في أواخر عام 2022 انطلقت محادثات للسلام بين الحكومة الإثيوبية وجبهة تحرير التيجراي. المحادثات استضافتها جنوب أفريقيا سعيًا لإيجاد حل سلمي ودائم للصراع المرير الذي دخل عامه الثاني في شمال إثيوبيا. الحرب التي بدأت في نوفمبر/ تشرين الثاني 2020 خلّفت وراءها مئات من القتلى والجرحى. وكانت السبب المباشر في نزوح الآلاف عن منازلهم، وهجّرت آلاف اللاجئين للدول المجاورة.

الاتحاد الإفريقي، الجهة التي رعت تلك المحادثات، رأت أن أوان المفاوضات قد حان. ووافقها طرفا الصراع اللذان رفضا أي محاولات للحديث قبل عامين. لكن الأوضاع السياسية والواقع على الأرض تغيّر كثيرًا. فبعد أن كان التقدم لجيش التيجراي، وباتوا في لحظات فاصلة أقرب للعاصمة الإثيوبية، إلا أن الكفة مالت ناحية الجيش النظامي الإثيوبي في الآونة الأخيرة، واستطاع السيطرة على عدد من المدن الكبيرة في إقليم التيجراي.

كانت المخاوف في الأيام الأولى لبدأ المفاوضات أن الطرفين يجلسان على طاولة المفاوضات بينما تستمر الحرب على الأرض. وأيهما يأتي بالنتيجة المرجوة أولًا تكون الغلبة له. خصوصًا أن الجلوس للمفاوضات كان بضغط دولي على طرفي الصراع. لأن الحكومة تعرضت لانتقادات شعبية لاستجابتها للتفاوض وصف العديد من مواطني إثيوبيا الأمر بالخيانة، وأن الحرب هي الحل الوحيد. خصوصًا في ظل توقع عديدين أن الأطراف الغربية تؤيد التيجراي وانفصاله.

لكن تجدد الاشتباكات في أغسطس/ آب 2022 بعد هدنة استمرت 5 أشهر أثار هلع كافة الأطراف. خوفًا من أن تدخل الحرب نفقًا مظلمًا جديدًا، خصوصًا بعد أن تعهدت الحكومة الإثيوبية لمواطنيها باستعادة السيطرة على مطارات الإقليم. كما أن الجبهة مصنفة كجهة إرهابية لدى الحكومية، لذا فالتفاوض معها يحمل دلالات غير جيدة بالنسبة لسياسة إثيوبيا في التعامل مع المصنفين كجماعات إرهابية.

تسليم الأسلحة الثقيلة

لكن رغم كل هذه التحفظات انطلقت المحادثات واستمرت أكثر من 3 أشهر. دخلها الطرفان دون أن يُعلن أي منهما عن أجندته التي يريد تحقيقها من التفاوض. ولم تصرح الحكومة أو الجبهة بأي قائمة للمطالب. ربما لأن الجميع كان يدرك صعوبة أن تؤتي المفاوضات ثمارها في جولاتها الأولى. وأن أقصى ما يمكن أن يحصل عليه التيجراي هو السماح بوصول المساعدات الإنسانية لهم.

لكن مقربين من جهات التفاوض أعلنوا بشكل غير رسمي أن الجبهة ستطلب بوضوح انسحاب القوات الإريترية من الإقليم. كما ستشمل المفاوضات الحديث عن غرب تيجراي، فعرقية الأمهرة تدعي الملكية التاريخية للإقليم، وكذلك يفعل التيجراي. كما أن الجبهة ستتفاوض على حصولها على صوت سياسي قوي في إدارة إثيوبيا ككل، فالجبهة تخوض الحرب بصفة أساسية بحثًا عن هذا النفوذ، سواء في إقليم التيجراي، أو في البلد كلها.

