لم يكتف كثير من الخلفاء والسلاطين بحب الشعر وترديد أبياته، بل أقرضوه للتعبير عما يجيش بصدورهم في لحظات الفرح والحزن، وفي التغزل بجواريهم وغلمانهم، وفي كثير من المواقف السياسية والحياتية التي مروا بها.

الخلفاء الراشدون وقرض الشعر

أحب الخلفاء الراشدون الشعر، ومنهم عمر بن الخطاب الذي كان كثيرًا ما يسأل وفود القبائل عن شعرائهم، وكانوا ينشدونه بعض أشعارهم، وقد ينشدها هو متعجبًا مستحسنًا، وقيل إنه ما قطع أمرًا إلا وتمثل ببيت من الشعر.

وبحسب سعاد علي عبدالماجد في دراستها «الملوك الشعراء في الأدب العربي»، فإن ابن الخطاب كان يقرض الشعر، وهناك أبيات كثيرة في مناسبات مختلفة نُسبت إليه، منها قوله حين أسلم:

الحمد لله ذي المن الذي وجبت     له علينا أياد كلها عبر
وقد برانا فكذّبنا فقال لنا            صدق الحديث نبي عنده الخبر

وكان لعمر موقف مشهور يوم وفاة الرسول، وما روي عنه في رثائه، إذ قال:

لعمري لقد أيقنت أنك ميت        ولكنما أبدى الذي قتله الجزع
وقلت يغيب الوحي عنا لفقده     كما غاب موسى ثم يرجع كما رجع
فلما كشفنا البرد عن حُر وجهه   إذا الأمر بالجزع المُرهب قد وقع

أما عثمان بن عفان فكان له أبيات شهيرة، جُلها كان يدور حول الأمور الدينية والتحذير من مفاتن الدنيا، ومنها قوله:

تفنى اللذاذة ممن نال صفوتها     من الحرام ويبقى الإثم والعار
يلقى عواقب سوء من مغبتها     لا خير في لذة من بعدها نار

ولم يترك علي بن أبي طالب قصائد طويلة، لأنه لم يكن خالي البال كبعض الشعراء لينطلق في قصائد طويلة فيها كثير من البناء المدروس والقوافي المنتقاة، فصاغ الشعر مرتجلًا في أكثره، كما كان يرتجل الحكم والخطب، بحسب الباحثة.

ورُوي أن عليًا بعد رجوعه من واقعة أحد، أعطى زوجه فاطمة سيفه، وقال «اغسلي عنه الدم، فوالله لقد صدقني اليوم» ثم قال هذه الأبيات:

أفاطم هاك السيف غير ذميم    فلست برعديد ولا بلئيم
أفاطم قد أبليت في نصر أحمد   ومرضاة رب بالعباد رحيم
أريد ثواب الله لا شيء غيره    ورضوانه في جنة ونعيم

وفي يوم «خيبر» أعطاه الرسولُ الراية، فقال:

انا الذي سمتني أمي حيدرة    أكيلكم بالسيف كيل السندرة
                 ضرغام آجام وليث قسورة

وعندما تحدث عن نفسه قال:

فإن تسألاني كيف أنت؟ فإنني       صبور على ريب الزمان صعيب
حريص على أن لا يُرى بي كآبة    فيشمت عاد أو يساء حبيب

الأمويون: رثاء وغزل ومجون

وفي عهد الدولة الأموية، أقرض عدد من الخلفاء كثيرًا من الأبيات في المناسبات المختلفة. ويذكر الدكتور يحيى وهيب الجبوري في كتابه «مجالس العلماء والأدباء والخلفاء مرآة للحضارة العربية والإسلامية»، أن معاوية بن أبي سفيان (15 ق هـ – 60هـ) كان يحب الشعر، ويتمثل بما يحفظه في كثير من المواقف، وروُي أنه كتب أبياتًا، منها ينصح فيها ابنه يزيد:

