أصبح «مولوي عبد الحميد إسماعيل زاهي»، إمام أهل السنة في إيران والبالغ من العمر 76 عاماً، رقماً صعباً في المعادلة وسط اشتعال الاحتجاجات الشعبية ضد النظام، نظراً لتحديه المرشد علناً وتوجيه اتهامات صريحة له، دون أن يُقدم الأخير على استهدافه خشية من شعبيته الجارفة وتأثيره الهائل وسط الملايين.

وهو ينتمي إلى قومية البلوش السنية في جنوب شرق إيران، التي تعد منذ فترة طويلة واحدة من أفقر مناطق البلاد، وهو إمام وخطيب أهل السنة في مدينة زاهدان، عاصمة إقليم سيستان وبلوشستان، ويلقي خطبة الجمعة في الجامع المكي هناك، ويحضر له أكثر من 50 ألف شخص.

 ورغم أن الاحتجاجات الشعبية بدأت منذ سبتمبر/أيلول الماضي عقب قتل الشرطة للفتاة الكردية السنية، مهسا أميني، بسبب عدم ارتداء الحجاب بشكل صحيح، وأقدم المحتجون على تصرفات مثل خلع وإحراق الحجاب ونزع العمائم عن رجال الدين في الشوارع وغيرها من المظاهر التي استشهد بها نظام ولاية الفقيه كدلائل على عداء المتظاهرين لله ومحاربتهم للإسلام، لكن الشيخ تعامل بذكاء مع الأمر واستطاع الدفع بالأمور نحو القضايا الرئيسية، فأيد الاحتجاجات وأعلن أنها ليست ضد الدين بل بسبب الظلم وقمع الحريات والفساد والجوع في أحد أغنى دول العالم بالموارد والثروات.

وصار لبلوشستان دور في تهدئة نقمة المحتجين على مسألة الحجاب الشرعي، فنزلت لأول مرة مظاهرات نسائية للمحجبات ضد النظام وهن يهتفن «إلى الثورة بالحجاب أو بدونه» في تجمعات احتجاجية منفصلة عن الرجال، مما ساهم في تعديل وجهة الثوار إلى المطلب الرئيسي، وهو الاعتراض على حكم المرشد وليس ضد الحجاب.

ولم يُقدم النظام على اعتقاله خوفاً من إشعال مناطق البلوش بينما تكافح القوات الأمنية للتصدي للاحتجاجات في المناطق الأخرى، لكن النظام اعتمد خيارًا آخر وهو تشويهه وتخويفه؛ فبحسب تسجيل صوتي مسرب من وكالة أنباء فارس التابعة للحرس الثوري حصل عليه قراصنة إلكترونيون معارضون، فإن اجتماعاً لمسئولي ملف الإعلام ناقش اقتراحات لتدمير مكانة عبد الحميد بين الشعب، وقال نائب قائد منظمة الباسيج، قاسم قريشي، إن المرشد الأعلى، علي خامنئي، طلب تحذير مولوي عبد الحميد، وأن ممثل المرشد، محمد جواد حاج علي أكبري، سافر إلى زاهدان وأوصل التحذير إلى أذن الرجل.

واعتبر قريشي أن النظام أخطأ بخصوص ترك هذا الرجل حتى علت مكانته، وأن حكومة الرئيس الإصلاحي، محمد خاتمي، منحته الكثير من الاهتمام، وقال: «أمثال عبد الحميد لم يكن أحد يعتبرهم بشرًا»، وخلال الاجتماع، اقترح المسئولون تشويهه عبر الترويج لتصريحاته ضد المرأة، ونشر مواد إعلامية تدلل على أن أهل السنة في سيستان وبلوشستان يمارسون تمييزاً كبيراً ضد المرأة.

وقد وصفت صحيفة واشنطن بوست الأمريكية مولوي عبد الحميد بأنه تحول إلى رمز للاحتجاج، وأن مدينة زاهدان، حيث يقع مسجده أصبحت معقلاً أساسياً للانتفاضة، فبعد خطبة ألقاها الشيخ في سبتمبر/أيلول الماضي، خرج المتظاهرون إلى الشوارع، وفتحت عليهم قوات الأمن نيرانها، وأوقعت بينهم عشرات القتلى فيما عرف باسم «الجمعة الدامية»، وفي خطبه التالية، طالب الرجل بتقديم المسئولين عن قتل المحتجين إلى العدالة، وتشكيل لجنة تحقيق دولية، وفي رسالة له بالفيديو، استنكر مقتل المصلين على يد قوات النظام ووصفه بالكارثة، مبيناً أن عدداً من الشباب قذفوا مركز الشرطة بالحجارة خلال مظاهرة، لكن القوات أطلقت النار على رءوس وصدور المصلين العزل الذين كانوا عائدين إلى منازلهم ممن لم يشاركوا في المظاهرة من الأساس.

