فتحت وفاة الملك عبد الله بن عبد العزيز عن عمر جاوز التسعين عاما وتولي الملك سلمان بن عبد العزيز 80 عاما العرش السعودي على إثره التساؤلات حول من يمارس تسيير وحكم المملكة العربية السعودية حقيقة في ظل هذه السن المتقدمة للملوك السعوديين؟ ومن الذي يتولى هندسة عملية خلافة العرش؟

ورغم أن الأصل هو أن الملك السعودي هو الذي يمارس السلطة بنفسه إلا أن التجربة التاريخية لأبناء الملك عبد العزيز قد حفلت بـ”ملوك ظل” يتولون هم إدارة البلاد..


الأمير القوي

بدأ هذا الأمر مبكرا جدا. فعلى إثر وفاة الملك عبد العزيز بويع لابنه الأكبر (سعود) ملكا ولأخيه التالي (فيصل) وليا للعهد. إلا أن فيصل كان هو الشخصية الأقوى والأكثر حنكة وخبرة بالسياسة، وذلك من خلال التعليم الذي حصل عليه من أخواله -كانت أم الملك فيصل تنتمي لعائلة آل الشيخ وهم أبناء الشيخ محمد بن عبد الوهاب واضع أساس الدولة السعودية بينما كانت أم الملك سعود قد تطلقت مبكرا من الملك عبد العزيز قبل أن يصبح ملكا للسعودية- بالإضافة إلى احتكاك (فيصل) بكبار التجار والطبقة المتعلمة في منطقة الحجاز إبان عمله نائبا لأبيه عليها.

الأصل هو أن الملك السعودي هو الذي يمارس السلطة بنفسه إلا أن التجربة التاريخية لأبناء الملك عبد العزيز قد حفلت بـ”ملوك ظل” يتولون هم إدارة البلاد

تزايد نفوذ فيصل في مقابل اهتزاز صورة الملك سعود الأمر الذي دفع بالأخير إلى إقالة فيصل من جميع مناصبه التنفيذية والإبقاء مؤقتا عليه كولي للعهد فقط. إلا أن انهيار الميزانية إثر تدهور سعر النفط بالإضافة إلى الأداء الهزيل للملك سعود في مواجهة انتشار الثورات الجمهورية (التي كان يدعمها عبد الناصر في ذلك الوقت) وفشل سياسته في حرب اليمن – كل ذلك أدى إلى المزيد من إضعاف موقف الملك سعود في مقابل فيصل الذي كان مدعوما من جناح كبير من العائلة المالكة -وعلى رأسهم الأشقاء السديريين السبعة-، بجانب السلطة الدينية متمثلة في آل الشيخ -أخواله- ومعهم كبار تجار الحجاز ذوي العلاقة القديمة بفيصل والساخطين أيضا من تدهور الوضع الاقتصادي.

كل هذا اضطر سعود في النهاية إلى إعادة فيصل مرة أخرى لمركز القرار..

عاد فيصل ومعه إخوته الذين انحازوا إلى صفه إبان الخصومة بينه وبين سعود ليسيطروا على الوزارات السيادية كلها كالخارجية والداخلية والدفاع. تلى ذل كإجبار الملك سعود على إعلان أن فيصل سينوب عن الملك في القيام بمهامه (في حضور وغياب الملك)، لينتهي الأمر بإعلان الإذاعة السعودية أن (أهل الحل والعقد) من كبار أمراء العائلة المالكة والعلماء (آل الشيخ) ووجهاء البلد قد قرروا خلع الملك سعود ومبايعة فيصل ملكا للسعودية.

رفض سعود في البداية القبول بالإطاحة به نهائيا، لكن تبين له أن فيصل قد أحكم سيطرته حتى على الحرس الملكي الذي يحيط بالقصر، فانصاع للأمر الواقع، وأعلن التنازل عن العرش ومغادرة البلاد إلى اليونان التي بقي منفيا فيها حتى وافاه الأجل.

عاد فيصل ومعه إخوته الذين انحازوا إلى صفه إبان الخصومة بينه وبين سعود ليسيطروا على الوزارات السيادية كلها كالخارجية والداخلية والدفاع

إثر توليه للعرش عرض الملك (فيصل) على أخيه التالي (محمد بن عبد العزيز) منصب ولاية العهد بحكم ترتيبه إلا أن محمدا كان مكروها نظرا للقسوة التي اشتهر بها -حتى أنه لقب بـ “أبو الشرّيْن”- فآثر التنازل عن المنصب لأخيه الشقيق (خالد) .. في الوقت الذي عزز فيه الأشقاء السديريون السبعة (نسبة إلى أمهم التي تنتمي لعائلة السديري) مكانتهم في الوزارات السيادية بالبلاد.

