كان شاه مدينة ترمذ (تقع ضمن أوزبكستان حاليًّا) يلعب الشطرنج مع المُهَرِّج، فحاصره المهرج في وضعية: «كِش ملك»، وقالها له صارخًا، فغضب الشاه وأخذ يضرب مهرجه بقطع الشطرنج على رأسه.

أمره الشاه (لقب الحاكم) بلعب مباراة ثانية معه، وكان المهرج يرتجف خوفًا، ورغم ذلك حاصر الشاه مرة أخرى، وحين جاءت اللحظة التي سيقول فيها «كش ملك»، قفز المهرج إلى ركن من المكان الذي كان يلعب فيه مع الشاه، وغطى نفسه بـ 6 لبادات ووضع وسائد فوقه، لينجو من ضرب الشاه له، ثم صرخ المهرج:

 كش ملك، الملك مات أيها الملك. يا أيها الغاضب الذي التف بالنار، يا من هُزِمت بفني، بينما هزمت أنا من ضربات جلالتك .. «كش ملك من تحت أغطيتك» .. كيف يمكن للمرء أن يقول لك الحقيقة «إلا من تحت غطاء!»

ما سبق هو حكاية من الأدب الفارسي، ذكرها الصوفي البارز جلال الدين الرومي في سِفره «مثنوي». والعبارة الأخيرة فيها هي ما تعنينا هنا، فهي تعبر عن العلاقة بين الحاكم والمحكوم خلال العصور الإسلامية الوسطى، حيث لا يمكن لمسئول، وبالطبع شخص عادي، أن يواجه الحاكم بنصح أو انتقاد، إلا مغلفًا بغطاء من الكلمات والتصرفات اللينة، حتى لا يغضب الأخير.

لماذا كانت تقال النصيحة من تحت غطاء وليست صريحة؟ وكيف ساهم هذا الخطاب المراوغ، الذي قد يوصف بالنفاق، في إنتاج فن أدبي عُرف بـ «أدب النصيحة»؟

لماذا «من تحت غطاء»؟

حاكم مسلم في القرون الوسطى، يعني أنه حاكم مطلق السيادة، وغضبه يمكن أن يكون قاتلاً، ويتطلب انتقاده أو توجيه النصح له إرادة قوية وشجاعة كبيرة، حسبما ترى Neguin Yavari الباحثة في التاريخ الفكري الإسلامي بجامعة كولومبيا الأمريكية.

ويذكر العلامة أبو حامد الغزالي أن الخليفة الأموي هشام بن عبد الملك (ت 125هـ – 743م) ذهب إلى مكة حاجًّا، فلما وصل قال: ائتوني برجل من الصحابة، فقيل: يا أمير المؤمنين قد تفانوا، فقال: من التابعين. فجاءوه بطاووس اليماني.

 لما دخل عليه طاووس خلع نعليه، ولم يسلم عليه بلقب «أمير المؤمنين»، ولكن قال: «السلام عليك يا هشام»، دون منحه أي لقب أو كنية، وجلس بالقرب منه، ثم قال: كيف أنت يا هشام؟

فغضب هشام غضبًا شديدًا حتى هم بقتله، ولكنه امتنع عن قتله بعد أن نصحه من حوله بأنه في الحرم المكي في وقت الحج، وسيعد هذا القتل مخالفة شرعية.

فقال هشام: يا طاووس ما الذي حملك على ما صنعت؟ فرد طاووس: وما الذي صنعت؟ فازداد هشام غضبًا وغيظًا، وقال: خلعت نعليك بحاشية بساطي، ولم تُسلم عَلَيَّ بإمرة المؤمنين، ولم تُكَنّنِي، وجلست بإزائي بغير إذني، وقلت: كيف أنت يا هشام؟

فرد طاووس: أما ما فعلت من خلع نعلي بحاشية بساطك، فإني أخلعهما بين يدي رب العزة كل يوم خمس مرات، ولا يعاقبني، ولا يغضب عليَّ، وأما قولك لم تسلم عليَّ بإمرة المؤمنين، فليس كل الناس راضين بإمرتك، فكرهت أن أكذب.

واستطرد: أما قولك لم تكنني، فإن الله سمَّى أنبياءه وأولياءه فقال «يا يحيى، يا عيسى»، وكنَّى أعداءه فقال «تبت يدا أبي لهب». وأما قولك جلست بإزائي، فإني سمعت أمير المؤمنين عليًّا رضي الله عنه يقول: «إذا أردت أن تنظر إلى رجل من أهل النار، فانظر إلى رجل جالس وحوله قوم قيام».

