العرَّاب، أديبنا الراحل، صاحب الأساطير، الرجل الذي صنع بنفسه أسطورته الإنسانية الخالدة مع أناس أحبهم وأحبوه، عرفهم وعرفوه، صادقهم وصادقوه، وأدخلوه بيوتهم بكل ثقة وحب، وقد لا يكونون في واقع الأمر قد تقابلوا ولو لمرة واحدة في حياتهم.

أديبنا الراحل، سيرته وحياته ومؤلفاته وبداياته وحتى رحيله رحمه الله، كلها أشياء أضحت الآن معروفة للجميع، ولكن في نفس السياق، وفي مشهد جنازته المهيب، يطل علينا السؤال الكبير: لماذا أحبه الشباب لهذه الدرجة؟ ولماذا اعتبره معظمنا – وأنا هنا أتحدث عن نفسي بصفتي واحدًا من هؤلاء الشباب الذين عاصروه منذ البدايات – فردًا عزيزًا من عائلتنا البسيطة، بل أحد المقربين، والذي يوم رحيله أضحينا كمن فقد جانبًا من حياته؟


البداية

أتذكر في يوم ما أنا وزملائي بالفصل، عندما كنا بالفرقة الإعدادية، كان لي أكثر من زميل يأتون دائمًا إلى المدرسة وهم يحملون في حقيبتهم المدرسية كتب الدراسة بجانب أعداد مختلفة من «روايات مصرية للجيب»، وأعتقد أنها كانت عادة كثير جدًا من شباب هذه المرحلة.. أخبرني أحدهم أنه أحضر لي اليوم شيئًا جديدًا تمامًا، فسألته بكل حماس عن هذا الجديد، فأجابني بأن هناك سلسلة جديدة ظهرت في الأسواق تُدعى «ما وراء الطبيعة»، وهي سلسلة قصص رعب. طالعت العدد الأول منها ولم أطق صبرًا حتى أصل إلى المنزل، فالتهمته سريعًا، وخرجت بخلاصة بسيطة مفادها: هناك كاتب جديد مميز أعلن عن نفسه للتو.


تطور الأمر

استلهم توفيق الأفكار الأولية لسلسلته من رموز الرعب الأشهر في التاريخ البشري، ومن الأساطير الخرافية التاريخية، التي حيرت العالم وأبهرته على حدٍ سواء.

في هذا الوقت كان السوق الأدبي لا يحوي مفردات أدب الرعب بالشكل المتعارف عليه، وإنما كانت أعمالاً لأدباء سبقوه منذ سنوات، ولم تكن بالشهرة أو النجاح الكافي لترسخ في أذهان القراء.

عندما فرض أحمد خالد توفيق نفسه من خلال سلسلته «ما وراء الطبيعة» في السوق الأدبي، أصبح هناك نمط أدبي جديد متاح بين أيدي القراء، ألا وهو أدب الرعب، وأصبح هناك «عرّاب» له، كان ذلك هو أديبنا الراحل.

بالرغم من كون السلاسل الأدبية لـ«روايات مصرية للجيب» وقتها كل أبطالها من المدهشين الخارقين، الذين يطيرون ويركلون ويصنعون المستحيل، اختار توفيق لسلسلته بطلًا طبيبًا، طاعنًا في السن، واهن الجسد، يمتلئ جسده بالعديد من الأمراض، لا يقوى على فعل شيء باستثناء التفكير، توفيق جعل بطله ذا ذهن حاد متقد، وعقلاً مميزًا يحسن استخدامه، فكان هناك «رفعت إسماعيل»، الكهل الأسطوري، ومن هنا كان الاختلاف والتجديد في أدب أحمد خالد توفيق.

أخذ نجم توفيق يسطع أكثر فأكثر بعد ذلك، وغدت سلسلته «ما وراء الطبيعة» أحد أهم الأعمال المقروءة لدى الشباب، ليبدأ بعدها في صياغة سلسلة أخرى تحت عنوان «فانتازيا»، وهي لفتاة لا تملك أي ميزة نسبية عن أي بنت سوى أن لديها عقلاً مميزًا تجيد استخدامه، مثقفة، كثيرة القراءة والاطلاع، وذهن حالم بديع يستطيع أن يبحر بكل عذوبة في بحار الفانتازيا.

