التقطت رواية سخيفة مُلقاة فوق الغسالة منذ شهرين، تصفحت فيها بعض أوراق، مقاوماً إيقاعها البطيء وثقل رأسي، قبل أن يقهرني النوم.
«يحيى راشد» في «الفيل الأزرق» متحدثاً عن رواية لم تعجبه.

لفت انتباه يحيى إيقاع الرواية البطيء، ربما هو مجازٌ مثير للسخرية، فيحيى راشد طبيب نفسي، وهو هنا يشير إلى عقدة نفسية لكاتب الرواية بالأساس، أحمد مراد الذي يري أن أهم مسئوليات الكاتب قدرته على خلق الإثارة بشكل مستمر، وهو عملٌ يكفي لضمان نجاحك ككاتب.

مقاربة أحمد مراد للكتابة هي، أنه بوصفنا نعيش في عالم متسارع للغاية، لا بد من أن يكون عالم الكتب بدوره متجاوباً مع هذا التسارع، بالتالي لا بد من أن يتذكر الكاتب أنه ينافس وكالات الأنباء العالمية التي تحكي الأخبار بطريقة مثيرة أكثر من الواقع، وأن يحظى بانتباه القارئ الذي صار مدمناً لـ«اليوتيوب شورتس» والتمرير اللانهائي في تيك توك، كتابه «القتل للمبتدئين» مليء بكم هائل بما يشبه هذه التصريحات، تتفاوت التصريحات في المبالغة لكنها تتفق في أنها كُتبت بخطاب «تنمية بشرية»، يستهدف التركيز على عامل الوقت والنجاح والنظر للرواية بشكل نهائي بوصفها مشروعاً.

لكن لأحمد مراد ما يبرر كلامه، فهو كاتب ناجح للغاية، ربما هو أنجح الكُتّاب المصريين في السنوات الأخيرة، لدرجة أن اقتران اسمه بأي كتاب كفيل بتحقيق أكبر المبيعات. وتمتد نجاحاته إلى السينما، وتحقيق أرقام قياسية، ككسر حاجز المائة مليون جنيه إيرادات عن فيلم «الفيل الأزرق 2» لأول مرة في تاريخ السينما المصرية، وشعبية هائلة لكل أفلام.

ليس من الصعب ملاحظة النمط هنا، أحمد هو نفسه مؤمن بأن مصدر صحة كلامه نابعٌ من نجاحاته، ولذلك يبتدئ كتابه عن الكتابة –القتل للمبتدئين- باقتباس لنفسه، بل إن مدى إيمانه بنفسه وصل إلى تصريحاتٍ أُسيئ تداولها بشأن كُتّاب كلاسيكيين أمثال نجيب محفوظ، بإشارته إلى أن تحويل رواياته لشكل سينمائي يوجب «تحويلها بأسلوب جديد، فأقدر أختصر بعض الأحداث اللي كانت بطيئة شوية في الزمن ده».

وفي رده على تصريحاته التي أُسيء فهمها، يؤكد أحمد مراد علي نفس النقطة، أن «الجيل الحالي لا بد أن يواكب الأحداث والتطور الحديث الذي يحدث في الحياة وأفكار العالم التي تتغير سريعاً حولنا».

هل تشفع نجاحات أحمد مراد الضخمة لآرائه؟

في البداية، يمكننا تخيل كيف أن كاتباً مثل كافكا، وفقاً لمعايير أحمد مراد، قد يكون كاتب أقل من الهواة حتى، كاتب تتسم كتاباته بالغموض الشديد، وعدم انتظام الإيقاع، فوق كل ذلك، تضرب بكل قواعد أحمد مراد للبناء الدرامي عرض الحائط –جريجور سامسا يموت في النهاية، و«ك» يواجه مصير الإعدام من دون أن يعرف تهمته حتى– يُمكننا الاستمرار في تخيل كيف تكون ثقة كافكا بنفسه لو أتيح لأحمد مراد التعليق علي أعماله، ويمكننا أيضاً أن نستشف منه جدوى كُتّاب آخرين يخترقون بشكل واضح رؤيته للكتابة كـ«فيودور دوستويفسكي»، لكنهم يُقرَؤون حتى وقتنا هذا.