اغتيل الملك فيصل على يد ابن أخيه فيصل بن مساعد (الحادثة التي يعتقد أن للإدارة الأمريكية يد فيها للقضاء على الخط الذي انتهجه فيصل وتوّجه بقرار قطع النفط تماما عن الغرب الداعم لإسرائيل إبان حرب أكتوبر) ليتولى (خالد) بعده الملك ويصبح (فهد) -التالي في الترتيب وأكبر الأشقاء السديريين- وليا للعهد.


صانع الملوك

كان الملك خالد معتل الصحة الأمر الذي جعل ولي العهد (فهد) هو الحاكم الحقيقي للمملكة بالتعاون مع أشقائه السديريين الذين كانوا قد أحكموا سيطرتهم على وزارة الدفاع والطيران (سلطان وزيرا ، وعبد الرحمن نائبا له)، ووزارة الداخلية (نايف وزيرا، وأحمد نائبا له)، وإمارة منطقة الرياض -العاصمة- (سلمان).

في ذلك الوقت أخذ خالد قرارا بأنه يجب الالتزام بالترتيب السني للإخوة في تولي الحكم معلنا (عبد الله) -الذي لم يكن له أي إخوة أشقاء ذكور- نائبا ثانيا، ورئيسا لـ(الحرس الوطني).

رأى عبد الله بن عبد العزيز مكانته كنائب ثان وأمير للحرس الوطني -المتمثل في بضع مئات من الرجال قليلي التسليح- مكانة أقرب ما تكون إلى الرمزية لاسيما وسط مجموعة من الأشقاء الأقوياء المسيطرين على الوزارات السيادية. الأمر الذي كاد يدفعه إلى التنازل جملة عن هذه المناصب الشرفية.. إلا أن رجلا أثناه عن ذلك..

أخذ خالد قرارا بأنه يجب الالتزام بالترتيب السني للإخوة في تولي الحكم معلنا عبد الله -الذي لم يكن له أي إخوة أشقاء ذكور- نائبا ثانيا، ورئيسا للحرس الوطني

كان ذلك الرجل هو عبد العزيز التويجري (صانع الملوك) ومستشار (عبد الله) الأمين الذي نصحه بالإبقاء على الحرس الوطني الصغير هذا وأشرف على تحويله بصورة تدريجية -طوال حكم الملك فهد الطويل- من كتيبة صغيرة قليلة العدد والعتاد إلى واحدة من أكبر المؤسسات في السعودية إن لم تكن أكبرها على الإطلاق. فلم تتحول الكتيبة الصغيرة إلى الألوية الأكبر والأفضل تسليحا وحسب، بل تحولت إلى مؤسسة شاملة لها هيئاتها الاجتماعية والتعليمية والطبية -الأفضل في المملكة-، بالإضافة إلى تلميع صورة (عبد الله) كـ(أمير مستنير) من خلال إشرافه على مهرجان (الجنادرية) الثقافي السنوي الذي كان يقدم استضافة كاملة لأهم الأدباء والفنانين في الوطن العربي. كل هذا جعل من تنحية عبد الله عن سلم ولاية العرش أمرا عسيرا للغاية.


سباق الموت: لعبة الأقدار

توفي عبد العزيز التويجري -الرجل الذي يدين له الملك عبد الله بالكثير- بعد عامين فقط من تكلل سعيه بالنجاح ووصول الملك عبد الله للعرش

بعد حوالي ربع قرن في قمة السلطة توفي الملك (فهد) ليخلفه الملك (عبد الله) الذي حالفته الأقدار وأتت لصالحه مرتين على التوالي على حساب جناح السديريين فتوفي (سلطان) -الشقيق السديري التالي والذي ظل شاغلا لمنصب وزير الدفاع خمسين سنة كاملة!- وبعده بعام واحد توفي (نايف) -وزير الداخلية- أيضا.

وبهذا غدا (سلمان) وليا للعهد ووزيرا للدفاع، وحل (محمد بن نايف) محل أبيه كوزير للداخلية بعد إعفاء أصغر الأشقاء السديريين (أحمد) “بناء على طلبه” -وهي الجملة التقليدية اللطيفة المعبرة عن الإقالة-.