انصب نهارًا في طلاب العلا    واصبر على هجر الحبيب القريب
حتى إذا الليل أتى بالدُجى       واكتحلت بالغمض عين الرقيب
فباشر الليل بما تشتهي          فإنما الليل نهارُ الأريب
كما فاسق تحسبه ناسكًا         قد باشر الليل بأمر عجيب

وفي إحدى المعارك مع شيعة علي بن أبي طالب، أشار عمرو بن العاص على «الحريث» مولى معاوية أن يبارز عليًا، فلما نازله قتل عليُ الحريثَ، وقال معاوية في ذلك:

حُريثُ ألم تعلم وجهلُك ضائرُ    بأن عليًا للفوارس قاهرُ
وأن عليًا لم يبارزه فارس      من الناس إلا أقصدته الأظافرُ

وقال معاوية معاقبًا قريش:

إذا أنا أعطيتُ القليل شكوتم             وإن أنا أعطيت الكثيرَ فلا شكرُ
وما لُمت نفسي في قضاء حقوقكم     وقد كان لي فيما اعتذرت به عذرُ
وأمنحكم مالي وتكفرُ نعمتي           وتشتمُ عرضي في مجالسها فِهرُ

وممن قال الشعر من الخلفاء الأمويين يزيد بن معاوية (26- 64هـ)، ثاني ملوك الدولة الأموية في الشام، وقد قرض الشعر وهو صغير مع عبدالرحمن بن حسان بن ثابت، وكان يحفظ أشعار القدماء والمعاصرين له، أما شعره فكان رقيق العاطفة، بحسب «عبدالماجد» في دراستها المذكورة.

وتروي، أنه قبل تولية يزيد الخلافة أتاه خبر مرض والده معاوية وهو بمنطقة حوارين في حمص، فأقبل إلى دمشق وقد دُفن أباه، فأتى قبره فصلى عليه، ودعا له، ثم أتى منزله فقال:

جاء البريد بقرطاس يخبُ به       فأوجش القلب من قرطاسه فزعا
قلنا: لك الويل ماذا في كتابكمُ؟     قالوا: الخليفة أمسى مُثبتا وجعا
فمادت الأرض أو كادت تميد بنا    كأن أغبر من أركانها انقطعا

وبحسب الباحثة، هناك أشعار كثيرة منسوبة ليزيد، لكن داخلها الزيف والاضطراب، وأغلبها يدور حوال الخمر والنساء.

أما الوليد بن يزيد بن عبدالملك (88- 126هـ)، فكان مسرفًا في اللهو والمجون، لذا كتب شعره في الخمر والغزل والحب، وإن تطرق لموضوعات أخرى لكن ليس بنفس القدر.

ويُروى أنه لما عرف بخبر وفاة هشام بن عبدالملك سنة 125هـ، وصارت الخلافة إليه، قال:

طاب يومي، ولذّ شُربُ السُلافة         إذ أتاني نعي من بالرصافة
وأتانا البريد ينعي هشامًا               وأتانا بخاتم للخلافة
فاصطحبنا من خمر عانة صرفًا       ولهونا بقينة عزّافة

كما يُروى أن الوليد نظر إلى أم حبيب بنت عبدالرحمن بن مصعب بن عبدالرحمن بن عوف، وقد مروا بين يديها بالشمع ليلًا، فلما رآها أعجبته، وراعه جمالها وحسنها، فسأل عنها، فقيل له: إن لها زوجًا، فأنشأ يقول:

إنما هاج لقلبي              شجوه بعد المشيب
نظرة قد وقرت في الــــ    قلب من أم حبيب
فإذا ما ذقت فاها           ذقت عذابًا ذا غروب
خالط الرّاح بمسك          خالصٍ غير مشوب