قناعات أحمد مراد مُرتبطة بشكل وثيق بالنموذج الأكثر نجاحاً في الفن الآن، بالتحديد الأفلام التجارية ونموذج «نتفليكس»، أو وسائل العرض حسب الطلب. الفكرة أنه وراء العمل الواحد مئات من الأبحاث والتقارير التي تستهدف كل جزئية في العمل الفني، ليكون مجمله مجرد تجميع لأجزاء كل منها تم اختياره بحرفية، لا يعني الإلهام أو الأسلوب الشخصي أو رؤية الفنان شيئاً ما، لأن هدف الفنان النهائي إرضاء المشاهد بكل شكلٍ ممكن.

إذا أُتيحت لمنصات كـ«نتفليكس» الوسائل المناسبة لبناء أبحاث علمية تستند إلى اهتمام الشخص الحقيقي، فأحمد مراد يمتلك وصفته أو طبخته الخاصة، مجموعة من القواعد التي أنشأها وارتأى أنها تُشكل ضماناً حقيقياً لنجاح أي رواية. واحدة من تلك القواعد المهمة المتعلقة بالبناء الدرامي لحدثٍ ما، «قاعدة الثلاث» كما سماها أحمد مراد.

قواعد «أحمد مراد» للكتابة

تجعل لكل محاولة في تحقيق تقدم أو اجتياز صعوبة للبطل خلال رحلته، ثلاث محاولات، تفشل الأولى والثانية، لتنجح المحاولة الثالثة في آخر لحظة.
أحمد مراد من كتاب «القتل للمبتدئين».

لم يفسر أحمد مراد لم اختار الرقم ثلاثة بالتحديد، هل لأنه «التالتة تابتة»؟ أم لأن هذه القاعدة تناسب أمثلته، وكل أمثلته أعمال له؟

هناك أيضاً افتراض مُسبق بأن الكاتب الذي سيستخدم هذه التقنية على إطلاع بالإطار العام للرواية، وهي أنها «رحلة لبطل» يخوض صراعاً.

يشير أحمد إلى نجاح المحاولة الثالثة في «آخر لحظة» كتأكيد غير مباشر على فكرة المتعة والإثارة، لا يمكننا التأكد إذا ما كنت آخر لحظة تشير إلى المحاولة الأخيرة أم تشير إلى آخر لحظة بشكل حرفي، ويكون المقصد النهائي استخدام الـDeus ex machina –أو عندما يُنقذ البطل قبل وقوعه بآخر جزء من الثانية– لحسن الحظ لدينا ما يُرجِّح أن الأخيرة هي مقصده. ففي نفس الكتاب، يقارن أحمد مراد الإثارة في العمل الفني بتسجيل هدف في آخر دقيقة في المباراة.

القاعدة الأخرى متعلقة هذه المرة بالبناء الدرامي العام للرواية، لم يسمها أحمد بقاعدة، لكن أطلق عليها تقنية الصراع، وافترض أيضاً أن هناك من 5-7 محاولات فاشلة من البطل للوصول لهدفه، لم يذكر هذه المرة مثالاً يمكن عد الخمس-السبع محاولات فيه بوضوح.

هناك قواعد أخرى مماثلة من حيث المبدأ، يفترض أحمد مراد بصورة مبدئية أن الكاتب يجب أن يكون علي وعي كامل بـ80% مما سيكتبه من الرواية، إذا كانت الرواية مشروعاً يستثمر فيه الكاتب وقته وجهده، عليه إذاً أن يقوم بعمل «دراسة جدوى» للتأكد من نجاح المشروع –هذا رغم أنه أكّد أهمية أن تكتب وأن تكون شجاعاً- وأن يصير كاتباً في هيئة رجل أعمال.