وبعكس الدعاة السنة غالباً في دول العالم، فإن النفوذ الطاغي المطلق للمراجع الشيعية في البيئة الإيرانية، ساهم في توحد أهل السنة حول مولوي عبد الحميد واتخاذه مرجعاً لهم بعد أن أثبت قدرته على قيادة الطائفة في ظل نظام حكم شيعي متعصب يمارس الإقصاء والعنف حتى ضد القيادات الدينية الشيعية المختلفة معه، وتعدى نفوذ الشيخ منطقة بلوشستان وصار رمزاً لأهل السنة في جميع أنحاء الدولة.

إمام أهل السنة

يترأس عبد الحميد جامعة «دار العلوم» وهي أكبر مركز علمي لأهل السنة في إيران، ويتراوح عدد طلابها بين 1500 و2000 طالب، وتتبعها مدرسة «عائشة الصديقة» للبنات، وتتبع الجامعة كذلك فروع كثيرة في مناطق مختلفة ومكاتب لتحفيظ القرآن في المناطق النائية، كما يترأس المجمع الفقهي لأهل السنة في إيران، وهو عضو بالمجلس الأعلى لرابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة.

وبحسب موقعه الرسمي فقد ولد الشيخ لأسرة معروفة بالتدين بقرية «كلوكاه» التابعة لزاهدان وتبعد عنها بسبعين كيلومتراً، والتحق بالكتاب ودرس المرحلة الابتدائية بزاهدان التي لم يكن فيها معهد ديني، فسافر إلی باكستان والتحق بمعهد «دار الهدی» في السند، وتنقل بين علماء ومعاهد أهل السنة، وحصل على الإجازة العالية في التفسير والفقه والحديث، ثم عاد إلى زاهدان واتصل بالشيخ عبد العزيز السربازي أحد أكبر علماء المنطقة، وهو تلميذ مفتي الهند الشيخ كفاية الله الدهلوي.

 واختاره الشيخ عبد العزيز نائباً له في شئون إدارة معهد دار العلوم والجامع المكي، وخلفه فيها بعد موته عام 1989 تقريباً، وعلى مدى أكثر من ثلاثين عاماً نجح في تجميع الناس حوله متبعاً منهج شيخه القائم على عدم الصدام مع النظام الحاكم ومعارضته سلمياً وعدم تأييد الحراك الانفصالي المسلح، والعمل داخل إطار المواطنة الإيرانية، مع الاهتمام بقضايا أهل السنة من جميع الأعراق، وتبني قضايا ومشاكل العرقية البلوشية تحديداً مع تجنب الخطاب القومي النزعة، ويوصف منهجه الفقهي بالوسطية والاعتدال، ويحذر دائماً من إثارة المسائل الخلافية.

ولما له من دور كبير في الحفاظ على الاستقرار في المناطق المشتركة بين السنة والشيعة صارت كلمته مسموعة بين مختلف الطبقات، ويقصده ذوو الحاجات والمشكلات ليحل قضاياهم ليس بصفته مفتياً شرعياً فقط بل كمصلح اجتماعي وزعيم سياسي، وأحياناً تحيل إليه المحاكم الحكومية بعض القضايا للفصل فيها، كما أن له دوراً مؤثراً في دفع الناس للتصويت في انتخابات الرئاسة ومجلس الشوری (البرلمان).

ومع ازدياد حجم جمهوره أطلق مشروعاً لتوسعة الجامع المكي، أكبر مسجد في إيران، ودار العلوم لاستيعاب المزيد من الأعداد، وهو يدرس العلوم الشرعية منذ عشرات السنين، قضى أكثر من نصفها في تدريس مادة الحديث الشريف من خلال شرح صحيح البخاري.

وبجانب دار العلوم فإن مولوي عبد الحميد له تأثير كبير في الأوساط الشبابية بسبب دوره في رعاية شئون الطلاب الجامعيين السنة، وتوفير السكن لهم، كما يُشرف على إرسال الدعاة إلى المناطق السكنية المختلفة في المدن والأرياف، ويشارك في بعض هذه الجولات.