كأنما أحمد خالد توفيق يلعب على أهم أوتار لدى الشباب من الجنسين، ففي أبطال أعماله يبرز أن القوة ليست كل شيء، وأن العقل الواعي والذهن المتقد المستنير أهم وأفضل الأشياء، وهي التي تصنع البطل الحقيقي، يحاول أيضًا أن يبرز تيمة أن الثقافة والقراءة هي أعظم الأشياء، فكلما كنت مثقفًا كلما كنت بطلًا، وأن العقل المتميز المستنير أعظم بكثير من الجمال الثلجي السطحي الذي يخفي تحت قناعه جهلاً وسطحية قميئة، وهذا ما ظهر بجلاء في «عبير» بطلة سلسلته فانتازيا.

بانتشار السلسلة بدأ توفيق في صناعة أخرى، يحاول أن يضيف فيها نكهة التخصص الأصلي له، ألا وهو «طب المناطق الحارة»، فتوفيق كان أستاذًا لهذا التخصص بجامعة طنطا، فظهرت سلسلته «سافاري»، لذلك الطبيب الشاب «علاء عبد العظيم»، الذي يشبه إلى حدٍ بعيد رفعت إسماعيل بطل سلسلة «ما وراء الطبيعة». وفي هذه السلسلة أراد توفيق أن يضيف العلم المفيد الذي يعرفه ويعمل به إلى السياق الأدبي، ليصنع روايات قيمة ومفيدة علميًا، تضيف لقارئها الكثير، وفي نفس الوقت لا يمل قارئها من الإبحار أدبيًا بها.

في غمرة كل هذا لا نستطيع أن ننسى دوره البالغ الأهمية في ترجمة وإعادة صياغة الأدب العالمي، ليصدر أيضًا عن «المؤسسة العربية الحديثة» سلسلة جديدة تحت عنوان «روايات عالمية للجيب»، فكان توفيق ينتقي أفضل الروايات وأقيمها ويختصرها بشكل فريد، ويصيغها في قالب أدبي مميز يحمل بصمته، حتى يقرأها الشباب باستمتاع ولا يملّوا منها.

إذن فهو كاتب يرى أن العقل هو الأساس، يبتعد تمامًا عن صناعة البطل الهرقلي الأسطوري الذي يصنع المستحيل ويطوع اللامعقول، بل على العكس، كان يرى في أبطاله أن الثقافة والعلم والذهن المتقد هم الأساس في صناعة أي بطل، وهنا كان بيت القصيد.


التأقلم مع متغيرات المجتمع

كانت كتابات توفيق موجهة بشكل رئيس إلى فئة الشباب، فكان يكتب لهم السلاسل التي أبطالها عبارة عن أفراد عاديين مثلهم، يشبهونهم في كل شيء، ضعفاء مثلهم، متيقظين إلى الكثير من الأشياء الحياتية مثلهم، حالمين مثلهم. لم يتوقف توفيق عند ذلك، فقد ترجم للشباب الأعمال الأدبية العالمية في شكل مختصر بسيط شيق، حتى يقرأوه ولا يملوا، باختصار هذا الرجل استطاع فعلًا أن يجعل الشباب يقرأون.

في مقالاته أيضًا كانت معظم كتاباته موجهة بشكل خاص إلى الشباب، أذكر منها مجموعة المقالات التي جُمعت في كتاب بعنوان «قهوة باليورانيوم»، وكيف كان يتحدث عن الشباب وأحلامهم، وصاغ ذلك على لسان أحدهم، والذي يقول: «أنا حطيت كل أحلامي على الديسك توب.. معنديش أحلام مؤجلة. بس بأقلب أحلامي زي ما بنقلب الوصلة، كل شوية أجرب حلم جديد».

