كشفت وقائع 25 يناير وما بعدها؛ أننا بصدد جيلين مختلفين بشكلٍ شِبه كامل. وأن الجيل القديم قد استنفذ فرصه وتخلَّف عن الركب؛ حتى حقّت عليه سنّة الاستبدال، ولو اعتلى بعض رموزه صهوة الأحداث مؤقتًا. وقد زادت أحداث رابعة العدوية، وما بعدها؛ من حدّة الانقسام والمفاصلة ليس بين الأجيال فحسب، بل في داخل الجيل الجديد ذاته، وفي كل بيتٍ ومحل. فتعرى المخلَّفون، والمثبطون، والقاعدون، والمبطئون، والمنافقون، والذين في قلوبهم مرض، والقاسية قلوبهم؛ حتى يمكن القول أننا بصدد انقسام اجتماعي حقيقي على المباديء والقيم الحاكمة؛ انقسام لم تشهد الدول المسلمة مثيلًا لحدّته في الحقبة ما بعد الكولونيالية.

صحيح أن هذا الانقسام لا زال محدود الأثر في الصيرورة الاجتماعيّة، وصحيح أنه قد يبدو في أنظار البعض نخبوي الطابع؛ خصوصًا في ظل سيادة الضحالة المعرفية، وهيمنة التشوّش المفاهيمي، وتجذُّر التشوّهات الخُلُقية والقيمية، التي كرستها منظومتي الإعلام والتعليم. إلا أن الانقسام القيمي يتجلى أول ما يتجلى في الانقسام الشعوري. في انقسام المجتمع شعوريًا بين الرفض الكامل للظلم والقمع والفساد في الأرض، وبين الإذعان لهم أو التماهي معهم، وتأصيلهم باستخدام مبررات سياسية أو ديباجات شرعيّة.

وصحيح أن الحركات والأحزاب الإسلامية قد أسهمت في هذا الانقسام وهذه المفاصلة بشكل سلبي؛ إذ لم تكن هي القدوة التي تطرح القيم الإسلامية التي يتعين على المجتمع تبنيُّها والمفاصلة على أساسها، بل كانت تقريبًا هي الأنموذج الأكثر تشوّهًا، والذي رفضه الجميع؛ وإن تراوحت مواقفهم من قمعه. ومن ثم دشّن فشل هذه الحركات والأحزاب إفلاس ما سُمِّى ب: «الإسلام السياسي»، حتى لو عُلِّق الإخفاق المروع على شماعة الإفشال المتعمَّد لحُكم الإخوان، طوال العام الذي قضاه مُرسي في السلطة. وهو الفشل الذي سيكتمل بالاستئصال التام والقريب لحزب النور.

إن الانقسام الشعوري، الذي يستغرق في العادة بعض الوقت حتى يتبلور في صورة قيم تتجسَّدُ اجتماعيًّا بصورةٍ تنعقد عليها اليد؛ حقيقة لا مراء فيها. حقيقة أن هذا الجيل قد عرف ما الذي لا يريده، وبقي أن يعرف ماذا يريد.

إن الانقسام الشعوري، الذي يستغرق في العادة بعض الوقت حتى يتبلور في صورة قيم تتجسَّدُ اجتماعيًّا بصورةٍ تنعقد عليها اليد؛ حقيقة لا مراء فيها

لكن يبقى الدور الأكبر والأكثر أهميّة، والذي يجب أن يضطلع به هذا الجيل؛ وهو لعب دور الحاضن للحفاظ على الجيل القادم من التراجُعات التي قد تُعيده ثانية إلى الدرك الأسفل من التشوش القيمي. التراجُعات والموائمات السياسيّة التي قد تُعيده للمربّع الأوَّل في المتاهة التي ابتلعت الجيل السابق. وبما أن عزل الإنسان عن محيطه بحُجة الحفاظ عليه هو وهمٌ طوباوي إلحادي الطابع، فإن السبيل الوحيد للحفاظ عليه هو استمرار تغذّيه بالمنظومة القيمية المرغوبة عن طريق القدوة يليها التوجيه المباشر في بعض الأحيان. أن يتحرك الإنسان في مجتمعه وداخل تاريخه بشكل فعال؛ مُسلحًا بمنظومة قيمية نصفها مُتمثِّل في القيادة-القدوة وتواصي البيئة الاجتماعية بالحق وبالصبر، ونصفها في مكابداته الشخصية وتزكيته لنفسه. لذا، فلا مفر من تزكيتنا لأنفسنا ليستبين السبيل، ويُربَّى الجيل القادم بهذه التزكية.