لكن كل التكهنات لم تتوقع أن يحدث ما رآه العالم منذ أيام. في 11 يناير/ كانون الثاني 2023 بدأت قوات التيجراي في تسليم أسلحتهم الثقيلة للجيش النظامي. ونقل تلفزيون التيجراي مشاهد لقوات الجبهة وهي تسلم الدبابات والعربات المصفحة ووحدات المدفعية إلى القوات النظامية على بُعد 30 كيلو مترًا من ميكيلي، عاصمة الإقليم. وكان نزع السلاح من أبرز البنود التي يجب أن تتضمنها المفاوضات.

وأكد الجيش الإثيوبي هذا الأمر في بيان رسمي بعد تداول مقاطع تسليم الأسلحة. قال الجيش إنه بناء على الاتفاق الذي تم مع الجبهة فقد تم نقل أول دفعة من أسلحة الجبهة الثقيلة إلى مخازن الجيش الوطني. وأكد وزير الدولة الإثيوبي لقطاع الاتصالات أن عملية نزع السلاح قد بدأت.

انتصار آبي أحمد

الجبهة من جهتها علقت بأن عملية نزع السلاح قد بدأت بالفعل، لكن جيتاشوي رضا، مسئول بارز في الجبهة، قال في تغريدة له أنه يأمل أن يؤدي نزع السلاح إلى الإسراع في التطبيق الكامل لاتفاق السلام. وبدأ بالفعل تدفق غير مسبوق للمساعدات الإنسانية للمعرضين لخطر المجاعة. كما توقفت كافة عمليات إطلاق النار من طرف الجيش الوطني.

لم يتضح بعد ماذا سيحصد التيجراي من هذه المفاوضات، لكن التوقيع على وثيقة السلام انتصار لآبي أحمد أكثر من التيجراي. فحتى نص الاتفاقية والهدنة تم التوقيع عليه من قبل زعماء التيجراي باسم جبهة تحرير التيجراي، وليس باسم حكومة التيجراي كما أرادو، وأراد كل أهالي الإقليم. فآبي أحمد يرفض انتخابات عام 2020 التي فازت بها الجبهة في المنطقة، ويخطط لإجراء استفتاء جديد.

لكن في نفس الوقت أعلنت الحكومة الفيدرالية أنها سترفع اسم الجبهة من قوائم الإرهاب. ومن ثم يمكن الدخول معها في مفاوضات حول كيفية إدارة الإقليم. لكن كما ينص الاتفاق فسوف يتلزم الطرفان بالدستور الفيدرالي القائم. ويشمل ذلك بالطبع تسوية وضع غرب التيجراي الغني بمحاصيله الزراعية، الذي استحوذت عليه عرقية الأمهرة في الأيام الأولى للحرب، على أن تكون تلك التسوية بوسائل دستورية سلمية.

لكن لم يتحدث أي طرف عما إذا المهجرين من غرب الإقليم سيعودون إليه أم لا. فالتركيز منصب حاليًا على الدخول الإنساني للطعام والمساعدات لإيقاف المجاعة التي أودت بحياة مليون فرد في العامين الماضيين. هذا المليون يبلغ 10% كاملة من نسبة سكان الإقليم البالغين، وفق آخر إحصاء منذ ثلاثة أعوام، 6 ملايين نسمة.

إريتريا تحارب بالوكالة

ولعل تلك المجاعة، وهذه الأرواح التي سقطت، هي عامل الضغط الأبرز على جبهة التيجراي. فرغم التفوق العسكري الإثيوبي والإريتري عليهم، فإن الجبهة أظهرت صمودها أكثر من مرة، وقدرتها على المناورة والفوز بجولات مؤثرة. لكن المجاعة باتت تهدد وجود شعب التيجراي من الأصل. لهذا فكان هدفهم الأول، والمبرر للتنازلات الكبيرة التي قدموها، هو الحفاظ على حياة شعب التيجراي.

