شهدت الساعات الماضية تصعيدًا جديدًا بين حركة المقاومة الإسلامية، حماس، وبين الجانب الإسرائيلي. نشرت الحركة مقطعًا مصورًا لـ «أبراهام منغستو»، أحد الجنود الأسرى لديها، فأدى المقطع إلى حراك إسرائيلي على جبهات مختلفة ردًّا عليها. حركة المقاومة زادت على المقطع بيانًا على لسان ناطقها الرسمي بأن إسرائيل لن ترى جنودها إلا ضمن صفقة تبادل مشرفة. وأردف البيان، فيما يشبه التفسير وراء نشر المقطع، بأن الحركة تلحظ تباطؤًا ومماطلة من جانب الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة. كما يمارس القادة الإسرائيليون تضليلًا متعمدًا على الإعلام الإسرائيلي حول أحوال الأسرى لدى القسام وحالتهم الصحية.

المقاومة اقتنصت توقيت نشر الفيديو. فإسرائيل تشهد تغيير رئيس أركان الجيش الإسرائيلي، في ظل وجود حالة دائمة من الحديث حول صفقة مرتبقة لتبادل الأسرى بين الطرفين. فقالت حماس عبر الفيديو إن أفيف كوخافي، رئيس الأركان السابق، قد فشل في التعامل مع القضية كما يجب. داعيةً هيرتسي هاليفي، رئيس الأركان الجديد، أن يُعد نفسه جيدًا لتحمل أعباء هذا الفشل وتوابعه.

وقد اعترف كوخافي قبيل إزاحته عن منصبه أنه فشل في إعادة أبناء إسرائيل لأسرهم، وأنه يتمنى لهاليفي النجاح في تلك المهمة. صحيفة معاريف الإسرائيلية رأت في الفيديو أكثر من الفشل، رأته حربًا نفسية ساخرة تمارسها حماس ضد تل أبيب. وأن حالة الجندي الجيدة دليل على قوة المقاومة التي استطاعت الاحتفاظ به كل هذه السنوات. بينما ينشغل النظام الأمني الإسرائيلي كل ليلة بمحاولات بائسة لاسترداد الجنود الأسرى.

أما صحيفة «جيروزاليم بوست» فقد رأت في المقطع المصور جزءًا من المفاوضات لإطلاق سراح الجندي الإسرائيلي. وأن حماس تريد أن تنقل الأمر إلى أعلى الطاولة بدلًا من الحديث السري. لتستطيع بذلك التفاوض على عدد معتبر من عناصر الحركة، خاصة المرضى وكبار السن الذين قضوا سنوات كثيرة في الحبس.

إسرائيل تماطل

تلك المفاوضات ليست سرًّا. فمقترحات حماس لمن تريد مبادلتهم قد وَضعت على مكتب رئيس الوزراء السابق يائير لابيد. لكن توقفت المحادثات حول تنفيذه خلال الحملة الانتخابية الأخيرة. لكن رئيس الوزراء الحالي، بينيامين نتنياهو، يدرس إمكانية إعادة تعيين منسق جديد لشئون الأسرى والمفقودين. خاصة بعدما أنهى يرون بلوم مهام منصبه مؤخرًا.

في ظل هذا الارتباك في القيادات السياسية الإسرائيلية تأتي حماس لتضغط على الرأي العام الإسرائيلي بشأن الجنود الأسرى. خصوصًا أن أبراهام منجستو، الجندي الذي ظهر في المقطع المصور، واحد من اثنين تحتجزهما الحركة. بجانب احتجازها لرفاة اثنين قُتلا أثناء القتال مع جنود المقاومة المتمركزين في غزة عام 2014. ولم تثمر المفاوضات التي انخرطت فيها إسرائيل طوال تلك السنوات عن أي نتيجة.

حتى ذلك المقطع الأخير فإن هناك احتمالًا أن لا يؤدي إلى شيء. فإسرائيل لا تزال تنكر أن يكون من الفيديو هو منجستو أصلًا. قالت القيادة العامة الإسرائيلية إنها تحاول التأكد من مصداقية الفيديو، لكن الانطباع المتكون لديهم هو أن الفيديو غير حقيقي، أو على الأقل تم تسجيله في وقت سابق. خصوصًا أن هذا الفيديو على عكس المعتاد من فيديوهات حماس للأسرى، لا توجد فيه أدلة تثبت متى تم تسجيله.

حتى أسرة منجستو تضاربت أقوالها حول كون من بالفيديو هو ابنها أم لا. خصوصًا أن العائلة لم تشاهد أي صور له منذ عبر لقطاع غزة منذ ثماني سنوات. كان أول تعرف للعالم على منجستو هو التسجيل الصوتي الذي نشرته حماس لشخص يدعي أنه جندي إسرائيلي، وتداولت وسائل الإعلام الإسرائيلية الصوت ونسبته لمجنستو. لكن حتى اللحظة تتحفظ قيادة الجيش الإسرائيلي على وصف منجستو بالجندي، مؤكدًا أنه لم يعمل لصالحها في أي وقت، كما أنه يعاني من مشاكل نفسية، وفقًا لعائلته.