هنا تراجع هشام وهدأ نسبيًّا، وقال لطاووس: عِظني، فقال: «سمعت من أمير المؤمنين علِيٍّ رضي الله عنه يقول: إن في جهنم حيات كالقلال، وعقارب كالبغال، تلدغ كل أمير لا يعدل في رعيته»، ثم قام طاووس وهرب.

أدب النصيحة: النتيجة الطبيعية للسلطة المُطلقة

في حكاية طاووس وهشام يتضح أن الحاكم كان يمكن بسهولة أن يقتل بلا رادع، لمجرد أنه غضب، لولا الهالة الدينية التي أحاطت بالناصح كأحد التابعين، ولولا الظرف المكاني والزماني الذي قيلت فيه النصيحة.

ونلاحظ أيضًا أن الرجل خاف وهرب بعد نصيحته التي كانت فجة وبها ما يشبه السب المستتر لهشام. وربما كان هذا سببًا أساسيًّا من أسباب ظهور ما عرف بـ «أدب النصيحة» خلال القرون الوسطى.

ونستشف من خلال أديبات النصح أن هناك قاعدتين أساسيتين جدًّا ضمن قواعد أدب النصح، أولاهما: التبجيل المبالغ فيه للحاكم قبل الإسداء بالنصيحة ليحافظ الناصح على نفسه، ثانيهما: استعانة الناصح بكل ما أوتي من بلاغة وعلم ديني وفلسفي.

الناصح للسلطان هو في الغالب شخص قريب منه، يستطيع أن يلتقيه باستمرار. ورأى الأديب المسلم الفارسي عبد الله بن المقفع (ت 142هـ – 759م) أن القرب من الحاكم، بسبب منصب أو أي شيء آخر هو ابتلاء.

لهذا قدم ابن المقفع نصائح لهذا الشخص القريب من السلطان، تنم عن مدى سطوة الحاكم في هذا التوقيت، والتي توجب مهادنته والحذر والخوف منه لأقصى درجة، بل توجب الحرص على ألا يقع في قلب هذا الشخص القريب من الحاكم ولو مجرد عتاب لسيده، وكأن هذا الوالي أو السلطان أو الملك أو الخليفة شخص منعدم الأخلاق، حيث يقول ابن المقفع:

إن ابتليتَ بصحبة السلطانِ فعليكَ بطولِ المواظبة في غير معاتبةٍ، ولا يحدثنَ لك الاستئناسُ به غفلةً ولا تهاونًا … إياك أن يقع في قلبك تَعَتُّبٌ على الوالي أو اسْتِزْراءٌ لهُ، فإنهُ إن وَقَعَ في قلبك بدا في وجهكَ إن كنت حليمًا، وبدا على لسانكَ إن كنتَ سفيهًا … كن في مداراتهِ والرفقِ به كالمُؤْتَنفِ ما قبلهُ، ولا تقدرِ الأمر بينكَ وبينهُ على ما كنتَ تعرفُ من أخلاقهِ، فإن الأخلاقَ مستحيلةٌ مع المُلك … ولا تعدن شتم الوالي شتمًا، ولا إغلاظهُ إغلاظًا».

هكذا يوصي ابن المقفع الشخص القريب من الحاكم بتجاوز أي إهانة منه. كما يوصي بتجنب الشخص الذي غضب عليه الحاكم أو فقط يظن به ظنًّا، لدرجة عدم الاجتماع معه في مكان، حيث يقول: «لا يجمعنكَ وإياهُ مجلسٌ ولا منزلٌ».

لما سبق ويجوز لأسباب أخرى يرى ابن المقفع أنه لا سبيل ولا فائدة من مواجهة الحاكم بالنقد الصريح، وينصح بالابتعاد عن ذلك، ويقدم حلولًا للشخص القريب من الحاكم، تريحه من عذاب الضمير وتحافظ على حياته، حيث يقول:

إن ابتليتَ بصحبةِ والٍ لا يُريدُ صلاحَ رعيتهِ فاعلم أنك قد خُيرت بين خُلَّتينِ ليس منهما خيار: إما الميل مع الوالي على الرعيةِ، وهذا هلاكُ الدينِ. وإما الميل مع الرعية على الوالي، وهذا هلاكُ الدنيا، ولا حيلةَ لكَ إلا الموت أو الهرب.