وكان عبدالملك بن مروان (26 – 86هـ) له بصر بالشعر والشعراء، وله أحكام نقدية وموازنات بين الشعر والشعراء، وله كذلك شعر روته كتب الأدب. يروي «الجبوري» في كتابه المذكور، أنه في أحد الأيام بعث مصعب بن زبير كتابًا إلى عبدالملك يتهدده فيه ويتوعده، فرد عليه عبد الملك قائلًا:

أتوعدني ولم أر مثل يومي         خَشاشَ الطير يوعدن العُقابا
متى يلقى العُقابُ خَشاش طيرٍ     يُهَتك عن مقاتلها الحجابا
توعَد بالذئاب أسود غابٍ          وأسدُ الغابِ تلتهمُ الذئابا

ووقف عبدالملك يومًا على قبر معاوية بن سفيان، فأنشد:

وما الدهر والأيامُ إلا كما ترى    رزيةُ مالٍ أو فراق حبيبِ

وأرسل الحجاج بن يوسف الثقفي كتابًا إلى عبدالملك، يخبره فيه عن ثورة أهل العراق وفارس لواء ابن الأشعث، فقال عبدالملك:

وإني وإياهم كمن نبّه القطا   ولو لم يُنبه باتت الطيرُ لا تسري
أخالُ صروف الدهرِ منهم   ستحملهم مني على مركبٍ وعرِ

وكتب عبد الملك إلى الحجاج لما وسّع العطاء على أهل الشام بعد وقعة عبدالرحمن بن الأشعث الذي قاد ثورة ضد الأمويين:

عليك بتقوى الله في الأمر كله    وكن يا عُبيد الله تخشى وتضرعُ
ووفّر خراج المسلمين وفيأهم    وكن لهم حصنًا تُجيزُ وتمنعُ

وقيل إنه أشعر وهو يحتضر:

ومستخبرٍ عنا يريد لنا الردى   ومستخبراتٍ والدموع سواجمُ  

العباسيون: شماتة في الأمويين ومدح الجواري والغلمان

وعلى النهج ذاته، سار عدد من الخلفاء العباسيين الذين لم يكونوا مجرد مستقبلين للشعر فقط، بل كانوا منتجين له، بمعنى أنهم لم يكتفوا بالاستماع إلى ما كان ينشده الشعراء عند وفودهم عليهم لمدحهم وأخذ جوائزهم، وإنما كانوا يقرضون الشعر في مناسبات معينة، حينما تفرض عليهم الظروف ذلك وتستدعي منهم بيتًا أو بيتين.

ويروي علي المصري في الجزء الثالث في كتابه «تاريخ ملوك العرب والشعراء»، أن أبي العباس السفاح (104- 136هـ) قضى على الدولة الأموية، وكان أول خلفاء الدولة العباسية، إذ بويع بالخلافة سنة 132هـ، ورغم ذلك كان أديبًا، وظهر في خطبه بلاغة واضحة، كما قال شعرا، منه ما ذكره عند قضائه على رجال الدولة الأموية:

بني أمية قد أفنيت جمعكم          فكيف لي منكم بالأول الماضي
يطيب النفس أن النار تجمعكم     عوضتم من لظاها شرُ معتاض
مُنيتم– لا أقال الله عثرتكم-      بليث غابٍ إلى الأعداء نهاض

وقال أيضًا:

تناولت ثأري من أمية عنوة    وحزتُ تراثي اليوم عن سلفي قسرًا
وألقيت ذُلًا من مفارق هاشم    وألبستها عزا وأعليتها قدرًا

أما أبو جعفر المنصور (95- 158هـ)، الذي يعتبر المؤسس الحقيقي للدولة العباسية، وثاني خلفائها، فقد كان بليغًا وخطيبًا، وكان يقرض الشعر، ومنه ما قاله عند قتل أبو مسلم الخرساني بين يديه، رغم الدور الكبير الذي لعبه في الدعوة العباسية، وذلك بسبب ما تنامى لسمع الخليفة من أن أبي مسلم ينوي الانقلاب على العباسيين، إذ قال:

زعمت أن الدّين لا يُقتضى       فاستوف بالكيل أبا مُجرم
أشرب بكأسٍ كُنت تسقي بها     أمرّ في الحلقِ من العلقم

وبحسب «المصري»، كان شعر محمد المهدي (126 –  169هـ)، ثالث الخلفاء العباسيين، أرق وألطف من شعر أبيه وأولاده بكثير، وكان أكثره في الغزل والافتنان بالجواري. ويُروى أنه كان له جارية شُغف بها، وهي كذلك، إلا أنها كانت تتحاماه كثيرًا، فدّس إليها من عرف ما في نفسها، فقالت: أخاف أن يملّني ويدعني فأموت، فقال المهدي في ذلك:

ظفرت بالقلب مني   غادةُ مثلُ الهلال
كلما صح لها ودي   جاءت باعتلال
لا لحب الهجر مني    والتنائي عن وصالي
بل لإبقاءٍ على حبــ      ـــي لها خوف الملال

وفي شعره بجارية ملكت عليه دنياه وأصبح لا يطيق العيش دونها، واسمها «حَسنة»، قال:

أرى ماءً وبي عطشُ شديدُ     ولكن لا سبيل إلى الورود
أما يكفيك أنكِ تملكيني          وأن الناس كلهم عبيدي
وأنكِ لو قطعتِ يدي ورجلي    لقلت من الرضى: أحسنتِ زيدي

ولم يختلف هارون الرشيد (149 –193هـ)، رابع الخلفاء العباسيين، عن والده المهدي، فأقرض شعرًا كثيرًا في جواريه وافتتن بهن، مثل قوله في ثلاث جوار له:

ملك الثلاث الغانيات عناني    وحللن من قلبي أعز مكاني
مالي تطاوعني البرية كلها   وأطيعهن وهن في عصياني
ما ذاك إلا أن سلطان الهوى   وبه قوين أعزُ من سلطاني

وعندما ماتت جاريته «هيلانة» رثاها بقوله:

قاسيت أوجاعًا وأحزانًا          لما استخص الموت هيلانا
فارقت عيشي حين فارقتها      فما أبالي كيف ما كانا

ويقال إن الرشيد لما عقد البيعة لابنه الأمين قبل أخيه المأمون، وهو أصغر من المأمون، وكان ذلك لأجل أمه زبيدة بن جعفر وكلام أخيها عيسى بن جعفر بن المنصور، رأى الرشيد فضل عقل المأمون فندم على ذلك، وزعموا أنه قال في ذلك:

لقد بان وجه الرأي لي غير أني     غُلبتُ على الأمر الذي كان أحزما
فكيف يُردُ الدَرُ في الضرع بعدما    توزع حتى صار نهبًا مقسما
أخاف التواء الأمر بعد استوائه     وأن يُنقض الحبل الذي كان أُبرِما

ولما اشتدت عِلة الرشيد قبل موته سنة 193هـ، صار إلى مدينة طوس وهوّن عليه الأطباء علته، فأرسل إلى طبيب فارسي كان هناك ماء مع قوارير شتى مختلفة، فلما انتهى إلى قارورة الرشيد وهو لا يعرفها، قال: «عرّفوا صاحب هذا الماء أنه هالك، فليوص، فإنه لا برء له من علته»، فعرف الرشيد بقول الطبيب فبكى بكاء شديدًا، وتمايل في فراشه وردد هذين البيتين:

إن الطبيب بطبه ودوائه          لا يستطيع دفاع محذور القضا
ما للطبيب يموت بالداء الذي     قد كان يبرئ مثله فيما مضى

أما محمد أبو عبدالله الهادي (170 – 199هـ) فقد دخل في نزاع على الخلافة مع أخيه عبدالله المأمون فيما يعرف بـ«فتنة الأمين والمأمون»، وانعكس ذلك في شعره، فعندما علم أن المأمون يعدد مثالبه ويفضل نفسه عليه ويعيره بأن أمه كانت جارية، قال:

لا تفخرن عليك بعد بقية          والفخر يكمل للفتى المُتكامل
وإذا تطاولت الرجال بفضلها     فاربع فإنك لست بالمتطاولِ
أعطاك ربك ما هويتن وإنما      تلقي خلاف هواك عند مُراجل
تعلو المنابر كل يوم آملا          ما لست من بعدي إليه بواصل
فتعيب من يعلو عليك بفضله     وتعيد في حقي مقال الباطل
لا تفخرن عليك بعد بقية          والفخر يكمل للفتى المُتكامل
وإذا تطاولت الرجال بفضلها     فاربع فإنك لست بالمتطاولِ
أعطاك ربك ما هويتن وإنما      تلقي خلاف هواك عند مُراجل
تعلو المنابر كل يوم آملا          ما لست من بعدي إليه بواصل
فتعيب من يعلو عليك بفضله     وتعيد في حقي مقال الباطل

وفي خادمه «كوثر» وقد سقاه وهو على بساط نرجس والبدر قد طلع، قال الأمين:

وصفَ البدرُ حُسن وجهك حتى   خِلتُ أني أراه لست أراكا
وإذا ما تنفس النرجس الغــ        ضُ توهمته نسيم ثناكا

وقال أيضًا:

ما يريد الناس من صــ     ب بمن يهوى كثيب
كوثر ديني ودنيا            ي وُسقمي وطبيبي

المأمون: قرض الشعر منذ الصغر

أما عبدالله المأمون (170 – 218هـ)، والذي استقل بالخلافة بعد قتل أخيه الأمين سنة 198هـ، فقد تفتحت موهبته الشعرية في حياة أبيه هارون الرشيد. ويروي «المصري»، أن الرشيد أراد سفرًا، فأمر الناس أن يتأهبوا لذلك، وأعلمهم أنه خارج بعد أسبوع، فمضى الأسبوع ولم يخرج، فاجتمعوا إلى المأمون فسألوه أن يستعلم ذلك، ولم يكن الرشيد يعلم أن المأمون يقول الشعر، فكتب المأمون للرشيد يقول:

يا خير من دبت الممطيُ به        ومن تُقدى بسرجه فرس
هل غايةُ في المسير نعرفها       أم أمرنا في المسير ملتبس؟
ما علمُ هذا إلا إلى ملكٍ            من نوره في الظلام نقتبس
إن سرت سار الرشاد مُتبعا      وإن تقف فالرشاد محتبس

فقرأها الرشيد، وسُر بها.

ويروى أن جارية كانت تصب الماء على الرشيد من إبريقها، فأشار المأمون إليها بقبلة، فأعتقها الرشيد وأهداها إليه، وقال له بعدئذ، قل في ذلك شعرًا، فقال:

ظُبي كنيت بطرفي    عن الضمير إليه
قبّلته من بعيد         فاعتل من شفتيه
ورد أحسن ردَ        بالكسر من حاجبيه
فما برحت مكاني     حتى قدرتُ عليه

ويروي «المصري»، أن أحدًا حاول أن يفسد قلب المأمون على قائده عبدالله بن طاهر، فأرسل الخليفة بشخص ليستيقن من هذا الحديث، فجاءه يؤكد بما لا يرقى إليه الشك بولاء ابن طاهر إليه، فاستبشر المأمون وقال: «ذلك غرس يدي»، وكتب إلى عبدالله بن طاهر وهو بمصر يقول:

أخي أنت ومولاي       ومن أشكرُ نُعماه
فما أحببت من أمرٍ      فإني الدهر أهواه
وما تكره من شيء     فإني لست أرضاه
لك الله على ذاك       لك الله لك الله

