في عام 2014، تولى حسام حسن تدريب الاتحاد السكندري. قناة النيل للرياضة كانت حتى ذلك الوقت تجري لقاءاتها من الملعب مع المدربين واللاعبين عقب المباريات. أثناء المقابلات مع حسام حسن، كان أحد المشجعين يقف في الخلفية محاولًا جذب الكاميرا. يصدر المشجع إشارات كوميدية بينما يصطنع الجدية والانشغال عبر الإمساك بالهاتف مثلًا أو استراق النظر إلى الكاميرا التي يمثل الإشاحة عنها. كان ذلك المشجع يسعى أحيانًا لإزاحة حسام حسن نفسه من المشهد بأي طريقة بما في ذلك الهتاف لحسام والاتحاد السكندري. سنوات قليلة ستمر قبل أن يتحول هذا المشجع إلى نجم السوشيال ميديا «عادل شكل».

لا يملك شكل أي مواهب خاصة يحاول من خلالها الترويج لنفسه، سوى ربما كوميديا جسدية مصحوبة بغرابة أطوار تصنع المفارقات التي تكسر الرتابة باستمرار. إلى جانب ذلك، يوظف شكل ثقافته المحلية لاصطناع استعاراته الكوميدية من نوع «قطر ستة إلا تلت». لا يقدم شكل أي مضمون محدد، كوميدياه نفسها عفوية إلى حد بعيد. مع ذلك، فهنا بالضبط، حيث اللامضمون، تكمن أهمية «شكل».

في مصر، كما في غيرها غالبًا، يعد الظهور في التلفزيون علامة على المكانة والأهمية. يكفي أن تقول، إن هناك كاميرا تلفزيون في المكان حتى تسري كهرباء الانتباه في الحضور: تعديل الهندام، المعاناة بين محاولة إظهار العفوية واللامبالاة تجاه الكاميرا ومحاولة لفت انتباهها في الوقت نفسه. اكتسب التلفزيون تلك المكانة بسبب طبيعته العمومية. لا يتناول التلفزيون الأمور الشخصية، إذن كل موضوع يطرح فيه هو قضية عامة، وبما أنها قضية عامة، فلن يناقشها سوى أصحاب المكانة، الساسة والمثقفون والصحفيون والفنانون وعلماء الدين وهكذا.

عبر سنوات، أخذ المجال العام يفقد هالته المقدسة. تراجع في جرعات السياسي والثقافي والفني لصالح الترفيهي والتسالي. كرة القدم، برامج الأبراج والطبخ، مذيعون ضعيفو الموهبة والثقافة يسيطرون على ساعات ممتدة ليقدموا «وان مان شو» بلا أي مضمون. هنا، تساءل شكل بوعي بسيط: ما الذي يجعل لاعبًا عابرًا بلا أهمية كبيرة في الاتحاد السكندري أكثر أهمية من مشجع مخلص للنادي منذ طفولته؟ إذا كانت الشاشة قد فقدت هالتها المقدسة، فبإمكان شكل أن يقتحم الكاميرا، ولن يكون سؤال مطروح من الأساس، ما الذي يقدمه «شكل»، فالجميع لا يقدمون شيئًا.

لكن ما الذي سيجعل «شكل» مع ذلك مهمًا؟ كيف سيعثر على جمهوره ويتوج نفسه بتاج «الزعامة»؟

من اقتحام الكاميرا إلى الصعود في الفراغ

منذ قديم الأزل، كانت التيارات الرئيسية التي تستمتع بالسلطة الرمزية في الحقول الاجتماعية المختلفة تزيح بدائلها إلى الهامش. التيار الديني الرئيسي مثلًا سيقصي خصومه متهمًا إياهم بالبدعة أو الهرطقة أو حتى الكفر. التيار الفني سيعتبر الأشكال الفنية المنافسة ابتذالًا يجب حماية الفن منه. لكن هذا الاستبعاد نفسه، وبهدف تقليل العنف (الرمزي والبدني) اللازم لتحقيقه، يحتاج إلى قدر من المنافسة. لن يوجه التيار الديني الرئيسي الاتهامات إلى خصومه فحسب، بل سيطرح مناظرات طويلة ومركبة لإبطال مزاعم الخصوم وأفكارهم. التيار الفني سيفعل الأمر نفسه، سيحاول تطوير أشكاله الفنية ليحافظ على رأسماله الرمزي.