وتقع محافظة سيستان وبلوشستان التي يقيم فيها في جنوب شرق إيران على الحدود مع كل من أفغانستان وباكستان، وتعد من أكبر المحافظات من حيث المساحة، ويقطنها أكثر من 3 ملايين نسمة، وتتمتع بساحل طويل على بحر عُمان، ويقع بها ميناء تشابهار أحد أهم الموانئ الإيرانية، وتشتهر المحافظة بالتوترات الأمنية بسبب القمع الوحشي من جانب قوات النظام والإعدامات الكثيرة، وهجمات الجماعات الانفصالية البلوشية السنية.

 ومع غياب الإحصاءات الرسمية تشير التقديرات إلى أن نسبة أهل السنة في الإقليم تتراوح بين 87% و99%، ويتوزع البلوش على 3 مناطق متصلة جغرافياً في إيران وباكستان وأفغانستان، وتناضل العديد من المجموعات القومية والتنظيمات المسلحة من أجل تحرير هذه المناطق وتكوين دولة بلوشستان الكبرى، وهو ما يعتبره مولوي عبد الحميد طرحاً غير واقعي، ويطالب بالحقوق المشروعة لأهل السنة التي تضمنها الدستور رغم مطالبته بتعديله وإلغاء المواد الدستورية التي تنتقص من حقوق السنة، ويطالب دائماً بمنح الحرية المذهبية لأهل السنة في مجالات التعليم والتربية وإقامة الجمعة والجماعات والمناسبات الدينية الأخرى وفقاً للدستور، وعدم التدخل في شئونهم الدينية، وينتقد سياسات التهميش المتعمد ضدهم ومنعهم من المشاركة في إدارة الدولة وتولي المناصب، ويقول: «لسنا متعطشين للمنصب أو الجاه، ولكن القضية قضية كرامة .. لا نحب أن يعاملونا كالأجانب، وينظر إلينا بازدراء كمواطنين من الدرجة الثانية».

ولا ينتمي الشيخ عبد الحميد إلى حزب سياسي، لكنه دائماً يؤكد على حرية الأحزاب والإعلام والنشاطات المدنية، وفقاً للدستور، ويرى أن المخرج الوحيد من أزمات النظام هي مصالحة وطنية شاملة، وإطلاق سراح كافة السجناء السياسيين، والتوجه الجاد نحو تلبية المطالب المشروعة والقانونية للشعب الإيراني، وإقامة انتخابات حرة ونزيهة، وينتقد بشدة الإعدامات العشوائية، والتعذيب الذي يجري في السجون الإيرانية لأخذ الاعترافات، ويعتقد أن هذه الإعدامات لا تتوافق مع الشريعة الإسلامية، وأن ثورات الربيع العربي مرشحة للتكرار في إيران لأن أي حكومة لا تصلح نفسها تعرض نفسها للثورة، فأي نظام لا يمكنه الاستمرار بقوة السلاح فقط.

 ويعتقد أن الوحدة لا تتحقق بالهتافات وعقد المؤتمرات وتأسيس مجمعات التقريب، بل بمراعاة العدل والمساواة وتطبيق القانون، وأن أهل السنة إيرانيون ولا أحد أكثر إيرانية منهم ويرفض الطرح الانفصالي، ويطالب بالسماح للمنظمات الدولية لحقوق الإنسان بالعمل في إيران.

وقد وضع النظام قيوداً على تنقلاته للحد من تأثيره، وبعد أن كان يسافر إلى بعض الدول بهدف المشاركة في المؤتمرات الدينية كمؤتمرات رابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة، ومؤتمر المجمع الفقهي بالإمارات، وبعض المؤتمرات في تركيا، تم منعه من السفر منذ أكثر من 12 عاماً.

المقاوم السلمي

اشتعلت المظاهرات ضد النظام الإيراني على خلفية مقتل الفتاة السنية مهسا أميني، لكن في إقليم سيستان بلوشستان اشتعل العنف بسبب فتاة سنية أخرى، فقد تجمع المتظاهرون بعد صلاة الجمعة للاحتجاج على اغتصاب فتاة من البلوش من قبل العقيد إبراهيم كوشك زايي، قائد الشرطة في مدينة تشابهار، الذي يُتهم بأنه استدعى الفتاة البالغة من العمر 15 عامًا إلى مركز الشرطة حيث اعتدى على شرفها.