هذه الحركة الغائيّة تقتضي بالتالي تشكيل شبكات مُجتمعية أفقية من ذوي القلوب المشابهة، والأحلام المشابهة. شبكات أفقية لا تتحول لتنظيمات رأسيّة، ومن ثم لا يمكن تفكيكها أو قمعها أو كسرها؛ لأنها تمثِّل الخيوط المرنة التي يُنسج منها المجتمع المفتوح، وليست خلايا صلبة في تنظيمٍ مُغلق، خيوط فذّة قد يُفرز المجتمع غيرها بسرعة؛ ليسد خروق الزمان والمكان.

وستكون هذه الشبكات قادرة على التأثير في المجتمع بغير التأثُّر بما فسد فيه، فهي شبكات علاقاتٍ إنسانية وأخلاقيّة قوامها بالأصل التواصي بالحق والتواصي بالصبر، وليس قوامها المصاهرة/صلة الدم أو الاقتصاد. إذ يجب أن يظل التواصي هو عصب العلاقة الرئيس، حتى لو دخلتها العناصر الاقتصادية والاجتماعية، فإن غلبة العناصر الأخيرة وهيمنتها سيُعيدنا لذات الهوة التي أوشكنا على الخروج منها.


لذا؛ ربّما كانت الأزمة الأكثر شراسة التي يواجهها الإسلاميون في هذه المرحلة هي أزمة البنى ذات الأسس الماديّة الصارمة: الدول، الأحزاب، التنظيمات، الشركات. بل يُمكن اعتبار أزمة البنى والتنظيمات هي أهم تجلٍّ للمأزق التاريخي الذي يواجهه هذا الجيل حائرًا: مأزق الفعاليّة الاجتماعيّة. لقد تعرّت البنى التظيميّة بعد 25 يناير بشكل فاضح، وزادت مذبحة رابعة هذا الوضع تعقيدًا، فقد جعلت مواقف تلك البنى من وجودها سبّة، ومن الانتماء لها عارًا يجب الدفاع عنه، لو بشكل غير مباشر!

ولعلّه من فُحش الخطأ التعاطي مع أزمة التنظيمات باعتبارها أزمة تقنيّة/إجرائيّة سببها الوحيد هو هرميّة التنظيم. فإن التعاطي مع الأمر من هذه الزاوية سيجعل المتلقي يدور في دوائر تلتف به حول نفسه مثل الشرنقة؛ ليختنق آخر الأمر بيديه. إن هرميّة التنظيم مُجرَّد عرض للمرض، وعدم كفاءة التنظيم الهرمي وقابليته للتقويض بسهولة ليست هي أزمة «العمل الإسلامي». إن الأزمة الحقيقيّة هي الوجهة التي يقصدها التنظيم، والتصوّر الذي يملأ النفس عن هذه الوجهة. هذا التصوّر الممسوخ هو الذي يجعل من الأيديولوجيات الإسلامية الصلبة أكثر تقبُّلًا لهرميّة التنظيم، وهو أيضًا الذي يُقوِّض التنظيمات ويُحطِّم أيديولوجياتها على صخرة الواقع. إن الإنسان قد يتحمَّل أقذر إفرازات هرميّة القيادة في سبيل المكاسب الدنيوية/الطوباويّة الموعودة التي تُبشِّره بها الأيديولوجيا، لكنه يعجز عن ذلك كليًا إذا بدا له أن المكاسب الآجلة في عالم الشهود لا تستحق الثمن الذي يدفعه عاجلًا. إن من يدخُل من باب المكاسب الدنيوية (سياسية، اقتصاديّة إلخ) يخرج من ذات الباب!

لقد كان أستاذنا بيغوفيتش يرى أن أيّة بنية لا تتماسك لبناتها بالملاط الظاهر، بل بالرؤية الكامنة خلف نسب المواد المستخدمة في الملاط! إذ أن أيّة بنية لا تتكون آليًا وتلقائيًا من مواد ميّتة بشكل إجرائي مُحايد، ومنفصل عن القيمة، بل هي أصلًا وابتداءً تتشكَّل بيد الإنسان، وحسب صورة ذهنيّة مُسبقة تُعبّر عن قيمة مُعينة، وعن هويّة معينة، وعن وجهة معينة، وعن مسار مُعيّن يقود لتلك الوجهة. إن أزمة البنى والتنظيمات في «العمل الإسلامي» ليست أزمة تنظيم وإجراءات تقنيّة حداثيّة بقدر ما هي أزمة انتكاس تصوّرات العاملين الحركيين عن الإله والكون والإنسان، ولطبيعة العلاقات بينهم؛ إلى تصوّرات حداثيّة مُعادية للتوحيد ومخالفة من ثم لمقتضياته. إن أزمة البنى والتنظيمات ليست في كونها تعبيرٌ حداثي ذي وجود حادث، بل في كونها مسخٌ تجريبي مُلفَّق لم يصدُر عن اجتهادٍ حقيقي مُعتبر تتم مراجعته باستمرار، بل كان مُجرَّد مسعى قاصر معرفيًا للدمج الاجتماعي، وإن تم «تأصيله» لاحقًا، بأدواتٍ فقيرة؛ لإضفاء المشروعيّة على الوجود التنظيمي، وكفّ أيدي النقّاد عنه. إن البنى والتنظيمات الجاهليّة هي مُحض تجسُّدٍ للتصوّرات الجاهليّة.

إن أزمة البنى والتنظيمات تعود لتشوّه تصوّر المسلمين لمفهوم الحركة الإسلاميّة، باعتبارها تنظيمًا مُغلقًا يعمل داخل المجتمع على النمط الحزبي/الطائفي/الكنسي

وفي هذا العَرَضْ المشوِّه يلتقي الأزهريون مع الإخوان والسلفية الحزبيّة والتصوّف الطرقي، وأكثر الإسلاميين؛ في ظاهر أمرهم، وإن كان التقاؤهم أعمق من ذلك. فمثلًا جعلت هرميّة التنظيم من دمج الأزهر في بنية الدولة الناصريّة أمرًا غاية في اليُسر (أيسر من دمج الشيوعيين!)، كما يسّرت من قبل دمج قُطعان كبيرة من الأزهريين في جماعة البنّا الأولى؛ حتى كان أكثر رعيله الأول وأقرب أصدقاؤه من بينهم. وكما مدح الإمام المراغي الأستاذ البنا وأثنى على نشاطه، كان طبيعيًا أن يُفضِّل الباقوري (مثلًا!) هرميّة الدولة، الأكثر استقرارًا؛ مُتخليًا عن هرميّة تنظيم الهضيبي الهشّة والمهدَّدة. كذا؛ جعلت البنية الهرميّة للتنظيم الإخواني، خصوصًا في التجلي الأكثر صلابة والمتمثّل في «النظام الخاص»؛ جعلت من دمج بعض قياداته (مثل عبدالرحمن السندي) في النظام الناصري أمرًا أيسر كثيرًا من المتوقَّع، بل ومهّدت الطريق لدمج البقيّة الباقيّة من كوادر «النظام الخاص» في النظام السياسي للسادات، بعد أن كسر ناصر شوكتهم بالاعتقال ودجَّنهم بالتعذيب، فرضوا، ولو ظاهرًا؛ بالمشاركة السياسيّة بدلًا من المغالبة القيميّة-الاجتماعيّة.

ولاحظ أن جلّ قيادات الجماعة التي تولَّت كبر العمل السياسي منذ السبعينيات هم المنسوبين للنظام الخاص (مصطفى مشهور ومهدي عاكف مُجرَّد أمثلة!). إذ على عكس ما يتوهَّم البعض؛ كان «النظام الخاص» أحد أهم آليّات دمج الإخوان المسلمين في بنية النظام السياسي ما بعد الكولونيالي، كما صارت صلابة الخلايا والتنظيمات الجهاديّة هي باب اختراق أجهزة الاستخبارات لها، وسيطرتها على أكثرها، وتوظيفها فيما يُناقض أهدافها بسهولةٍ ملحوظة! أما السلفيّة الحزبيّة والتصوّف الطرُقي؛ فإن مواقفهم السياسيّة المنبطحة للدولة، خصوصًا منذ 25 يناير؛ أكثر افتضاحًا من أن نتناولها، فلا زالت وساخاتها طريّة في الذاكرة الجمعيّة!

لقد كان جوهر علاقات السادات وناصر بالإخوان المسلمين في مجمله صراع سلطة لفرض الهيمنة. صراع كَتَبَ فيه المنتصر سرديّته التاريخيّة التي أذعن لها المهزوم، الذي لم يحظ سوى ببضعة مقاعد في برلمان مبارك، بعد عقود من الاضطهاد سمحت بتدجينه؛ ليُستخدم كفزاعة في مواجهة الغرب والرأي العام الداخلي! صحيح أن بعض الحالات الفرديّة قد لا ينطبق عليها هذا التصوّر برأيي، ولا يُمكن من ثم اعتبارها تجسيدًا لصراع سلطة محض، ومنها مثال المستشار حسن الهضيبي، المرشد الثاني؛ لكن التوصيف بهذا القدر من التعميم يصلح لقراءة حالة الصراع في مجملها، وبغير تفصيل.

إن أزمة البنى والتنظيمات تعود في القسم الأكبر منها لتشوّه تصوّر المسلمين لمفهوم الحركة الإسلاميّة، باعتبارها تنظيمًا مُغلقًا يعمل داخل المجتمع على النمط الحزبي/الطائفي/الكنسي؛ ليتعامل الجميع مع الإسلام باعتباره «نحلة» سكونيّة لا تقتضي تغيير خارطة النفس والوجود بالتزكية والدعوة إلى الله بالنفس، وإنما هدفها الوحيد تزويد «المؤمن» بديباجات لاهوتيّة تمنحه سلامًا نفسيًا (هشًا)، وخلاصًا فرديًا؛ لتترك المجال العام لتخرُّصات السلطة ومنظريها. ومن ثم ارتبطت الفعاليّة الاجتماعيّة، باسم الإسلام؛ في روع المسلمين بطلب الدنيا، أو الحرص على المكسب اﻵني. وقد استبطن المسلمون التصوّر وغار في نفوسهم عميقًا، فتحرّكوا بموجبه، رفضًا وتأكيدًا؛ بغير وعي، برغم أنه مُناقض لتصوّراتهم الواعية! وانقسم المسلمون إما لانسحابيين من المجال العام بدعوى عدم تدنيس «النحلة» التي ينتحلونها، وبدعاوى أخرى أكثر تهافُتًا؛ وآخرين ولغوا في هذا المجال العام بقواعد ومعايير مُخالفة لما درجوا عليه، وعلى أرضيّة مخالفة لما خبروا في الكتب، وفي واقع أكثر تركيبية من واقع «السلف الصالح» الذي يحاولون إسقاط تفاصيله بحذافيرها على اللحظة التاريخية الراهنة. إن السبب الرئيس لأزمة البنى والتنظيمات هو التواطؤ الضمني للمسلمين المحدثين والأنظمة ما بعد الكولونيالية والغرب؛ على حصار الفعاليّة الاجتماعيّة باسم الإسلام في الصورة الحزبيّة التي لا مُتنفَّس لها سوى الواقع الشائه والنموذج الشائع للمشاركة السياسيّة وفق النمط الغربي، المرتبط تاريخيًا بالنشاط الاقتصادي الرأسمالي. إنه في حرص الجميع على أدلجة أي فعل اجتماعي تاريخي باسم الإسلام، ومن ثم حصر الفعاليّة الإنسانيّة والاجتماعيّة في أضيق نطاق، بالمخالفة للسيرة والسنّة النبويّتان، على صاحبهما أفضل الصلاة والسلام.

وثمة ثلاثة أسباب، في نظرنا؛ لأزمة التصوّر وردّة الخطاب التي انتكست بالإسلاميين، منذ سبعينيات القرن العشرين؛ إلى مأزق البنى والتنظيمات، وفاقمت الأزمات التي كمُنت قبلها بعقود في دروب «العمل الإسلامي».