وبشكل عام ينصح ابن المقفع بعدم محاولة إثناء الحاكم عن رأيه، أو محاولة تغييره، ويرى ذلك مستحيلًا، ولكن ما يمكن، هو التركيز على الجانب الإيجابي من الحاكم، وتدعيمه وإعانته عليه، حيث يقول:

ولكنكَ تقدر على أن تعينه على أحسنِ رأيهِ، وتُسددهُ فيه وتُزينه، وتُقوِّيه عليهِ. فإذا قَوِيَت منهُ المحاسن كانت هي التي تكفيكَ المساوئ. وإذا استحكمت منهُ ناحيةٌ من الصوابِ كان ذلكَ الصوابُ هو الذي يبصِّرهُ مواقع الخطأ بألطف من تبصيركَ وأعدل من حكمكَ في نفسهِ؛ فإن الصوابَ يؤيدُ بعضهُ بعضًا ويدعو بعضهُ إلى بعضٍ، حتى تستحكم لصاحبه الأشياءُ، ويظهر عليها بتحكيمِ الرأي، فإذا كانت لهُ مكانة من الأصالة اقتلعَ ذلك الخطأ كله.

الغطاء الذي تقال من تحته النصيحة

الناصح أو المنتقد للملك لا بد أن يغلف نصحه بعبارات تحميه، فيها توقير وتبجيل للحاكم، وإشعار بالخضوع له، ثم الإفصاح عن النصيحة بشكل جزئي، بالإيماء والتلميح وشيء من جسد الحقيقة نفسها، وتبيين الناصح أنه ليس له مصلحة من وراء هذا النصح، وإنما الفضيلة فقط هي التي دفعته لذلك.

ويتطلب الأمر هنا مهارات بلاغية، من استعارات وكنايات وحكي حكايات وإعطاء أمثال وحكم وأقوال مأثورة، واستشهادات دينية من القرآن والسنة وأقوال الصحابة وما شابه ذلك.

يمكننا أن نلحظ ذلك في أعمال عالمين مهمين مارسا أدب النصيحة في العصور الإسلامية الوسطى، ووضعا له قواعد، وهما أبو الحسن الماوردي (ت 450هـ – 1058م)، الذي ألَّف «نصيحة الملوك»، وأبو حامد الغزالي (ت 505هـ – 1111م)، الذي وضع «التبر المسبوك في نصيحة الملوك».

نصائح الماوردي محصنة بالدين والفلسفة

قبل أن يبدأ نصائحه حصَّن الماوردي نفسه بإضفاء القدسية على ما سيقوله، بأنه ليس بكلامه وإنما هو علم شرعي وهو مأمور بإبلاغه؛ فيفتتح كتابه بتبرير لعمله، ولماذا وضعه، حيث يستشهد بالحديث المنسوب إلى النبي: «إنما الدين النصيحة. قيل لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وجماعتهم».

 وكذلك يوضح الماوردي في مقدمة كتابه أن لديه علمًا ولا بد أن يبلغه، وأن هذا العلم مستقى من كتاب الله، مستشهدًا بآية:

إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَٰئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ.
سورة البقرة، آية 159

وكذلك آية:

وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ[…]
سورة آل عمران، آية 187

وبحديث النبي:

من كان عنده علم فكتمه ألجمه الله بلجام من نار يوم القيامة.

ثم يسوق الماوردي الكثير من الحِكم والأقوال المأثورة التي توضح أن الحكام هم أولى الناس بتوجيه النصح لهم، لأن «في صلاحهم صلاح الرعية وفي فسادهم فساد البرية». ثم يؤكد أنه ألَّف كتابه نصيحةً للملوك، و«إظهارًا لمحبتهم، وإشفاقًا لهم على أنفسهم ورعاياهم».

وكان الماوردي قاضيًا، ووصل إلى منصب «قاضي القضاة» في بغداد، وكان من رجال السلطة رفيعي المستوى في الدولة العباسية، وعاصر الخليفتين القادر بالله، والقائم بأمر الله العباسي.

قسم الماوردي كتابه إلى 10 أبواب، كلها تتضمن آراءً فقهية، مدعومة بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية، وحكايات من أخبار السابقين، كذلك ضَمَّنها أقوالًا لفلاسفة كأرسطوطاليس.

أول أبواب الكتاب كان «في الحث على قبول النصائح»، ثم تلاه باب «في الإبانة عن جلالة شأن المُلك والملوك وما يجب عليهم أن يأخذوا به أنفسهم من الخلال التي تشاكل منازلهم وتضاهي مراتبهم»، ونلحظ من صياغة عنوان الباب الثاني مدى التبجيل والتقدير الذي يضفيه على الحكام.

