سيف الدين أزبك من ططخ الظاهري.. أزبك هو اسمه أما «ططخ» فهو التاجر الذي جلبه صغيرًا إلى مصر ليباع مملوكًا، و «مِن» هي نسبة اعتاد المماليك استخدامها فينسبون بعضهم للتاجر (الجلَّاب) إما بأن يقال فلان من فلان، أو أن يُنسَب مباشرة للتاجر كقولهم «قايتباي المحمودي» نسبة لى جلابه المدعو محمود. أما «سيف الدين» فهو لقبه الأول، حيث اعتاد رجال السيف والقلم في دولة المماليك حمل ألقاب مضافة للدين بعضها ذو صفة مدنية مثل: جلال الدين، تقي الدين، جمال الدين، كريم الدين؛ بينما حمل العسكريون ألقابًا ذات صلة بالبأس والقوة مثل: سيف الدين، ركن الدين، عزالدين.. الخ.

وأما «الأتابك» فهو وظيفته، وهو لقب مركب من لفظين هما «أتا» بمعنى: الأب، و «بك» بمعنى: الأمير/الأمراء، فهو: أبو الأمراء. وكانت في البداية وظيفة لمربي ولي العهد -بالطريقة العسكرية-ف ي عهد دول السلاجقة والزنكيين والأيوبيين، ثم أصبح معناها: القائد العام للجيش، أو ما يشبه في عصرنا الحالي منصب: رئيس هيئة الأركان المشتركة والعمليات للقوات المسلحة. واللقب كاملًا هو: أتابك العسكر. وقد كان صاحب هذا المنصب يشغل مركز «الرجل الثالث» في السلطنة بعد كل من السلطان ونائب السلطنة في بدايات العصر المملوكي، ثم أصبح هو المنصب صاحب الصدارة بعد السلطان -بل وربما المتحكم فيه- في المرحلة الوسيطة من هذا العصر، وفي آخر مراحله تراجعت مكانة المنصب لصالح منصب آخر هو «الدوادار»، وتعني: حامل الدواة، وهو بمثابة المدير العام للجهاز الإداري المملوكي. إلا أن فترة تولي أزبك من ططخ للأتابكية كانت فترة استثنائية حيث تساوى مركزه مع مركز الدوادار الأول -والذي كان يشغله الأمير يشبك من مهدي- في عهد السلطان قايتباي الذي اتخذ من الرجلين ذراعين له وأقرب أعوانه، بل وربما أخص أصدقائه أيضًا.

ولقب «أمير كبير» هو لقب اعتيد إطلاقه على كبار الأمراء ممن يتولون الأتابكية والدوادارية، إلا أنه قد أُطلِلق أحيانًا على بعض الأمراء أصحاب السطوة والنفوذ حتى وإن لم يشغلوا مناصب إدارية كبيرة.

وعن نسبته «الظاهري»، فقد كان لكل مملوك نسبة لجلابه أو لمالكه أو لكليهما. وأزبك نُسِبَ للاثنين معًا فهو «من ططخ» كما سلف الذكر، وهو «الظاهري» نسبة للسلطان الظاهر جقمق.


المِحَن: بداية أزبك

اختُلِفَ في أمر المالك الأول للمملوك أزبك، فقال البعض أنه من مشتراوات السلطان الظاهر جقمق (1438م-1453م) بينما رجح البعض الآخر أنه كان من مشتروات الأشرف برسباي (1422م-1437م)، وأن جقمق اشتراه بعد ذلك من بيت المال وأعتقه وجعله من أمراء، ويبدو أنه كان قبلها قد غضب عليه لأمرٍ ما فنفاه أو أبعده، ثم أعاده إلى بلاطه وأنعم عليه بإمرة عشرة (أمير عشرة)، وكان هذا بداية رحلة صعوده، حيث قربه السلطان منه واختص به إلى حد أنه قد زوجه ابنته «خوند عائشة» وعقد له عقد الزواج بقاعة الدهيشة الملكية بقلعة الجبل، وكان بعد ذلك ينزل من قلعته ليزورهما في بيتهما. واستمرت عائشة في عصمة أزبك حتى وفاتها -بعد موت أبيها- فتزوج الأمير من أختها الأرملة، ليكون بذلك قد صاهر السلطان مرتين، واحدة في حياته وأخرى بعد وفاته. وجدير بالذكر أن أزبك قد تولى خلال تلك الفترة منصب «الخازندارية الكبرى» (مسئول الخزانة العامة) حتى خلعه منها السلطان الأشرف إينال.

في عهد الأشرف إينال (1453م-1460م) هوى نجم المماليك الظاهرية (نسبة للظاهر جقمق) ومنهم أزبك الذي خُلِعَ من منصبه.

في عهد الأشرف إينال (1453م-1460م) هوى نجم المماليك الظاهرية (نسبة للظاهر جقمق) ومنهم أزبك الذي خُلِعَ من منصبه -نتيجة صراع على السلطة بين مماليك الظاهر جقمق ورجال السلطان إينال- واقتيد لسجن الإسكندرية مع رفاقه الظاهرية حيث بقي بالحبس ثم نُفِيَ إلى القدس «بطَّالًا» (أي معزولًا من كل رتبه ومناصبه). ثم بعد خمس سنوات أعلن إينال العفو عنه وأخلع عليه (أي قدم له خلعة وهي بمثابة رداء للتكريم أو إعلان الرضا) وأعاده لرتبة أمير عشرة. ثم مات السلطان إينال ليتولى ابنه المؤيد أحمد لمدة تقل عن أربعة أشهر ليخلعه الظاهرية والأشرفية (نسبة للأشرف برسباي) ويصبح الظاهر خشقدم سلطانًا للبلاد (1460م-1467م) لينعم على أزبك برتبة «مقدم ألف» أي أن يصبح أمير مئة فارس في السلم، ومقدم ألف فارس في الحرب.

وتعرض أزبك وحزبه لمحنة جديدة حيث وقعت محاولة انقلابية من الإينالية ضد خشقدم، وكادوا بالفعل أن يخلعوه لولا أن ثبت لهم الظاهرية وهزموهم. ثم جاءت محنة أخرى حيث تمرد نائب الشام الأمير جانم على السلطان وعبر نهر الفرات بجيش يستهدف مصر للاستيلاء على الحكم، وكانت جبهة هذا المتمرد قوية، فاضطربت أحوال خشقدم وأسرع بتجهيز جيش جرار للتصدي للخارجين عليه، كان أزبك من قادته، لولا أن تمرد العساكر التركمان في جيش جانم على قائدهم فانحل عقد جيشه وعاد من حيث أتى.

وبعد فترة هدوء نسبي عادت الفتنة لتطل برأسها. فتمرد بعض الظاهرية على السلطان بقيادة الأمير جاني بك أمير جدة دفع السلطان ورجاله لاتخاذ اجراءات قمعية عنيفة بحقهم، وبطبيعة الحال فقد اضطر السلطان لاعتقال كبار الظاهرية ومنهم أزبك الذي تم تقييده مع رفاقه وإرسالهم من جديد لسجن الإسكندرية. ولكن في هذه المرة لم يدم سجنه سوى ثلاثة أيام حيث كان هذا السجن مجرد «إجراء احترازي»، فقد أمر خشقدم بالإفراج عن أزبك وأخذ يتنصل من المسئولية عن القبض عليهم مبررًا ذلك بأنه كان من فعل مماليكه الجلبان (الجلبان هم المماليك المجلوبون كبارًا وليس صغارًا كما جرت العادة)، وسارع السلطان للخلع على أزبك والأمراء وتكريمهم على الملأ. وفي نفس العام عُيِنَ أزبك في منصب «حجوبية الحجاب الكبرى»، أي أنه قد أصبح الحاجب الأول للسطان، وهو المسئول عن إدارة وتنظيم الدخول عليه والمثول بين يديه. وكان تعيينه «باش عسكر» (قائد حملة) للحملة الأمنية الموجهة للبحيرة لقمع فساد العربان هناك بمثابة تأكيد على ثقة السلطان به.

وفي العام التالي أصبح أزبك من ططخ «رأس نوبة النوب»، أي المسئول الأعلى عن خدمة وحماية السلطان ومراقبة ومتابعة مماليكه القائمون بخدمته في القلعة، مما نقله إلى بعض أعلى مراكز الصدارة في المملكة، وكان التكليف الأخير من السلطان للأمير هو الخروج على رأس التجريدة (الحملة) الموجهة لمدينة العقبة لقمع العربان المقيمين هناك عن أعمال السلب والنهب بالذات لقوافل الحجاج.

وفي العام 1467م توفي الظاهر خشقدم، وتسلط الأمير خير بك الدوادار على السلطة، لكنه لم يقفز على كرسي السلطنة، فعين أزبك نائبا للشام.

وفي العام 1467م توفي الظاهر خشقدم، وتسلط الأمير خير بك الدوادار على السلطة، لكنه لم يقفز على كرسي السلطنة، بل أراد أن يلعب دور «صانع السلاطين»، فوضع على الكرسي سلطانًا ألعوبة هو سيف الدين يلباي المعروف بـ «المجنون» أو «السلطان قل له» (لأنه كان كلما طُلِبَ منه أمر أشار لخير بك وقال: وأنا إيش كنت؟قل له)، وجعله يعين أزبك نائبًا للسلطان ببلاد الشام، وهو من أعلى المناصب السيادية في الدولة المملوكية حيث يتولى حكم «الديار الشامية» من المملكة الممتدة من برقة غربًا إلى جنوب الأناضول شمالًا. وبقي «نائب الشام» يراقب الأوضاع في منأى عن المؤامرات حفاظًا على نفسه من شرارات فترة بدا للجميع أنها شديدة الاضطراب.

لم يُبق خير بك صنيعته يلباي على الكرسي سوى ما يقل عن ثلاثة أشهر، ثم خلعه ووضع مكانه تمربغا الرومي لفترة أقل، وسرعان ما ارتكب «صانع السلاطين» غلطته الأخيرة حيث طمع في حيازة لقب «سلطان البرين وملك البحرين وخادم الحرمين الشريفين» فخلع تمربغا وتسلطن هو؛ لكن الأمير قايتباي خلعه في اليوم التالي ليصبح لقب خير بك هو «سلطان ليلة» ويحمل قايتباي لقب «أبوالنصر الملك الأشرف السلطان سيف الدين قايتباي المحمودي» (1468م-1496م)، ليعلو معه نجم سعد الأمير أزبك.


الأتابك

عندما تولى قايتباي السلطنة عيّن الأمير جاني بك قلقسيز أتابكًا للعسكر. وسارع بتكليفه بقمع تمرد الأمير التركماني شاه سوار الذي كان يحكم إمارة «دلغادر» (أو ذي القدر في بعض المصادر) الواقعة جنوب الأناضول، وكلف نائب الشام أزبك بتقديم الدعم للحملة.

ولكن حلت بتلك الحملة كارثة حيث استدرج شاه سوار الجيش المملوكي إلى عمق بلاده وداهمهم فكسر القوات ومزق شملها فانسحبت بشكل عشوائي إلى حلب، وأسر عددًا من الأمراء منهم الأتابك جاني بك قلقسيز، وقتل كثيرًا من الأمراء بينما فر الباقون حيث عادوا إلى الشام مشيًا -ومنهم أزبك- وهم في أسوأ حال.

ارتجت المملكة لهذه الأنباء، إلا أن مصائب قوم عند قوم فوائد، فبأسر جاني بك أصبح منصب الأتابك خاليًا فقرر قايتباي أن يعين فيه أزبك من ططخ، وأرسل يستدعيه إلى القاهرة.

بتولي أزبك الأتابكية -وكان في نحو بداية الخمسينات من العمر- اكتمل في مصر مثلث قوي للحكم كان بمثابة الصحوة الأخيرة للدولة المملوكية.

بتولي أزبك الأتابكية -وكان في نحو بداية الخمسينات من العمر- اكتمل في مصر مثلث قوي للحكم كان بمثابة الصحوة الأخيرة للدولة المملوكية. فبينما عين قايتباي أزبك أتابكًا جعل الأمير القوي يشبك من مهدي (يشبك الدوادار مؤسس قبة يشبك المعروف محيطها حاليًا بحدائق القبة) دوادارًا أولًا للدولة. والحقيقة أن الثلاثي: قايتباي، وأزبك، ويشبك، لم يحاصروا أنفسهم بالمسميات الوظيفية فكانوا في واقع الأمر بمثابة فريق عمل واحد اتسم عملهم معًا بالتناسق، وأكمل بعضهم بعضًا.

فيشبك كان معروفًا بالقسوة المفرطة والغلظة في تعامله مع التمردات والتهديدات الداخلية والخارجية، إلى حد اتصاف بعض تصرفاته بالدموية الشديدة مع المتمردين (رغم ما عُرِفَ عنه من لين ورفق بالعامة خاصة في أوقات النكبات والأوبئة). وأزبك كان يجمع بين الحزم العسكري الشديد والحكمة في استدعاء اللين والشدة في مواجهة المشكلات. بينما كان قايتباي وسطًا بينهما يرجح رأي هذا تارة ورأي ذاك تارة أخرى.

وبينما كان يشبك هو المشار له في الإداريات المرتبطة بالخدمات السلطانية، كان أزبك هو صاحب التصرف في الأمور التي تتطلب الجمع بين المهارتين العسكرية والدبلوماسية. وبينما كان يشبك هو اليد التي تمتد للبطش الغليظ منعدم الرحمة بحق المتمردين داخليًا وخارجيًا، كان أزبك هو الداهية الذي يضرب بقوة الجيش من ناحية، ويفاوض بالعقل والذكاء من ناحية أخرى.

