

وقبل خروجه خاف المؤيد أن يستغل المستنصر غيابه ويعود إلى السلطنة، فقرر خلعه من الخلافة وتولية أخيه داوود بن المتوكل على الله بدلا منه، واستعان على ذلك بقاضي القضاة جلال الدين البلقيني الذي كان على علاقة سيئة بالمستنصر، فدعمه البلقيني وبالفعل تم خلع المستنصر من الخلافة وبويع داوود وأخذ لقب «المعتضد بالله»، ونقل المستعين من قصره بالقلعة إلى أحد أبراج القلعة وذلك في 817هـ – 1414م.

حمزة بن المتوكل: الماكر الذي دفع ثمن طمعه

تولى حمزة بن المتوكل الخلافة في عهد السلطان جمق في 855هـ – 1451م، وتلقب بـ«القائم بأمر الله»، وفي عام 857هـ – 1453م كان هناك صراع على السلطة بين الأمير إينال العلائي والسلطان المنصور عثمان بن جمق، فانحاز حمزة إلى الأمير إينال، رغم أن والد المنصور هو الذي بايعه للخلافة.

وبالفعل استقر الأمر لإينال وأصبح سلطانًا، وكافأ القائم بأمر الله على دعمه له، فكان قريبًا جدًا منه وزاد في إقطاعاته وبالغ في تبجيله والمراسم التي كانت تعقد له بشكل لم ينله أي خليفة عباسي في مصر.

ولكن ذلك جعل القائم يطمع فيما هو أكثر، وحدثته نفسه بتولي السلطنة كما حدث مع المستنصر قبل ذلك، فانضم للمماليك من أتباع السلطان المخلوع المنصور ضد السلطان إينال، وذلك في 859هـ – 1455م، ولكن هذه المرة فشل الانقلاب، وبقي إينال سلطانًا.

حدثت مواجهة بين إينال والقائم، فلم يجد الخليفة أي حجة يدافع بها عن نفسه، فأعلن أمام السلطان وحاضري مجلسه خلع نفسه من الخلافة، وخلع السلطان، فاضطرب مجلس السلطان إلا أن قاضي القضاة علم الدين صالح البلقيني الذي كان حاضرًا المجلس تدخل، وقال إن خلع السلطان لا يصح.

وأوضح البلقيني أن الخليفة خلع نفسه أولًا قبل خلع السلطان، وبالتالي فإنه حين نطق بخلع السلطان كان قد خلع نفسه قبلها، وبالتالي لم يكن له سلطة لخلع السلطان بعدها، فاقتنع الحضور بذلك، وبناءً على ما حدث أمر السلطان باعتقال الخليفة وسجنه في الإسكندرية، وتولى بعده الخلافة أخيه يوسف.

وظلت الأمور هادئة حتى انتهت دولة المماليك ودخل العثمانيون مصر في 1517م، وترتب على ذلك تنازل الخليفة العباسي محمد الثالث المتوكل على الله عن الخلافة لسلطان آل عثمان سليم الأول، لتنتهي الخلافة العباسية تمامًا ويؤول الأمر إلى العثمانيين.

بعد هذا الاستعراض نتساءل: هل كان العباسيون ضحية المماليك أم ضحية حبهم للسلطة؟ ألم يكن من الأكرم أن يعتزلوا الخلافة خير من العيش في هذا الذل؟ ألم يكن الأكرم لهم ألا يكونوا أداة ودمى في أيادي المماليك؟

الأمر لم يكن جديدًا على العباسيين، فأجدادهم في بغداد كانوا قد اعتادوا على ذلك لفترات طويلة؛ فكان البويهيون ومن بعدهم السلاجقة هم الحكام الفعليين، والخليفة العباسي ليس له من أمره إلا اللقب والدعاء له في المساجد، وهو ما تكرر في القاهرة؛ فكان الأمر مستساغًا لحد كبير.

المراجع
  1. البداية والنهاية، ابن كثير
  2. سير أعلام النبلاء، الذهبي
  3. الوافي بالوفيات، الصفدي
  4. السلوك لمعرفة دول الملوك، المقريزي
  5. المنهل الصافي، ابن تغري بردي
  6. تاريخ الخلفاء، السيوطي
  7. صبح الأعشى، القلقشندي
  8. كنز الدرر، ابن أيبك الدواداري
  9. حسن المحاضرة، السيوطي
  10. العصر المماليكي في مصر والشام، سعيد عبدالفتاح عاشور
  11. أطوار العلاقات السياسية بين سلاطين دولة المماليك والخلفاء العباسيين، مسعد كتبي