وبحسب «المصري»، كان المأمون خليفة مهاب الجانب، ويشعر بقوته وسيطرته، واستطاع أن يقضي على كل الثورات التي قامت ضده، وفي إحدى هذه الثورات كتب إليه عامله يستنجد به من خروج الأعراب وثروتهم ضده، فأجابه ببيتين من الشعر يطمأنه بهما ويهدد الثوار بالقضاء عليهم:

أسمعتَ غير كهام السمعِ والبصرِ   لا يقطع السيفُ إلا في يد الحذرِ
سيصبح القومُ من سيفي وضاربه   مثل الهشيمِ ذرتهُ الريحُ بالمطر

ويقال إنه لما حضرت الوفاة المأمون، جلست عند رأسه جارية كان بها شغوفًا، فأخذته غشية، فأخذت الجارية تبكيه، وأنشأت تقول:

يا ملكًا لست بناسيه   وليتني بالنفس أفديه

فأفاق من غشيته، ونظر إليها، وأنشأ يقول:

باكيتي من جزع أقصري   قد غلّق الرّهنُ بما فِيهِ

ورغم أن الخليفة المعتصم بالله (178 – 228هـ) كان يكتب ويقرأ قراءة ضعيفة، فإنه كان يحب الشعر ويحفظه، بل قيل إن له شعرًا لا بأس به، ومنها أبيات كتبها في غلام  له اسمه «عجيب» بعدما شغف به كثيرًا:

إني هويت عجيبًا          هوى أراه عجيبًا
طبيب ما بي من الحب     لا عدمت الطبيبا
وإن رمى بسهام            كان المجيد المصيبا
طبيب ما بي من الحب     فلا عدمتُ الطبيبا

شعر في الغلمان وأثناء الاحتضار

ويذكر مصطفى البشير في كتابه «مجالس الأدب في قصور الخلفاء العباسيين»، أن الخليفة الواثق بالله (200- 232هـ) كان «مليح الشعر»، وتناول الموضوع نفسه الذي تركز حوله أشعار كثير من الخلفاء، وهو الغزل بالغلمان، إذ خص بالتغزل غلامه «مهج» الذي أهديه من مصر، وقال فيه كثيرًا من الأشعار، من ذلك أنه اصطبح يومًا فناوله خادمه «مهج» وردًا ونرجسًا فأنشد الواثق في ذلك لنفسه:

حياك بالنرجس والورد    معتدل القامة والقد
فألهبت عيناه نار الهوى   وزاد في اللوعة والوجد

أما الخليفة المتوكل (205 – 247هـ) فرُويت له أشعار معظمها في جواريه، منها قوله في جاريته «قبيحة»:

إنسانة كالشمس مجدولة   أحسبها ليست من الأنس
مليحة الشكل غلامية   أحسن من بدر ومن شمس

أما المنتصر بالله (223 – 248هـ) فلم يعبر عما عبر عنه الخلفاء السابقون من الإكثار من ذكر الغلمان والجواري، لأن الرجل كان مشغولًا بهمومه، فقد قُتل أباه، وسيطر عليه الأتراك، مع ما كان يحاول من فرض شخصيته، والأخذ بزمام السلطة، وإقامة العدل، وقد عبر عن هذا كله في أشعاره، إذ قال في ما نُسب إليه في قتل أبيه:

لو يعلم الناس الذي نالني   فليس لي عندهم عذر
كان إلي الأمر في ظاهر   وليس لي في باطن أمر

ومن شعره الذي يُستشف منه أنينه من سيطرة الأتراك عليه وتحكمهم فيه، قوله:

متى ترفع الأيام من قد وضعته    وينقاد لي دهر علي جموح
أعلل نفسي بالرجاء وإنني        لأغدو على ما ساءني وأروح