وبعد المقدمة والبابين السابقين أصبح من المناسب أن ينطلق الماوردي في النصح، مع الحفاظ على لغة مهذبة متحصنة ومُدرَّعة بسلطة الدين، فيأتي الباب الثالث بعنوان: «في الخِلال التي من جهتها يعرض الفساد في الممالك والملك»، ثم الباب الرابع: «في فصول المواعظ التي ينتفع بها، وتعالج بها قساوة القلوب، ويتداوى بها من أمراض الأهواء وأسقام الشهوات».

وجاءت الأبواب من الخامس إلى العاشر كالآتي: «في سياسة النفس ورياضتها، في سياسة الخاصة من الأهل والولد والقرابة والجند، في سياسة العامة وتدبير أهل المملكة، في تدبير الأموال: جمعها وتفريقها، في تدبير الأعداء».

ويختتم الماوردي كتابه بباب «في تقديم النيات وطلب التأويلات لكثير مما يجري بيانه على أيدي الملوك، مما يكرهه كثير من العلماء والعقلاء»، وهو فصل يوضح أن على العلماء والحكماء ممن يَنْتَقِدون أو يُعَلِّقون، أن يلتمسوا العذر للحاكم في أمور يبدو ظاهرها سيئًا ولكن قد يكون للسلطان فيها رأي آخر، وبالطبع لا يخفى أن هذا الباب له فائدة بالنسبة للماوردي، تقيه غضبه إن قرأ الفصول السابقة، فهو يشرعن من طرف خفي أخطاء الحاكم، ويعطي تبريرًا لأي فعل قد يستهجنه الناس.

الغزالي ونكاته وحكاياته الوعظية

أما الغزالي فصاغ مقدمة كتابه كرسالة أو خطاب إلى السلطان السلجوقي محمد بن ملكشاه (ت 1118م)، يسدي إليه النصح والموعظة من خلالها.

وكان الغزالي مقربًا من السلطة في الدولة السلجوقية، وخاصة من وزيرها القوي الشهير نظام الملك (ت 1092م).

وقبل أن يبدأ الغزالي في نصحه قال: «اعلم يا سلطان العالم، ملك الشرق والغرب …»، فيما يبدو وكأنه يتملق ابن ملكشاه، حتى يأمن غضبه من أي نصح قد يبدو حادًّا سيسديه له.

وخارج هذا الكتاب، كرر الغزالي نفس الاستراتيجية حين وجه رسالة نصح إلى السلطان السلجوقي أحمد سنجر (ت 552هـ – 1157م) أخي محمد بن ملكشاه، حيث بدأها بالدعاء له، بقوله: «متع الله ملك الإسلام من مملكة الدنيا، وأعطاه سلطنة في الآخرة تكون سلطنة الدنيا إلى جنبها مقبرة مختصرة …».

دارت المقدمة حول التقليل من قيمة الدنيا والإعلاء من قيمة الآخرة، كما ذَكَّر السلطان السلجوقي بنعم الله عليه التي توجب الشكر، وكذلك قَدَّم نصائح حول قيمة الإيمان بالله، ثم قيمة الصلاة والعبادات عمومًا.

بعد ذلك بدأ بتفصيل مجموعة مبادئ حول سلامة العقيدة في الله ورسوله ويوم القيامة.

ثم شَرَح الغزالي ما وصفها بـ «أصول العدل والإنصاف» التي حددها بـ 10 أصول، بدأها بالحديث عن الولاية وقدرها وخطرها، ثم الحديث عن ضرورة قرب السلطان من العلماء والاستماع إلى نصحهم، أما الأصل الثالث فهو تعليم العدل لمعاني السلطان وتهذيبهم، وكان التحلي بشيم العفو والكرم والتجاوز هو الأصل الرابع الذي يكسر به السلطان غروره وكبره.

أما الأصل الخامس فتناول خلاله «ما لا ترضاه لنفسك فلا ترضه لغيرك من المسلمين»، ثم جاء عدم احتقار أرباب الحوائج ووقوفهم بباب السلطان، كأصل سادس، أما الأصل السابع فكان عدم الاشتغال بالشهوات كلبس الثياب الفاخرة، وأكل الأطعمة الطيبة، وغيرها.

في الأصل الثامن أوصى الغزالي السلطان بالرفق واللين في الأمور التي لا توجب الشدة، وفي الأصل التاسع أوصاه بالاجتهاد في موافقة الشرع لكي يرضي الرعية من خلاله، أما الأصل العاشر فهو بمثابة تكملة للأصل التاسع ومضمونه «عدم إرضاء الناس في شيء يخالف الشرع».