أولها هو البقايا الأيديولوجيّة التي حملها اليسار المتحوِّل للإسلام، في ستينيات وسبعينيات القرن العشرين؛ والتي أدت ليس لأدلجة الإسلام فحسب، وظهور ما عُرف لاحقًا باسم «الإسلام السياسي»؛ بل وساهمت في علمنة الإسلام وتفريغه من محتواه أيضًا، لحساب مقولات أيديولوجية وضعيّة. ذلك أن اليسار الذي استنزفه إخفاق المشروعات القوميّة في العالمين العربي والإسلامي، قد وجد فيما سمّاه بـ«المشروع الإسلامي» بديلًا صراعيًا مُناسبًا لمجابهة الصهيونيّة والإمبريالية على نفس الأرضيّة النسقيّة. ولاحظ أن أكثر اليسار المتحوِّل للإسلام هم من «المفكّرين» المبرّزين والمؤثرين في أوساط الإسلاميين اليوم (أمثال: محمد عمارة، جلال كشك، طارق البشري، منير شفيق، عادل حسين، والقائمة تطول).

وقد استصحب هذا اليسار مفاهيمه الخاصّة وبناه العقليّة والجدليّة القديمة، ومنطلقاته الوضعيّة، وأنساقه الصراعيّة الشركيّة، التي سعى لأسلمتها؛ وفي هذا يتكشَّف لنا سبب الأزمة الثاني: إعادة تعريف الفعاليّة الاجتماعيّة في الإسلام باعتبارها الارتباط بالواقع الآني ومحاولة إدارته، سياسيًا واقتصاديًا؛ بدلًا من العمل على تغيير بنية الاجتماع الإنساني وترقية تصوّراته، ومن ثم تغيير وجهته؛ من خلال الدعوة إلى الله بالنفس والأهل والولد. الارتباط بما يُعجب الناس ويُريحهم ويحظى بقبولهم، بغض النظر عن تهافُت مصدر مشروعيّته. أما ثالث هذه الأسباب، فلا ينفصل قطعًا عن سابقيه؛ بل يتصل بهما بأوثق الأسباب. فقد انتقل زمام القيادة الاجتماعيّة والفكريّة، مطلع القرن العشرين؛ من الجماعة العلميّة الوسيطة، التي مثّلت القيادة الاجتماعيّة الحقيقيّة طوال قرون؛ إلى مثقفين حداثيين (على النمط الغربي) استطاعوا تجديد الخطاب الإسلامي، استجابة لأسئلة الصحوة والإحياء الملحّة اجتماعيًا.

وهم إن كانوا قد عجزوا أحيانًا عن تجذير خطابهم في تربة الإسلام وتأصيله من الوحي وسيرة الموحى إليه، عليه صلوات الله وسلامه؛ إلا أنهم كانوا أسرع استجابة وأوفر مقدرة على فهم الواقع والتعامُل معه بقدر من الإخلاص الملحوظ، وإن شاب إدراكهم ومسالكهم تشوّهات واضحة. لقد كانوا أسبق وأقدر على حمل لواء التجديد من جماعات المجاورين والمُعمَّمين الجُهّال، حُفّاظ المتون العاجزين عن التعاطي الفعّال مع الواقع، سواء ولغوا فيه أو انسحبوا منه. لقد اختفى العالم-العامل المجتهد-المجاهد، أو كاد؛ ليس لحساب المثقَّف الحداثي الذي اتخذ من التنظير مهنة، بل لحساب السلطة التي كان قيِّمًا عليها طوال قرون نيابة عن المجتمع. ولذا؛ لم يكُن ثمة بديل اجتماعي حقيقي لدور الجماعة العلميّة إلا بظهور هذه الطبقة من المثقفين الحداثيين، وانتظامها، إلا من رحم ربّي؛ وفق ما تعرف من أنماطٍ حزبيّة. وقد وجد العالم-العامل، الطامح للفعالية الاجتماعية؛ وجد نفسه مدفوعًا لتبنّي ذات الأشكال والأنماط الحزبيّة القديمة قدم الإنسانيّة، والتي اكتسبت مركزيّتها المعاصرة من المركزيّة الأوروبيّة ذاتها.

وقد كان لهذه المركزيّة المعرفيّة وأنماطها الدور الأهم في إعادة إنتاج البنية المذهبية/الطائفية في الثورة الإسلاميّة في إيران؛ فقد استعادت الحداثة مواريثًا جاهليّة جمّة ومنحتها مركزيّة إنسانيّة ومعرفيّة، وبدل أن يُحرر المجتهد-المجاهد الإيراني نفسه وإخوانه من المسلمين، استعاد هو اﻵخر بنيته التاريخية المغلقة، ولم تكن النتيجة مجرد ترسَّخ تقليد المرجعيّة في ثوب حداثي فقط، بل صارت نيابة الفقيه عن الإمام الغائب؛ نيابة حزبيّة طائفيّة تتشدَّق بمقولات الديمقراطية الغربيّة!


لقد كان شيوع البنى والتنظيمات الحزبيّة، بعد 25 يناير؛ هو نقطة الذروة في الخط البياني لما سُمّي بالإسلام السياسي، والتعبير الأدق عن الانغلاق الأيديولوجي

لقد كان شيوع البنى والتنظيمات الحزبيّة، بعد 25 يناير 2011؛ هو نقطة الذروة في الخط البياني لما سُمّي ب«الإسلام السياسي»، والتعبير الأدق عن الانغلاق الأيديولوجي النهائي لكل جماعاته. فقد استوعبت هذه البنى كل الأيديولوجيات الإسلامية بلا استثناء؛ حتى ما كان منها مُعارضًا للحزبيّة ورافضًا لها أول الأمر! إن شيوع هذه البنى في حقيقة الأمر لا يعني اتجاه الإسلاميين المحدثين للديمقراطية، ولا إيمانهم بها؛ بقدر ما يعني إفلاسهم وانفجار «العمل الإسلامي» من الداخل، وتفريغ أيديولوجياتهم تدريجيًا من البقايا «الإسلاميّة».

كذا؛ بلغت الأيديولوجيات الجهاديّة ذروتها بتأسيس دولة العراق والشام المعروفة إعلاميًا باسم «داعش». وكما كان وصول الإخوان المسلمين (وبذيلهم سلفيي حزب النور) إلى السلطة هو اللحظة النماذجيّة التي وشت بالإفلاس التام للإسلاميين «الديمقراطيين»، مؤذنة باضمحلالهم السريع، كذا فإن ظهور داعش هو اللحظة النماذجيّة الجهادية التي سيبدأ بها انكسار ألق الأيديولوجيات الجهاديّة. لقد بلغ رافدا الإسلام السياسي الأهم ذروتهما ومنتهاهما، ولم يعد ثمّة أيديولوجية إسلامية رئيسية على الساحة لم تصل للحكم أو تؤسس دولتها؛ سواء تلك التي اتخذت من الأنظمة السياسية القائمة سُلمًا لتتسلقه، أو تلك التي رفضت هذه الأنظمة السياسية «الكُفريّة»، لتؤسس اليوم دولة على ذات النمط «الكُفري»!

إن تأسيس الإسلاميين لدولة «حديثة» أو تسلُّم قيادها من أحد أبناء النخبة ما بعد الكولونيالية هو في حقيقته اعترافٌ عمليّ بهذا النمط، ومحاولة للتصالُح معه بعد الفشل في تقويضه. إن الدولة لا تكتسب صفة الحداثة من مُسمّى رأسها، فلا تتغيّر صفتها إن تسمّى الحاكم بالخلافة أو إمارة المؤمنين أو بالمُلك أو بغيرها من الألقاب ذات الرنين «التراثي»؛ بل تكتسب صفة الحداثة من آليات السلطة وطرائق الحكم ومدى تغوّل سلطانها في مناحي الحياة، وفي هذا لا فارق بين الدول الحديثة التي استولى عليها إسلاميون، وبين تلك التي لا زال يحكمها العلمانيون. إن الفارق الحقيقي والوحيد هو في مدى نجاح خطط التنمية الاقتصادية، وهذه لا تصنع إسلامًا وإن كانت تروِّج لغيره. إن هذا الإذعان النهائي لمنطق الدولة الحديثة وبنيتها هو حقيقة ذات وجهين: أولهما إفلاس الإسلام السياسي، وثانيهما تفخيخ الدولة الحديثة باﻷسلمة الصوريّة تمهيدًا لتقويضها.