ويذكر «البشير»، أن المستعين بالله (221 – 252هـ) كان يعمل شعرًا ركيكًا ضعيفًا، وكانت به لثغة تظهر أثناء كلامه وأثناء إنشاده الشعر، مما جعل ندماءه يسخرون منه، ويتندرون به، من ذلك قوله:

أحببت ظبيًا ثمين        كأنه غثن تين
بالله يا عالمين            ما في الثما مثلمين
من لا مني في هواه     لوثته بالعجين

ويريد أن يقول:

أحببت ظبيًا سمين    كانه غصن تين
بالله يا عالمين          ما في السما مسلمين
من لا مني في هواه    لوثته بالعجين

وقيل إنه كان يأمر المغنين أن يغنوه بهذا الشعر وأشباهه، فيتضاحكون ويتغامزون عليه.

وكان المعتز بالله (232 – 255هـ) يقول الشعر رغم صغر سنه، وعندما بويع بالخلافة قال معبرًا عن فرحته:

تفردني الرحمان بالعز والتقى   فأصبحت فوق العالمين أميرا

ومن شعره في غلامه يونس بن بغا الذي أولع به ولعًا شديدًا قوله:

علموني كيف أجفو   ك على رغم من أنفي
وجفائي لك يا يونس   مقرون بحتفي
غير أن الله قد يعلم   ما أبدي وأخفي
فوقاني فيك ريب الد   هر أن ياتي بصرف

وكان المهتدي بالله (219 – 256هـ)، تقيًا ورعًا يروم الفتك بالأتراك وإبعادهم عن الخلافة، ودارت أشعاره حول هذا المعنى:

أما والذي أعلى السماء بقدرة   وما زال قدما فوق عرش قد استوى
لئن تم لي التدبير فيما أريده    لتفتقدن الترك طرا فلا ترى

وبحسب «البشير»، كانت أشعار المعتمد على الله (229 – 279هـ) تتراوح بن الجودة والرداءة، ويبدو أنه كان يتفطن لمواضع الرداءة في شعره، فيبعث به إلى المغنين حتى تخفى ما به من عند التلحين، وكان كبار المغنين والمغنيات يتفطنون إلى ذلك. ومن أشعاره الرقيقة في الغزل:

طال والله عذابي           واهتمامي واكتئابي
بغزال من بني الأصـــ    فر لا يعنيه ما بي
أنا مغرى بهواه      وهو مغرى بعذابي
فإذا ما قلت صلني   كان «لا» منه جوابي

وحينما غلب عليه أخوه الموفق بالله ونقله من مكان إلى مكان، قال:

ألفت التباعد والغربة   ففي كل يوم لنا تربة
وفي كل يوم لنا حادث   يؤدي إلى كبدي كربه
أمر الزمان لنا طعمه   فما إن رأى ساعة عذبة

وكان الخليفة المعتضد بالله (242 – 289هـ) شاعرًا أيضًا، ودرات أبياته حول الغزل بالجواري، ومنها رثائه لجارية توفيت وقال:

يا حبيبا لم يكن يعــــ     دله عندي حبيب
أنت عن عيني بعيد    ومن القلب قريب

ولعل من أجمل شعره وأبلغه تأثيرًا في النفس بيات قالها أثناء احتضاره، التي تصور عز ملك مشرف على زوال:

تمتع من الدنيا فإنك لا تبقى    وخذ صفوها ما إن صفت ودع الرنقا
ولا تأمنن الدهر إني أمنته     فلم يبق لي حالًا ولم يرع لي حقا

وقرض المكتفي بالله (264 – 295هـ) أيضًا الشعر، ودارت حول الغزل، ومن ذلك قوله:

تلطف في رسولك يا أميري     فإني من رسولك في غرور
أحمله رسالاتي فينسى           ويبلغك القليل من الكثير
وأرسل من إذا لحظته عيني    حكى لي طرفه ما في ضميري
إذا كان الرسول كذا بليدًا       تقطعت الجوانح في الصدور