وتقدمت أسرة الطفلة بشكوى ضده وأبلغت وسائل الإعلام بالاغتصاب، فهدد قائد شرطة تشابهار برفع قضية قتل ضد العائلة إذا لم يسحبوا الشكوى وينفوا الخبر. وظلت القوات العسكرية تتنقل في قرية صديق زاهي التي تنتمي لها الطفلة لترهيب أسرتها، مع العلم بأن قائد الشرطة سبق اتهامه بجريمتي اغتصاب سابقًا، فتوجه بعض المواطنين وطلبوا من ممثل تشابهار في البرلمان، معين الدين سعيدي، متابعة الأمر بجدية، لكن لم تسفر هذه الجهود عن نتيجة ملموسة.

واندلعت أعمال العنف في سيستان وبلوشستان أسفرت عن مقتل خمسة من أعضاء الحرس الثوري الإيراني، بمن فيهم عقيدان ومسئول استخباراتي كبير، وإصابة 32 من أعضاء الحرس الثوري في الاشتباكات.

ألقت الحكومة الإيرانية باللوم على جماعة جيش العدل الانفصالية، في الاضطرابات في زاهدان، على خلاف شهادات البلوش، فخرج مولوي عبد الحميد ليطالب بتحقيق دولي، وحمَّل المرشد الأعلى، علي خامنئي، مسئولية الدماء التي سالت.

وامتدح الشيخ الاحتجاجات الشعبية ضد النظام، ووصفها بأنها وحدت الشعب الإيراني لأول مرة، مشيداً بالتعاضد الشعبي وروح الوحدة ضد النظام، مقارناً الوضع مع شعارات الوحدة الفارغة التي يرفعها النظام معتبراً أن فعاليات «أسبوع الوحدة» ضعيفة لدرجة أن الضيوف الأجانب لم يكونوا يأتون إلى مؤتمراتها، والمدعوون من الداخل لم تكن لديهم رغبة في المشاركة لأنها كانت شعارات فارغة، وتم استخدام الوحدة كغطاء على السياسة الحقيقية للنظام، قائلاً: «شكونا مراراً إلى مجمع التقريب أن منع أهل السنة من الصلاة أو إهانة المقدسات هو ضد الوحدة».

أطلقوا سراح المعتقلين

وفي خطبة الجمعة الماضية طالب بإطلاق سراح المعتقلين بما فيهم علماء أهل السنة، مبيناً أن معظم المعتقلين من الشباب والشابات صغار السن، رافضاً توصيفهم بالمحاربين، وأكد في خطبته التي نشرها موقعه بعنوان «أطلقوا سراح المعتقلين»، أن تطبيق حد الحرابة على المحتجين، وقتلهم بهذا المبرر يخالف القرآن الكريم، مشيراً إلى المعاملة السيئة مع كبار علماء السنة أثناء اعتقالهم، كما وقع في إقليم كردستان مع الشيخ سيف الله حسيني في مدينة جوانرود، والشيخ خضر نجاد، وكذلك الشيخ فضل الرحمن كوهي، من علماء بلوشستان، والشيخ عبد الغفار نقشبندي، معرباً أيضاً عن قلقه من إصدار الحكم بالإعدام على الطبيب، حميد قره حسنلو، الذي اتهم بمحاربة الله وحُكم عليه بالإعدام وفقاً لحد الحرابة.

وأضاف: عندما يرى الشعب أن الدولار أصبح يساوي 39 ألف تومان، وأن أموالهم فقدت قيمتها، يشعرون بخيبة أمل .. المواطنون الإيرانيون .. لا يتمتعون بالحريات، وبدلاً من العديد من الأشخاص المؤهلين من مختلف الجماعات العرقية والديانات، فإن الضعفاء هم من يديرون البلاد. فلو كانت هذه المناصب في أيدي ذوي الكفاءة لما وصلت البلاد إلى هذه اللحظة، هناك انتخابات ولكن لا تخرج منها نتائج ذات قيمة، يأتي الناس إلى ساحة الانتخابات البرلمانية والرئاسية، لكن يجدون أنهم لم يحققوا ما يريدون وأن وضع البلاد لا يتغير، بل تتجه البلاد نحو العزلة.

واستشهد بكلام مؤسس الجمهورية روح الله الخميني عندما قال للشاه الراحل: «إن شعب إيران شعب طيب، لماذا يشكو هؤلاء الناس منك؟ شعب إيران لا يتمتع بالحرية، ولا يريد أن يعتمد على الشرق والغرب، وهم غير سعداء لأن ثروتهم تنفق في مكان آخر»، وأردف مولوي عبد الحميد أن هذه كلمات مؤسس الثورة ويجب أن تعرف السلطات أن الشعب في قلق واضطراب، وصوت الشعب يجب أن يسمع.