ثم يوضح الغزالي أن للإيمان عينين هما مشرب شجرة الإيمان، الأولى هي: في معرفة الدنيا ولما أُوجِدَ فيها الإنسان، والثانية: معرفة النَفَس الأخير، وفيها يتناول قيمة الآخرة ووداع الدنيا.

بعد ذلك يبدأ الغزالي في سرد أبواب كتابه وعددها 7، يبدؤها بـ «في ذكر العدل والسياسة وذكر الملوك وسيرهم»، ثم «في سياسة الوزارة وسيرة الوزراء».

وجاءت باقي الأبواب كالتالي: «في ذكر الكتاب وآدابهم، في سمو همم الملوك، حلم الحكماء، شرف العقل والعقلاء» واختتمها الغزالي بباب «في ذكر النساء».

واعتمد الغزالي في مقدمته، وباقي الكتاب، على تكتيك الاستعانة بحكايات ونكات مأثورة عن الخلفاء والصحابة والنبي، وممن يُقتدى ببعض أقوالهم كالفلاسفة اليونانيين كسقراط وأرسطو، كما فعل الماوردي، ومن خلال تلك الحكايات يقدم الغزالي نصائحه.

فنجده مثلًا يستعين بحكاية مجهولة، ربما كان هو مؤلفها، ليقدم من خلالها نصيحة للسلطان عن قيمة الإنصاف والرحمة في السياسة، فيقول:

 حضر بعض الزهاد بين يدي خليفة، فقال لأحدهم عِظني! فقال:

يا أمير المؤمنين إني سافرت الصين، وكان ملك الصين قد أصابه الصمم وذهب سمعه، فسمعته يقول يومًا وهو يبكي: والله ما أبكي لزوال سمعي، وإنما أبكي لمظلوم يقف ببابي يستغيث فلا أسمع استغاثته، ولكن الشكر لله إذ بصري سالم. وأمر مناديًا ينادي: ألا كل من كانت له ظلامة (مظلوم) فليلبس ثوبًا أحمر، فكان يركب الفيل فكل من رأى عليه ثوبًا أحمر دعاه واستمع شكواه وأنصفه من خصومه.

ويكمل الغزالي نقلًا عن الزاهد المجهول حول ملك الصين المجهول: فانظر يا أمير المؤمنين إلى شفقة ذلك الكافر على عباد الله وأنت مؤمن من أهل بيت النبوة، فانظر كيف تريد أن تكون شفقتك على رعيتك.

ما سبق وإن كان يتعلق بالسلطة الإسلامية في القرون الوسطى، إلا أنه سمة أي سلطة استبدادية، حتى في العصور الحديثة، تغضب من النصح الصريح، وتبطش بمن يوجهه إليها.

ولهذا يرى جيمس سكوت، أستاذ الأنثروبولوجي والسياسة الأمريكي، أن الأنظمة المستبدة تنتج خطابين لدى شعوبها، أحدهما خطاب رسمي علني مهادن ناعم، يلجأ للحيلة والدهاء، والآخر سري حقيقي غاضب، وذلك في سبيل ما سماه بالمقاومة الناعمة للسلطة، بالتحايل عليها وعلى قراراتها بشكل غير مباشر، تجنبًا لبطشها.

 هذا الأسلوب الناعم قد يكسب الأدب المكتوب بعدًا جماليًّا عظيمًا، فاستخدام الرمزية وأدواتها اللغوية من استعارات وكنايات وتوريات ومواربات وسوق حكايات، وغيرها من أساليب رمزية، تشير للنقد والنصيحة من طرف خفي ولكنه مفهوم، يعمق النص المكتوب، ويكسبه جمالًا لم يكن ليوجد لو قيلت النصيحة أو وجه النقد للحاكم بشكل مباشر، كما يرى Jacob Høigilt يعقوب هويغيلت، أستاذ اللغة والثقافة العربية بجامعة أوسلو.

المراجع
  1. «مثنوي» لجلال الدين الرومي، تحقيق الدكتور إبراهيم الدسوقي شتا
  2. «الأدب الكبير والأدب الصغير» لابن المقفع
  3. «نصيحة الملوك» لأبي الحسن الماوردي
  4. «التبر المسبوك في نصيحة الملوك» لأبي حامد الغزالي
  5. «إحياء علوم الدين» لأبي حامد الغزالي
  6. «المقاومة بالحيلة» لجيمس سكوت
  7. دراسة بعنوان Advice for the Sultan: Prophetic Voices and Secular Politics in Medieval Islam «. لـ Neguin Yavari
  8. دراسة بعنوان « How comics can make the Arab world a better place» لـ Jacob Høigilt

المصادر: