عبر إصدار مرئي جديد، أطل أيمن الظواهري، أمير تنظيم القاعدة، بطريقته التقليدية بعد أن توارى عن الأنظار لفترة لم تتجاوز الشهرين، عقب ظهوره الأخير، في نوفمبر/كانون الثاني الماضي، متحدثًا عن «مشروع القاعدة» متدرج المراحل لهزيمة «العدو البعيد»، والذي انشغل بتوضيحه في سلسلة من الإصدارات الدعائية، منذ عام 2017.

وبعد مقدمته المعتادة، شرع أمير القاعدة في تحديد أعداء «دعوته الجهادية»، قائلًا إن طليعة أعدائنا هي الدول التابعة للغرب التي تزعم أنها تُدفع عن المسلمين لكنها في مقدمة المشروع الغربي، وإنها تستخدم أدواتها بما فيها المنصات الإعلامية لخدمة هذا المشروع، ضاربًا مثلًا بفضائية الجزيرة ودولة قطر التي وصفها أن تُعادي مشروع التنظيم.

وانطلاقًا من وثائقي قديم نشرته الفضائية القطرية في سبتمبر/أيلول 2019، عاد الظواهري ليواصل معركته ضد الجزيرة، قائلًا، إن هناك مشكلة حقيقية بين قطر وواجهتها الإعلامية والتنظيم، وذلك لأن الدولة الخليجية موالية للولايات المتحدة الأمريكية بشكل كامل، على حد قوله.

قطر إذ تنكأ جراح الظواهري

على أن هجوم الظواهري المتواصل على الجزيرة ومن خلفها الدولة القطرية، حمل في طياته سلسلة من الرسائل الضمنية التي حاولت مؤسسة «السحاب»، ذراع القاعدة الدعائية، إخفاءها داخل عملية الحشد الدعائي المكثف الذي قامت به للتدليل على صحة اتهامات أمير القاعدة.

فخلال الكلمتين الآخيرتين له، تمسك أيمن الظواهري بخط روتيني من مخاطبة «الحاضنة والذات الجهادية»، سعيًا للحفاظ على ما تبقى من التأييد الموجود للقاعدة في إطار دوائرها القديمة، والإبقاء على التحالفات القديمة مع الحركات المسلحة الأخرى كحركة طالبان الأفغانية، التي أعلن قادتها التزامهم بالمشاركة في الحرب على الإرهاب وتعهدوا بعدم إيواء التنظيمات الجهادية على أراضيهم بعد الانسحاب الأمريكي، خلال مفاوضات السلام التي جرت في العاصمة القطرية الدوحة وتُوجت باتفاق ثنائي، أُبرم في فبراير/ شباط 2020.

لكن المرارة التي تجرعها أمير القاعدة، بعد تخلي حلفائه القدامى عن دعم التنظيم وإصرارهم على التمسك بنهج براجماتي يُعلي من مصالحهم الذاتية على حساب الأيديولوجيا الجهادية التقليدية، دفعته لتفتيش في أوراقه القديمة والسعي للانتقام من قطر والجزيرة المسؤولتين عن مواجهة القاعدة وتشويه صورتها، كما يقول في كلمته الأخيرة المعنونة بـ«صفقة القرن أم حملات القرون 2».

وتُوضح الرسائل التي تضمنها إصدار «صفقة القرن أم حملات القرون 2»، حجم التداخل والتماهي الحاصل في إطار تنظيم القاعدة، بين شخصية وطبيعة القيادة المركزية/العليا ممثلة في أيمن الظواهري والمجموعة القيادية المقربة منه، والحركية التنظيمية التي رسمت مسار القاعدة كتنظيم جهادي عابر للحدود الوطنية يُركز على حرب العدو البعيد أو الولايات المتحدة، الخصم الأبرز للقاعدة، قبل أن تتبدل ملامح هذا المسار بفعل رؤية أمير القاعدة الخاصة.

وتكشف حالة التداخل المعقدة بين شخصية الظواهري وشخصية/ هوية تنظيم القاعدة، جزءًا من التحولات الحرجة التي تمت في إطار التنظيم، خلال العقدين الماضيين، والتي لطالما صارعت قيادته لاحتوائها والحد من تأثيرها، لكي تبقى ممسكة بتلابيب التنظيم.

الانقلاب والتحول الإستراتيجي للقاعدة

فبفعل الصدمة الإستراتيجية التي تلقتها «القاعدة» جراء الحملة الدولية لمكافحة الإرهاب والتي أعقبت هجمات 11 سبتمبر/ أيلول 2001، تآكل التنظيم ونُخرت بنيته الداخلية حتى انكشفت نواته الصلبة وأُطيح بقادته البارزين واحدًا تلو آخر، وصار يبحث عن وسيلة لإعادة تجديد نفسه وضخ الدماء في أوردته الواهنة لتُحيي «قلب القاعدة» الذي كاد يتوقف ويُنهى حياة المشروع الجهادي المشترك لأسامة بن لادن ونائبه الأقرب أيمن الظواهري.