وفي سعي منه للحفاظ على مكانته، عمد التويجري الابن لتكرار دور الأب هذه المرة مع ابن الملك عبد الله (متعب) الذي أعقب أباه في رئاسة الحرس الوطني..توفي عبد العزيز التويجري -الرجل الذي يدين له الملك عبد الله بالكثير- بعد عامين فقط من تكلل سعيه بالنجاح ووصول الملك (عبد الله) للعرش، وتقديرا لهذا عين (عبد الله) ابنه (خالد التويجري) محل أبيه في أمانة الحرس الوطني ثم أصبح رئيسا للديوان الملكي. ومن خلال وظيفته الأخيرة هذه، كان (خالد التويجري) هو الرجل الأكثر نفوذا وتأثيرا في رسم جميع سياسات المملكة الداخلية والخارجية طوال عهد الملك عبد الله.

استغل خالد التويجري تغييب الموت لرجلي السيدريين القويين سلطان ونايف لزيادة حظوظ متعب بن عبد الله في أن يكون أول حفيد من الجيل الثاني يرتقي تسلسل تولي السلطة فحث الملك عبد الله على تعيين (مقرن) -أصغر أبناء الملك عبد العزيز- نائبا ثانيا مع ابتكار لقب (ولي ولي العهد).

كان خالد التويجري هو الرجل الأكثر نفوذا وتأثيرا في رسم جميع سياسات المملكة الداخلية والخارجية طوال عهد الملك عبد الله

كانت فرصة مقرن في أن يكون يوما ما جزءا من تسلسل التعاقب على العرش شبه معدومة ، ويعود هذا إلى السنة التي انتهجها آل سعود في تنحية من تكون أمه جارية عن ترتيب ولاية العرش -مقرن أمه جارية يمنية الأصل- الأمر الذي تكرر مع عدد من أبناء الملك عبد العزيز وعلى رأسهم مشعل -رئيس هيئة البيعة والذي كانت أمه ذات أصول أرمينية-.

إلا أنه بدعم من الملك عبد الله أصبح مقرن وليا لولي العهد -ثانيا في الترتيب بعد سلمان-، فيما بدا كمقابل لعهد قطعه مقرن على نفسه بأن يعين (متعب بن عبد الله) وليا لعهده إذا وصل هو إلى سدة العرش لاحقا..


محمد بن نايف.. لماذا؟

أخيرا أتت (لعبة الأقدار) لصالح السديريين وتوفي الملك عبد الله.

رأى سلمان أن محمد بن نايف هو الرجل الأمثل ليفتتح به جيل أحفاد الملك عبد العزيز طريقهم إلى عرش مملكة محاطة ببحر من التحولات التاريخية

لماذا محمد بن نايف؟ في الحقيقة فإن لاختيار سلمان لمحمد بن نايف ليكون وليا لولي العهد وجاهة كبيرة: فهو أولا ابن الأمير نايف الذي توفي وهو ولي للعهد قبل أن تتاح له فرصة الجلوس على العرش، ثم هو أيضا زوج إحدى بنات الأمير سلطان الذي توفي أيضا وهو ولي للعهد، وبالتالي فمشروعية (محمد بن نايف) في أن (يأتي الدور عليه هو بالذات) من بين جيل الأحفاد عالية ومنطقية وسط العائلة الحاكمة وجناح السديريين خاصة، لاسيما في ظل كون أبرز أبناء الملك سلمان (محمد بن سلمان) -وزير الدفاع الجديد- لازال شابا في الثلاثينات من عمره.وقبل حتى أن يوارى الثرى كان (سلمان) قد اتخذ كل الترتيبات اللازمة فبادر بالإطاحة برجل الظل (خالد التويجري) ، وأعلن قبوله لمبايعة مقرن بولاية العهد ولكن مع مبايعة (محمد بن نايف) وليا لولي العهد قاطعا الطريق على (متعب بن عبد الله).

يضاف إلى هذا عاملين هامين:

الأول: هو علاقات محمد بن نايف المتميزة مع الولايات المتحدة وإدارة أوباما التي كانت تراه دوما الأجدر من أبناء الجيل الثاني (أحفاد الملك عبد العزيز) لتولي الحكم والحفاظ على استقرار المملكة.

والثاني: إثبات محمد بن نايف نفسه كرجل آل سعود القوي في وزارة الداخلية خاصة مع الحملة الأخيرة التي قادها (صقور نايف) -القوات الخاصة التابعة لوزارة الداخلية- في المنطقة الشرقية ذات الأغلبية الشيعية ضد عدد من المطلوبين لدى الوزارة.

كل هذا جعل محمد بن نايف الرجل الأمثل ليفتتح به جيل أحفاد الملك عبد العزيز طريقهم إلى عرش مملكة محاطة ببحر من التحولات التاريخية.