أشرقت الحضارة الإسلامية بنور المعرفة في عصرها الذهبي، وكان لعلمائها فضل كبير وعظيم على حضارة الغرب السائدة الآن. وكان من بين هؤلاء العلماء العظام، الفارابي، الذي لقب بالمعلم الثاني، تقديرًا وإكبارًا لمنزلته في العلم. أما المعلم الأول فهو اللقب الذي أطلقه العرب على أرسطو عندما قاموا بنقل الفكر اليوناني إلى العربية.

وكتاب «آراء أهل المدينة الفاضلة» للفارابي يعد ثاني كتاب يتناول نظام السياسة بعد أرسطو، والثاني أيضًا في معالجة فكرة الدولة المثالية بعد كتاب «الجمهورية» لأفلاطون. ولقد كان لهذا الكتاب بالغ الأثر في عقلية الإنجليز والفرنسيين أثناء عصر النهضة، فلقد اتجه الجيل الأول من رواد علم الاجتماع لديهم، إلى فكرة تقسيم أنواع الدول والمجتمعات، نتيجة تأثير هذا الكتاب القيم.


مصدر الوجود هو الله

ويذهب بنا الفارابي إلى أنه إذا أردنا أن نبحث عن المدينة الفاضلة، فيجب علينا البحث عن مصدر الوجود، وهو الله. فإننا إذا قمنا بإعمال عقولنا قليلًا، وجدنا أن لكل شيء علة، وجميع الموجودات من حولنا ترتبط وفقًا لمبدأ السببية بين العلة والمعلول، فالأدنى سببه الأعلى، والأعلى سببه ما هو أعلى منه، حتى نصل في النهاية إلى الحضرة الإلهية، أي أن الله هو الموجود الأول. وحيث إن الله هو الكمال المطلق، وإن عقل الإنسان ناقص، فإننا لا نستطيع أن نرى الله، وإنما ندرك وجوده، مثلما أن العين لا ترى الضوء في حد ذاته، وإنما تعرفه بانعكاساته وآثاره.

ويتميز الإنسان بأنه أسمى الموجودات في العالم الأرضي، وذلك لما حباه به الموجود الأول والكمال المطلق (الله)، من ملكات وقوى كثيرة.


تقسيم النفس

ويقسم الفارابي نفس الإنسان إلى مجموعة من القوى، تبدأ بالقوة الغاذية أي القوة التي يتغذى بها الإنسان. ثم قوى الحس مثل الإبصار والسمع واللمس، ومعها نجد القوة النزوعية والتي بها يميل الإنسان إلى مواطن الجمال والملذات، وتجنب الأشياء القبيحة أو المؤلمة. ونجد بعدها القوة المتخيلة والتي يستطيع أن يركب الإنسان بين المحسوسات التي يراها أشياء أخرى جديدة. وبعدها نصل إلى أفضل القوى، وهي القوة العاقلة التي بها يحصل الإنسان العلوم والفنون، يستطيع بها أن يميز بين ما هو جيد وما هو سيئ.

والقوة العاقلة لدى الإنسان بحاجة إلى ما يسمى بالعقل الفعال، والذي يكون بمثابة النور الذي تبصر العين من خلاله. وهذا العقل الفعال هو إحدى فيوضات الذات الالهية، وكلما ارتقت النفس بتخليها عن الشهوات وتعلقها بالمادة، واستطاعت أن تصل إلى المرتبة التالية للعقل الفعال، نجد أنها نجحت في الوصول إلى السعادة الحقيقية، ولا يستطيع الإنسان أن يعيش وحيدًا، فهو دومًا بحاجة إلى آخرين يتبادل معهم المنافع والمصالح، ومن هنا نشأت المجتمعات البشرية.


تقسيم المجتمعات

وهذه المجتمعات قد تكون كاملة، فتشمل الناس جميعًا على سطح الأرض، ويطلق عليها المجتمعات العظمى. وقد تشمل الناس في مدينة واحدة ويطلق عليها في هذه الحالة المجتمعات الوسطى. وقد تكون مجتمعات ناقصة، كاجتماع الناس في قرية أو في سكة أو في منزل.