لأن التيجراي لم يعودوا قادرين على جني محاصيلهم الزراعية بسبب نزوحهم عن أراضيهم، وبسبب الخوف من استهدافهم حال وجدوا في مناطق مكشوفة مثل الحقول. كما أصبح الناس يموتون من أمراض بسيطة يمكن علاجها في الظروف الطبيعية، فقد نفذت أدوية حيوية مثل الإنسولين والمضادات الحيوية. والأهم من هذا كله، أنه لم يبد في الأفق نهاية لهذه الأوضاع. فالحكومة الإثيوبية رفضت دخول أي مساعدات، وجبهة التحرير رفضت التنازل عن أي شيء للحصول على تلك المساعدات.

لكن تتجدد المخاوف لدى شعب التيجراي مرة أخرى من إمكانية التفاف آبي أحمد على الاتفاقية. فمثلًا أبرز العمليات العسكرية التي قطعت إمدادات التيجراي وحاصرتهم كانت عمليات إثيوبية إريترية مشتركة، وتمت هندستها من العاصمة الإريترية. ورغم أن الاتفاقية تنص على عدم التواطؤ مع أي قوة خارجية معادية للطرفين، فإن الاتفاقية لم تأت على ذكر إريتريا بأي صيغة. لهذا فإن آبي أحمد بإمكانه مواصلة الحرب من خلال إريتريا دون أن يربط نفسه بأي علاقة رسمية بذلك.

الانتصار الثاني لآبي أحمد في تلك الاتفاقية أنه منح مراقبة تنفيذها لوحدة صغيرة تتكون من 10 أفراد بحد أقصى. تقدم تلك اللجنة تقريرها للجنة أخرى يرأسها الرئيس النيجيري الأسبق أوليسجون أوباسانجو. أوباسانجو مُفوض من قبل رئيس مفوضية الاتحاد الأفريقي لتلك المهمة، موسى فكي. وليس من مجلس الأمن والسلام التابع للاتحاد، ما يعني أن الأمم المتحدة مستبعدة تمامًا من الرقابة على تلك البنود.

قنابل موقوتة

بالطبع سيحرص الجميع على إرضاء الشركاء الدوليين لأن الطرفين بحاجة للمساعدات الدولية. لكن القول إن هناك انتهاكات من الطرف الإثيوبي ستكون خاضعة لرأي أوباسانجو وفكي، وهي آلية غير معتادة. بينما حضرت الأمم المتحدة والولايات المتحدة بالوجود فقط بصفة مراقبين أثناء توقيع الاتفاقية، لكن لم يوقع أي منهم عليها.

والمفاجئ أنه تم منع الاتحاد الأوروبي من الحضور، حتى بصفة مراقب، رغم أنه أكبر المانحين للاتحاد الأفريقي. الأمر الذي يطرح تساؤلًا منطقيًا حول من يملك القدرة على مساءلة الحكومة الفيدرالية إذا لم تلتزم ببنود الاتفاق. لأنه لم يتم الحديث عن وجود رقابة دولية من أي نوع. لذا فالأمر بالكامل متروكًا في يد الحكومة الفيدرالية، ويدور حول صدق نيتها في إصلاح الأوضاع.

المعضلة الأكبر التي تنتظر إثيوبيا والتيجراي هي خيبة الأمل البادية على وجوه شعب التيجراي بالكامل، في داخل البلاد وفي خارجها. خصوصًا البنود التي تتحدث عن قيام حكومة آبي أحمد بتشكيل حكومة انتقالية لقيادة الإقليم. وأن السيادة على الإقليم هي للدولة الإثيوبية الفيدرالية، لا لأي عرقية من سكان الإقليم.

وأعلن بعض من قادة التيجراي أنهم يفضلون الاستمرار في القتال، أو الموت جوعًا، على أن يقبلوا بشروط الاتفاقية التي رأوها مذلة ومهينة. ما سيفتح بابًا خلفيًا لحرب عصابات جديدة تتبرأ منها جبة التيجراي، لكنها قد تدعمها سرًا. وفي نفس الوقت يواجهها آبي أحمد بالقوة الساحقة، لكن هذه المرة تحت غطاء شرعي وترحيب دولي.