ونتيجة هذه الظروف والتفاعلات التنظيمية، قبل القاعدة ببيعة مجموعات متمايزة بشكل جوهري عنه، وفي مقدمتها «جماعة التوحيد والجهاد» بإمارة أبو مصعب الزرقاوي الأردني، وكذلك «الجماعة السلفية للدعوة والقتال» بإمارة أبو مصعب عبد الودود الجزائري. ورغم أن تلك الخطوة أسهمت في استعادة جزء من زخم القاعدة المفقود، منذ 2001، فإنها ولدت خلافًا وتدافعًا داخليًا بين القيادة المركزية للقاعدة في خراسان (منطقة أفغانستان وباكستان) وأفرع التنظيم الخارجية في العراق وغيرها، لا سيما وأن تلك الأفرع انشغلت بإستراتيجيتها الخاصة المتمثلة في قتال العدو القريب وهو ما لم يخدم إستراتيجية التنظيم المركزي الذي طلب قادته وعلى رأسهم أسامة بن لادن من تلك الأفرع العودة للالتزام بإستراتيجية قتال العدو البعيد وتجنب الانخراط في عمليات إرهابية ضد الأنظمة والحكومات المحلية لأن المعركة، من منظوره، يجب أن تركز على استنزاف الولايات المتحدة لتكف عن الوجود أو دعم الأنظمة الحاكمة في الشرق الأوسط.

بيد أن مسار القاعدة المركّز على قتال العدو البعيد، تحول تدريجيًا إلى قتال العدو القريب مع الإبقاء على شعارات حرب أمريكا بصورة شكلية في خطابات قادة التنظيم وإصدارته الدعائية.

وبرز هذا التحول بشكل أوضح، في عام 2011 أي بعد نحو عقد من هجمات سبتمبر/ أيلول 2011، إذ سارع التنظيم إلى إعلان دعم الثورات العربية معتبرًا إياها هزيمة مزلزلة- بتعبير أيمن الظواهري في كلمته لرثاء بن لادن منتصف عام 2011- للولايات المتحدة الأمريكية.

وترسخ هذا التحول تدريجيًا، مع وصول أيمن الظواهري إلى إمارة تنظيم القاعدة، منتصف عام 2011، نتيجةً أسباب متداخلة منها طبيعة أمير القاعدة الجديد الشخصية التي ما زالت متجمدة عند لحظة ماضوية في مسيرة تنظيم الجهاد المصري الذي قاده قبل اندماجه مع القاعدة، وكذلك انشغال أفرع القاعدة الفاعلة في اليمن والصومال ومالي وسوريا وغيرها بقتال الأعداء المحليين، من دون تخصيص موارد لمهاجمة الولايات المتحدة أو حلفائها الغربيين، علاوة على فقدان القيادة المركزية السيطرة الفعالة على تلك الأفرع، وهو ما أدى إلى انشقاقات هيكلية في إطار معسكر القاعدة وبروز فواعل جهاديين جدد أبرزهم تنظيم الدولة الإسلامية داعش وهيئة تحرير الشام («جبهة النصرة» سابقًا).

أمير القاعدة ومتلازمة الصراعات غير المنتهية

إلى ذلك، لم تُسهم إمارة أيمن الظواهري للقاعدة في التخلص من حالة «الموات السريري وعدم الفاعلية» التي عانى منها التنظيم المركزي، في السنوات التي سبقت مقتل بن لادن، بل فاقمت من التحديات التي يواجهها التنظيم، الذي انشغل قائده الجديد باستئناف معارك قديمة ضد دول (كقطر والسودان وباكستان وتركيا)، وجماعات إسلامية أخرى (الإخوان والجماعة الإسلامية المصرية، وتنظيم داعش)، وكذلك قنوات فضائية.

وحاول أمير القاعدة إطلاق مشروع جديد لإخراج القاعدة من حالة الركود الذي تعانيه، لكن ملامح هذا المشروع ظلت ضبابية وحائرة بين الجهاد السياسي غير المحدد، و«جهاد الدعوة» الذي يحث الظواهري عليه ويُنظر له في جزء من لقاءاته وكتاباته وعلى رأسها كتابه الأخير، «الكتاب والسلطان اتفاق وافتراق»، الذي خصص الجزء الأكبر منه لاستعراض ملامح الديانة المسيحية والحث على دعوة أبنائها للإسلام واللحاق بركب الحركة الجهادية.