لم ينس كذلك في بعض المقالات أن يسرد وبلغة الحنين التي يجيدها، أيام طفولته، وكيف أثّر أبوه على تكوين شخصيته، وكيف يرى هو الجيل الحالي ومفرداته في جو من المرح، وبأسلوب الأب الذي يخاطب أولاده وأحباءه، وأذكر من هذه النوعية مقالًا بعنوان «نوستالجيا»، والذي قال فيه جملته المشهورة:

كذلك في رواياته التي كان كل أبطالها من الشباب، كان يرى هذا الشباب المحطم البائس الذي أثقلته الطموحات وفتنة الأحلام ولم يجد طريقًا مضيئًا يصل به إلى تحقيقها، فكانت هناك «يوتوبيا» تلك الرواية الخالدة، أو الديستوبيا المؤلمة التي ظهرت عام 2008، وكذلك روايات «السنجة» و«في ممر الفئران»، و«مثل إيكاروس». لتأتي كل أعماله وكأنما يداعب أحلام الشباب حبيسة الصدور، والتي تريد أن تنسم عبير النور، وترتل ترانيم الحياة.

كان يرى في رواياته أن الشباب واقعٌ بين شقي رحى، متمثل في أحلام وطموحات بسيطة، كالسكن والعيش والزواج وخلافه.. وبين واقع مؤلم مرير لا يسمح لهم بتحقيق مثل هذه الأماني البسيطة. على هذا الدرب كان يسير أديبنا الراحل، مخاطبًا الشباب في جُل صنيعه، حتى جاءت ثورة يناير 2011 لتكون فرقانًا كبيرًا في حياة الكثيرين.


«توفيق» بين الرأي والمبدأ

هل فهمت الآن الحكمة من كون عمر الإنسان لا يتجاوز الثمانين على الأغلب؟ لو عاش الإنسان مائتي عام لجنّ من فرط الحنين إلى أشياء لم يعد لها مكان.

منذ اللحظة الأولى لقيام الثورة وأديبنا الراحل قد أخذ موقفه الواضح والصريح منها، فقد أيد موقف الشباب في الثورة، ودافع عن أحلامهم وطموحاتهم في حياة كريمة طيبة، بها عدالة اجتماعية وشفافية، بها العدل والمساواة بين جميع طوائف المجتمع. كان رحمه الله هذا مبدأه في التعامل مع إرهاصات الثورة، فأخذ على عاتقه تبني موقف الشباب والانحياز إليهم في كل كتاباته، حتى وإن تسبب ذلك في نقم وسخط البعض عليه، فهذا الرجل لم يتخلّ عن موقفه أبدًا من أجل التقرب من شخوص أو الفوز بمتاع زائف واه. ولذا، فقد آمن به كل من تبعه من الشباب وصدقوه، وأضحى في عيونهم رمزًا وقيمة تعبر عن مكنونات صدورهم.

كان أحمد خالد توفيق من القلائل في أرض المحروسة الذين لم تغويهم ندّاهة القاهرة، فقد ظل على عهده بحب مدينته ومسقط رأسه طنطا بمحافظة الغربية، منذ ميلاده وحتى وفاته رحمه الله، بل كان لا يروقه فرط الزحام في القاهرة، وكان يشفق على قاطنيها من فرط الصخب والإزعاج الدائم وارتفاع معدلات التلوث بها.

في يوم الإثنين الثاني من أبريل من عام 2018، رحل عن عالمنا عرَّاب أدب الرعب أحمد خالد توفيق، نتيجة مروره بأزمة صحية، وفي الحقيقة لا أجد خيرًا من الكلمات التي خطها هو بنفسه في العدد رقم 53 من سلسلة «ما وراء الطبيعة» لأنعيه بها، والتي تقول:

وداعاً أيها الغريب كانت إقامتك قصيرة لكنها كانت رائعة.. عسى أن تجد جنتك التي فتشت عنها كثيرًا

نعم، فقد رحل عن دنيانا في سلام، مخلفًا وراءه معينًا لا ينضب من الأدب والثقافة، عسى أن يكون قبسًا من نور لأجيال وأجيال، لتعرف قصة هذا الرجل وما أحدثه من فارق كبير في خريطة الأدب المصري، خاصة بين الشباب، إنه الرجل الذي بحق جعل الشباب يقرأون. رحل في سلام وكأنما أخذ من حياتنا جزءًا مع رحيله، فقد كان نعم الصديق والرفيق، حتى وإن لم نلتق.

ارقد في سلام يا عرّاب، وتأكد أننا لن ننساك ما حيينا، لأنك غرست في أرواح الشباب أثرًا لا يزول أبد الدهر.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.