لكن ما يحدث في لحظات مفرطة السلطوية، هو أن التيارات الرئيسية تحاول إقصاء الهامش من دون أي جهد لمنافسته، بل عبر القمع المفرط والمطلق فحسب. ينجح ذلك في إقصاء الهامش، لكنه يخلق فراغًا في المتن نفسه، لا بدع في الدين ولكن لا دين أيضًا، لا ابتذال في الفن ولكن لا فن أيضًا، لا معارضة في السياسة ولكن لا سياسة أيضًا. أنت هنا لست أمام شمولية كتلك التي تقرأ عنها في ألمانيا هتلر، ألمانيا هتلر كانت تسحق المختلف لكن لديها شيئًا تقوله، هنا أنت أمام استحواذ صامت، يخرس المختلف بالتأكيد، لكن ليس ليقول شيئًا، فهو لا يمتلك أصلًا شيئًا ليقوله.

أمام هذا الفراغ بما ينطوي عليه من عنف شديد، يكون اللامضمون وغرابة الأطوار هما أحد أشكال اختراق المجال العام الممكنة. عندما يريد الإنسان أن يقول شيئًا خطيرًا من دون أن يثير تهديد خصومه، فإنه يصطنع الجنون. المجنون يتكلم بلا حرج، يمكنه أن يقول أي شيء من دون أن يستفز كلامه أحدًا. هكذا كانت الروايات القديمة عامرة بالمجاذيب الناطقين بالحكمة من دون أن يلتفت إليهم أحد. «شكل» لا يود أن يقول شيئًا خطيرًا لكن بإمكانه أن يتكلم في كل شيء بطريقته الهزلية. يمكنه أن يسخر من «هاني شاكر»، أن يتهم ضابط شرطة بأنه ظلمه، من دون أن يتعامل أحد مع كلامه هذا بجدية. حتى عندما يحاول «شكل» أن يبدو مستقيمًا فيمتدح «محمد صلاح» مثلًا أو القضاء المصري، فإن كلامه سيثير الضحك لا الاحترام.

في مناخ كهذا، كل شيء فيه مصطنع ومقيد ومحدود وفارغ، تصبح العفوية في حد ذاتها ميزة. شكل لا يصطنع شيئًا، لا يصطنع حتى خفة الظل، لذلك فهو محبب للجمهور الذي سئم جدية مصطنعة لا تخفي وراءها سوى خواء تام. الجمهور لديه حنين إلى الصدق، بلا تمثيل أو اصطناع، مهما كان هذا الصدق بعد ذلك فارغًا، فالآخرون ليسوا أقل منه فراغًا.

حدود «المهرج»

صناعة الأبطال إحدى غرائز البشر، فهي تعوضهم عن النقص في الواقع، تساعدهم على تحقيق أمانيهم ولو في الأحلام. ليس أسهل بعد ذلك من إضفاء البطولة على الهوامش. الهامش، أيًا كان مضمونه، بريئًا ابتداء من كل ما يعلق بثوب السلطة، مهما كان مضمونها كذلك. الهامش حاصل على ختم المظلومية، على غموض القدوم من الظل، لذلك يسهل دومًا تعليق الأحلام عليه. في الحقيقة، «المهرج» ليس شيئًا من ذلك.

المجذوب الحكيم هو شخصية روائية لا وجود لها في الواقع. نافذة يفتحها الروائي ليرضي شهوته في الكلام. خارج الرواية، المهرج هو عنصر من عناصر الفراغ، امتداد للفراغ لا خروج عليه. عندما يحاول المهرج تجاوز ذلك الدور، عندما يزلف لسانه بما يتجاوز الخطوط الحمراء، فإن السلطة الاستحواذية لن تتعامل معه باستخفاف كمهرج. على المهرج أن يبقى مهرجًا، أما إذا تكلم في الجد فستسري عليه الأحكام التي تسري على سواه.

«رضا عبد العال» نموذج جيد لذلك. يمكن لرضا أن يهاجم هذا المدرب أو ذاك اللاعب، أن يسخر من مستوى الكرة المصرية برمتها، لكنه لا يمكن أن يذهب أبعد من ذلك. لا يمكن أن يتناول مثلًا فساد المال الكروي في مصر، علاقة منظومة الرياضة بالسلطة وعلاقة السلطة بها، تردي منظومة الإعلام الرياضي المصرية. سواء أدرك عبد العال ذلك أم لم يدركه، فإن عليه أن يبقى صامتًا حياله، وإلا جرى إقصاؤه من المشهد. مع ذلك، سيبقى «رضا عبد العال» بعفويته وهزله أقرب إلى جمهور سئم اصطناع الجدية.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.