كما بدا في أكثر من مناسبة أن الظواهري ظل حبيسًا لصراعاته الماضية، ولبعض اللحظات الفارقة في مسيرة الحركة الجهادية المعاصرة ومنها لحظة المراجعات الجهادية التي أجرتها الجماعة الإسلامية وتنظيم الجهاد المصري في عامي 2002، و2006 على الترتيب، والتي حرص على انتقادها في مناسبات عدة آخرها في ثنايا حديثه ضمن إصدار «صفقة القرن أم حملات القرون 2»، وكذلك مهاجمة المنصات الدعائية التي روجت لتلك المراجعات، ومنها فضائية الجزيرة القطرية التي عاب عليها أمير القاعدة تخصصيها ساعتين لعرض مراجعات سيد إمام الشريف (معروف بـ«دكتور فضل»/عبد القادر عبد العزيز)، رفيق الظواهري وأمير تنظيم الجهاد السابق.

وعلاوة على انتقاده لتغطية الجزيرة لـ«مراجعات الجهاديين»، استدعى أيمن الظواهري خلافاته السابقة مع الفضائية القطرية إلى واجهة الأحداث مجددًا، عبر وصفها بأنها تتبع «سياسة إعلامية مخادعة» وتهاجم القاعدة، متطرقًا إلى أن انتقاده السابق لها عام 2007 بسبب ما وصفه بتحيزها ضد التنظيم وتعمدها تأخير نشر مقابلة أسامة بن لادن مع الصحفي جمال إسماعيل عام 1998، ونشرها بعد 6 أشهر من إجرائها ضمن وثائقي بعنوان «تدمير القاعدة»، كما أشار إلى وثائقيات أخرى أنتجتها القناة حول نظرية المؤامرة التي ارتبطت بهجمات 11 سبتمبر.

الانتقام المتخيل

ومثلت مهاجمة الظواهري للجزيرة محاولة أخرى لاستئناف الصراعات القديمة له، فأمير القاعدة لم يكن راضيًا عن الفضائية القطرية، حتى في السنوات السابقة التي صنف فيها التنظيم الدولة الخليجية كملاذ آمن محتمل لأسر قادته – وفي مقدمتهم أسرة حمزة نجل أسامة بن لادن – بجانب التعاون مع صحفيين من الشبكة في نشر وترويج دعاية التنظيم، كما تُظهر مراسلات أسامة بن لادن وعطية الله الليبي (جمال المصراتي)، مسؤول العمليات الخارجية بالقاعدة (2009- 2012)، والتي كُشفت ضمن وثائق آبوت آباد التي عُثر عليها في مخبأ زعيم القاعدة المؤسس ونشرتها الاستخبارات المركزية الأمريكية لاحقًا.

وثائق أبوت آباد
أسامة بن لادن يطلب من مسؤولي العمليات الخارجية نقل نجله حمزة إلى قطر

ووفقًا لمراسلة سابقة بين الليبي وبن لادن، فإن الجزيرة لم تُولِ تسجيلات أيمن الظواهري الاهتمام الكافي، واكتفت بعرضها على هامش النشرات الإخبارية بما لا يتناسب مع الأهمية (المتخيلة) لتلك التسجيلات، وهو ما اعتبره مسؤول العمليات الخارجية بالقاعدة جزءًا من انتقام الفضائية من الظواهري بسبب مواقفه منها.

وثائق أبوت آباد
مراسلة بين بن لادن وعطية الله الليبي تتناول انتقام الجزيرة من أيمن الظواهري

ومع أن المعرفة السابقة بطبيعة وطريقة أيمن الظواهري لا تجعل من تطرقه إلى مواقفه من قطر وقناة الجزيرة أمرًا مستغربًا، إلا أن التدقيق في سياق وأداء أمير القاعدة في الإصدار الأخير تكشف توجسه من أن تلعب قطر وفضائيتها دورًا محفزًا في تسريع عملية التحولات داخل حركة طالبان الأفغانية لتصل إلى مرحلة «المراجعات الكاملة» لعلاقتها مع التنظيم، وهو ما يبدو من كلماته التي أقحمها في الثواني الأخيرة من الإصدار حول اعتراف الدول الأعضاء بالأمم المتحدة بإسرائيل في إشارة ضمنية لطلب الحركة الانضمام للمنظمة الدولية.

ورغم حرصه على إنقاذ ما تبقى من تحالفه مع طالبان، فإن أيمن الظواهري بقي منخرطًا في صراعاته الذاتية القديمة التي تجاوزها التاريخ، كما تجاوز مشروع القاعدة القتالي الذي تحول في عهده إلى مشروع هجين يجمع «الدعوة والسياسة» التي لم يجدهما أمير القاعدة أبدًا، كما تثبت سيرته ومسيرته في قيادة الحركة الجهادية.