إن البنية هي المنتهى والذروة في أي نموذج إنساني؛ معرفيًا وإجرائيًا. وسواء كانت دولة أم حزبًا أم تنظيمًا يسعى لتجسيد أيديولوجيته الخاصة، فإن هذا الانغلاق المعرفي والتنظيمي/الإجرائي هو نهاية الحركة الإنسانية الموّارة، إن كان ثمة هامش لها أصلًا؛ وبداية مرحلة النظام المحافظ المتكلِّس، الذي يحرص على مكتسباته بأكثر مما يحرص على مُنطلقاته. وربّما قال قائل بأن العام الذي قضاه الإخوان في السلطة لا يكفي لاختبار أيديولوجيتهم، ناهيك عن تقويضها؛ وذلك مردود عليه بأن الحزبية الإخوانية أقدم عمرًا بكثير وأسبق على وصولهم لقمة السلطة بعقود، وأن وصولهم للقمة كان اللبنة الأخيرة والمحصلة النهائية لرحلة طويلة.

كان القشّة التي قصمت ظهر البعير! وهم إن كانوا قد «تسلموا» مقاليد السلطة لمدة عام، فقد ظلوا جزءا منها منذ السبعينيات؛ جزءًا هامشيًا يُستخدم ويوظف، بالترهيب تارة وبالترغيب أخرى؛ لصالح النظام ما بعد الكولونيالي، وذلك على عكس أكثر الجهاديين، الذين استحال تقريبًا توظيفهم إلا قهرًا أو بجهل. وربّما لهذا سيطول أمد دولة داعش عن دولة الإخوان إلى ما شاء الله لها. إن ذروة النموذج تعني استحالة عودة الأيديولوجية الإخوانيّة القهقري إلى نموذج الجماعة الدعوية بعد ولوغها طويلًا في الحزبيّة السياسية ووصولها للسلطة، كما يعني استحالة استعادة الأيديولوجيات الجهاديّة اليوم لنموذج الميليشيا أو الجماعات العنقوديّة المسلحة، بعد تأسيسها لدولة في العراق والشام. لكن ذلك لا يعني بالضرورة تقويض نموذج الجماعة الدعوية أو نموذج الميليشيا بإطلاق، خصوصًا للجيوب التي ستنشق عنهما؛ بل يعني نهايتهما في هذا السياق، وبالنسبة لهؤلاء اللاعبين، ولهذه الحقبة، وربّما لعقود قادمة.

إن ما بعد رابعة، أو ما بعد الأيديولوجيا، أو ما بعد «الإسلام السياسي»، أو ما بعد الميليشيا، أو ما بعد الدولة الحديثة؛ ليس نهاية للتاريخ أو للإنسان والاجتماع، وإذعانٌ لحاكمية الديمقراطية الليبرالية وإله السوق؛ بل هو تدشينٌ لدورة تاريخية جديدة. إنه ليس انتقالًا حتميًا لسيولة وعدميّة ما بعد الحداثة، والتي تفتقد للمركز كُليًا. ذلك أن وجود النص الإلهي المؤسس بيد الفاعل التاريخي المسلم، وفعاليّة هذا النصّ اللاتاريخي في تقويم التاريخ، تعني الحضور الدائم لإمكانية إصلاح فهمنا للدين ومن ثم لتمثُّله وتطبيقه. إن هذه «الما بعديّة» تعني عندي بدء عمليّة التحول شديدة البطء؛ الخروج من ضيق التأويلات والبنى البشريّة المبتذلة بتقادُمها، وتهافُت أكثرها؛ إلى رحابة الوحي المتجدد أبدًا بالقراءة. إنها تعني قُرب العودة للوحي/المركز المتجاوز للتاريخ، ومن ثم إعادة تأويله داخل التاريخ؛ تكريسًا لهيمنة عالم الغيب على عالم الشهادة، وحاكمية الوحي على التاريخ. مرحلة يتجدد فيها الوعي والحركة، قبل أن ترتد الصيرورة التاريخية مرة أخرى إلى التكلُّس بفعل طول الأمد. إنها ولادة تاريخية، لا يبدأ بها التاريخ أو ينتهي، بل يُجدد دورته، ويرفع فاعلين جدد إلى صدارة الأحداث.