والسعادة الكاملة لا تكون بالمجتمعات الناقصة، بل تُنال بالأمة وتليها المدينة، ولما كان الأسهل نيل السعادة باجتماع الناس فى مدينة على التعاون على الأشياء التي تجلب السعادة فيما بينهم، إذن فنحن أمام المدينة الفاضلة، واجتماعهم على نيل السعادة يعد اجتماعًا فاضلًا، وإذا تعاونت عدة مدن على نيل السعادة لأصبحنا أمام أمة فاضلة.


صفات الرئيس

ونجد هنا أن المدينة الفاضلة تشبه بدن الإنسان الصحيح المعافى، ولما كان القلب هو العضو الرئيس المسيطر على باقي البدن. وجب على المدينة الفاضلة أن يكون لها رئيس يعد أكمل الأفراد فيها. ويجب على هذا الرئيس أن تتوافر فيه صفات معينة مثل سلامة الأعضاء وصحة البدن، وجودة الفهم والتصور، وسرعة الحفظ لكل ما يراه أو يدركه، وأن يكون فطنًا لبقًا، ونهمًا للعلم، معتدلًا أقرب ما يكون إلى الزهد فى ملذات الأكل والشرب والنساء، بعيدًا عن اللهو والعبث، صادقًا، ذا نفس سامية تتكبر عن الصغائر، لا يغريه بريق المال، محبًّا للعدل، أبعد ما يكون عن الظلم.

ولم يكتفِ الفارابى بهذه الصفات بل زاد عليها ستًّا أخرى قال عنها إنها من الصفات المكتسبة التي يحصلها الإنسان عند كبره. فيجب على الرئيس الاتصاف بالحكمة والعلم، حافظًا لشرائع وسنن الأولين، يتميز بقوة الاستنباط، فيما يرد له من أمور وأحداث، سواء حدثت من قبل في عهد أسلافه، أو كانت قضايا جديدة تمامًا، وأن يكون له القدرة على الإرشاد الجيد، وقوة البدن وبراعة في فنون الحرب والقتال.

ولما كانت هذه الشروط، قلما توجد في شخص واحد، ووجدت في شخصين يتقاسمانها وجب الحكم بينهما بالاشتراك. ولو وجد أكثر من شخص كخمسة أفراد اجتمعت فى كل منهم صفة تكمل الآخرين، قاموا بالحكم مشتركين.

إلا أن الشرط الأساسي للحكم هو أن يكون أحد الأفراد الحاكمة يتصف بالحكمة، فمن دونها لا أهمية لباقي الصفات والشروط، ففقدان هذا الشرط يؤدي بالمدينة للهلاك.


أنواع المدن

وهناك أنواع أخرى من المدن نجد أنها على النقيض تمامًا من المدينة الفاضلة. وذلك مثل المدينة الجاهلة، وهي تلك المدينة التي ينصرف أهلها إلى التمتع بالملذات واللهث وراء الثروة وسلامة الأبدان، ظانين أنهم بذلك يحققون السعادة. ولدينا أيضًا المدينة الفاسقة، وهي التي ذاقت طعم السعادة الحقة وكانت تسير على نهج آراء المدينة الفاضلة، إلا أنها ما لبثت أن حادت عن طريق الحق، واعتنقت أفعال أهل المدينة الجاهلة. ونجد أيضًا المدينة المبتذلة، وهي التى يكدس أهلها الثروات دونما انتفاع حقيقي أو غاية لهم سوى شهوة جمع المال وتكديسه. والمدينة الضالة، وهي التى ينصرف أهلها إلى اللهو والعبث، ويتمتع أهلها بالملذات الحسية دون العقلية.

ويقع أهل هذه المدن في تضاؤل ملكات النفس شيئًا فشيئًا، لتكالبهم على الملذات والماديات الحسية، فنجدهم ملتصقين بالأرض. أما أهل المدينة الفاضلة فيعملون طوال الوقت على تنمية ملكات نفوسهم والارتقاء بها فيرتقون إلى مدارج السماء، ويكونون أقرب إلى الله، فينالوا بذلك السعادة، وهي غاية الإنسان الحقيقية. والتي لا تتحقق إلا إذا اجتمع مع إخوانه وتعاونوا لتحقيق المدينة الفاضلة.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.