هناك ملحوظة بشأن الطريقة التي تحُبك بها الرواية، هي خروج البطل من الـ Comfort-zone خاصته، وهي نصيحة موجهة في ذات الوقت للكاتب نفسه، الخروج من منطقة راحته والابتعاد عن تضييع الوقت على وسائل التواصل.

خطاب «التنمية الذاتية» كان واضحاً في كلامه، بل إن كتابه يستعين بالخرائط والرسوم التوضيحية –وهي مجرد إعادة صياغة لكلامه المكتوب– الإطار العام لكلامه هو التركيز على إيجاد النظام والترتيب في كتابة الرواية.

إذا كان أحمد مراد يوجِّه هذا الكتاب للمبتدئين كما يتضح في نبرته، فهذا الكتاب مُجرد امتداد لفكرة «ورش الكتابة» التي نوقشت كثيراً من قبل، لكنه يقدم القشور في كتابه كما لو أن كتابه مجرد Promotion لورش الكتابة التي يقدمها.

«الكتابة للمبتدئين»

لا أملك رفاهية الوقت التي أدخل بها في معارك وهمية.
أحمد مراد معلقاً على نقاشات وسائل التواصل.

يمتلك أحمد مراد موقعاً إلكترونياً، مُصمَّم بحرفية عالية، وفيه صفحة للكورسات، يفخر أحمد بتدريسه لـ14 دفعة بما يزيد على مائتي طالب –تقريباً أربعة عشر طالباً لكل دفعة– ويتحدث بالتفصيل عن محتوى كورساته المُقسمة لأنواع، منها كورس السيناريو المكثف، لكنه لا يتحدث نماذج لأعمال منْ درسوا تحت يده، ولا يذكر أيضاً كاتباً أو كاتبةً تأثروا بورش الكتابة التي قدمها سابقاً، ربما تكون الكتابة «حرفة» في بعض الأحيان، لكن أحمد مراد نفسه تمثيل لظاهرة عدم الاستمرارية في هذا النموذج، كما يُلاحظ من التقييمات المتدنية علي آخر روايتين له علي Goodreads– هذا إن أخذنا بتقييمات هذا الموقع معياراً واحداً، بالطبع يتسع الحديث ليشمل روايتي «أرض الإله» و«1919»، والتقييم المتدني نفسه لكتاب «القتل للمبتدئين».

مع ذلك، بالطبع لا يمكن القول –بتهور- إن أحمد مراد لم يكن كاتباً ناجحاً، رغم كل شيء، فوجود اسمه على أي عمل كافٍ ليبيع بسرعة، لكن أحمد مراد نفسه لم يكن مُلِّماً بما يمنحه النجاح ككاتب، لم يكن على دراية بأن رواياته تجارية بالدرجة الأولي، وعندما عبّر عن آرائه بكل وضوح في كتاب «القتل للمبتدئين» عرّض نفسه بكل بساطة لسهام النقد الممكنة. فمن السهل تقبل ظاهرة الـBest sellers فقط إذا تفهّموا حدود نجاحاتهم.

يمكننا تخيل أحمد مراد وهو يختار عنوان كتابه الأخير. بصياغة -تشابه في تمكن- عناوين الـClickbaits على يوتيوب، «القتل للمبتدئين»، عنوان خطير وافتتاح الكتاب باقتباس أكثر خطورة: «لو لم أكن كاتباً… لوددت أن أكون قاتلاً محترفاً». ثم في النهاية، يكتشف القارئ أنه بالقتل يعني الكتابة، وأن استعارة أحمد مراد الجذّابة لم تكن تعني ببساطة سوى «لو لم أكن كاتباً… لوددت أن أكون كاتباً».

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.