المقاومة بخلق ضغط شعبي

كما أنه من المستبعد أن ترضخ إسرائيل بسهولة لضغوط حماس، فإنه كذلك من المستبعد أن تقدم حماس تنازلات بشأن مسألة إفراج جماعي عن الأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال. ومن غير المرجح أن توافق أي حكومة إسرائيلية على صفقة تبادل للأسرى كالتي أبرمت عام 2011 للإفراج عن الجندي الإسرائيلي جلعاد شاليط.

حيث وصف الكثيرون في المؤسسة الأمنية الإسرائيلية تلك الصفقة بأنها صفقة مثيرة للجدل، وغير متوازنة، وتصب في صالح حماس؛ لأنه تم الإفراج عن 1027 أسيرًا مقابل شاليط فقط. كما أن المشكلة ليست عددية فحسب، بل في أن معظم المفرج عنهم يعودون لمزاولة نشاطهم المقاوم لإسرائيل، مثل يحيى السنوار، الذي خرج في صفقة التبادل، ويشغل حاليًّا منصب قائد حركة حماس في غزة.

لكن ظهور المقطع المصور، للتأكيد على وجود جنود أحياء، ربما يقلب الموازين. فحماس بذلك تمارس نوعًا من المقاومة غير المسلحة، وإرسال رسائل ردع وحرب نفسية. فكل تلك التحركات هي جزء من حرب حماس ضد إسرائيل، لكنها جزء أكبر من إرساء صورة الحركة ككيان سياسي يستطيع تجاوز فكرة القتال بالسلاح حين تضطره الظروف. وأنه يستطيع توظيف أدوات أخرى لكسب معركته، مثل الظهور الإعلامي بمقطع فيديو كالذي أثار كل هذا الجدل.

لكن في الوقت نفسه تأكيد أن السياسي لا يتحرك دون أن يرافقه المقاوم. فقد تعددت تلك الأدوات مثل الإفصاح عن وحدة الظل التي تم تأسيسها عام 2006، وتم الكشف عنها عام 2016. تلك الوحدة هي التي تُعنى بتأمين الجنود الأسرى لدى المقاومة. ثم نشرت القسام صورة أرشيفية للجنود الأسرى عندها في أبريل/ نيسان عام 2016. ثم سربت خبر انهيار الجندي راؤول شارون بعد مشاهدته لجنازة والده. وفي عام 2020 نشرت خبرًا عن تعرض جنود أسرى لديها لإصابات بسبب قصف إسرائيلي.

نتنياهو قد يربح أيضًا

ويمكن رؤية سياق الفيديو بشكل أوسع حين نعود بالخلف بضعة أسابيع. حين هدد يحيى السنوار إسرائيل بأن أمامها وقتًا محددًا لإتمام الصفقة أو إغلاقها للأبد. التهديد جاء في ديسمبر/ كانون الأول 2022، في الذكرى رقم 35 لانطلاق حركة حماس. ولن تستطيع حماس الصبر لأعوام أخرى في تلك الصفقة، خصوصًا في ظل الأخبار الواردة عن تردي الأحوال المعيشية لنحو 5 آلاف أسير في سجون الاحتلال الإسرائيلي.

حاولت حماس أكثر من مرة أن تحرك مسألة تبادل الأسرى. فمثلًا في ظل جائحة كورونا أبريل/ نيسان 2020 حين عرض السنوار تنازلًا جزئيًّا في القضية. يقضي التنازل بالإفصاح عن معلومات بخصوص مصير جنديين إسرائيليين، وإطلاق الاثنين الآخرين، شريطة أن تفرج إسرائيل عن المرضى وكبار السن والأطفال والأسيرات.

لكن تجاهل الجانب الإسرائيلي تلك المهلة، ما يضع حماس في مأزق لضرورة إثبات جديتها في تلك القضية، فلا يمكن أن يخرج السنوار مرة أخرى متوعدًا ومهددًا أن يُظهر قدرته على تنفيذ تهديداته، خصوصًا أن قطاع غزة يعاني انهيارًا كبيرًا في قطاعات عدة، فربما يفاوض السنوار على مسألة رفع الحصار إلى حين، حتى يسترد أهل غزة أنفاسهم بعد تلك السنوات الطويلة من الحصار المر.

على الجانب الآخر فإن نتنياهو وحكومته، رغم وصفهم بالتطرف، إلا أنه من المحتمل أن يجد الرجل في هدنة طويلة مع حماس حلًّا مؤقتًا لكابوس المقاومة. خصوصًا أن الحروب الإسرائيلية المتتابعة على القطاع قد فشلت في تحقيق أي إنجاز يُذكر. بل على العكس، قد أيقظت إسرائيل دون وعي مقاومةً جديدةً في الضفة الغربية. ووأد تلك المقاومة الوليدة، والمتصاعدة، ربما يكون أولوية لنتنياهو قبل العودة مرة أخرى للمعركة القديمة مع حماس.

الأيام في تلك الصفقات هي الشهور، لذا فالحديث عن صفقة قريبة قد يعني بعد بضعة أشهر. لكن يمكن القول إن العام الراهن ربما سيكون أفضل على الأسرى الفلسطينيين، وقد يشهد في أي لحظة من لحظاته خروجًا للعديد منهم، كما قد يشهد نتنياهو انتعاشة قوية إذا استطاع أن يُتمم تلك الصفقة، خصوصًا أن أسرهم كان أثناء وجوده في سدة الحكم، ويمكنه أن يعيد توجيه الضغط الشعبي الذي خلقته حماس للضغط عليه إلى قاعدة شعبية تناصره.