وبينما كان يشبك هو المشار له في الإداريات، كان أزبك هو صاحب التصرف في الأمور التي تتطلب الجمع بين المهارتين العسكرية والدبلوماسية.

كذلك كانت ثقة السلطان في أزبك ورفيقه شديدة إلى حد أنه-مع إدراكه قوتهما وارتفاع طموحهما-كان أحيانًا يغادر عاصمة حكمه بل ومصر كلها في جولات مفاجئة لمختلف أنحاء السلطنة لمراقبة أحوالها ويكتفي بإرسال أمر لهما بإدارة شئون البلاد لحين عودته، وكان معروفًا بالنشاط الشديد وكثرة الحركة طيلة عهده.. هذه الثقة زادت من مكانة أزبك الذي حرص على الحفاظ عليها والإخلاص لقايتباي خاصة بعد مقتل يشبك في حملة عسكرية على بلاد التركمان جنوب الأناضول سنة 1479م. فبعد تلك الحملة أصبح أزبك هو الرجل الثاني المنفرد في السلطنة، والوحيد تقريبًا الذي يضع به السلطان ثقته العمياء أو يقبل شفاعته في هذا أو ذاك مهما بلغ غضبه عليهم.

وبمقتل يشبك-اليد الباطشة-أصبح الأتابك أزبك هو المنفرد بأمور الجيش، فصار هو القائد الدائم الثقة لحملات قايتباي سواء داخليًا في مواجهة تمردات العربان في البحيرة والشرقية والوجه القبلي، أو في مواجهة تحرشات العثمانيين بالحدود الشمالية للسلطنة، حتى بلغت حملات قايتباي نحو ستة عشر حملة عسكرية حاز معظمها النصر خاصة مع تحرر صناعة القرار الخارجي من اندفاع يشبك ومسارعته للحل العنيف، وتمكن أزبك من فرض بصمته العقلانية على الحرب والمفاوضات.. تلك البصمة التي ظهرت في تبريد جبهة الإمارات التركمانية المتمردة من ناحية، وإخماد الصدام مع السلطان العثماني بايزيد الثاني من ناحية أخرى.


تأسيس الأزبكية

لا تُذكَر الأزبكية بغير ذكر أزبك، ولا يذكر هو بغير ذكر قصة تأسيسها الذي بدأ سنة 1475م. فتلك البقعة كانت-على حد قول المؤرخ ابن إياس في كتابه “بدائع الزهور في وقائع الدهور”-أرض ساحة خراب.. بها كيمان-وهو مكان إلقاء الفضلات غالبًا البشرية-وبعض الشجيرات وخرائب بنيان قديم وبِركة كان الماء يصل إليها من النيل في موسم الفيضان.. وكانت تقع في طريق الناس.. وبالطبع فإنها كانت تمثل بؤرة للأعمال المنافية للآداب والقانون فضلًا عن جوها غير الصحي.. ولم يكن بها من بناء سوى ضريحان “سيدي عنتر” و”سيدي الوزير”

كان أزبك يسكن قرب هذه البقعة، وأراد أن يجعلها مناخًا لجماله (مرعى للجمال) فجرّف الكيمان ومهد الأرض، ثم فكر في أن يعمّر هذه المنطقة.. وشق قناة من الخليج الناصري الواقع على النيل(شقه الناصر محمد بن قلاوون) ليجري الماء إلى بركة الأزبكية ويطهرها وأقام على هذه البركة رصيفًا-ميناء صغير-حوله متنزه جميل.. وأعاد تعمير القنطرة الواقعة على الخليج الناصري لتسهيل المرور عبرها.. وكان يباشر العمل بنفسه في الجو الحار.. ولا يبخل عن النفقة على تعمير هذا المكان حتى بلغت كلفة عمارته نحو مئتي ألف دينار (وهو مبلغ مخيف بمقاييس هذا العصر) كذلك أقام جامعًا كبيرًا وأقام حوله حمامات وأفران وطواحين ومختلف المنشئات الخدمية، وشجّع الناس على تعمير وسكنى ذلك الحي الذي حمل اسم “الأزبكية”.. ونقل أزبك داره إلى هناك وكذلك مقر الأتابكية ، وأصبح حي الأزبكية أحد أرقى أحياء القاهرة لنحو أربعة قرون تالية.

والواقع أن تأسيس الأزبكية لم يكن مجرد حالة استثنائية.. فمن سياسات الدولة المملوكية كان ما يُسَمّى “اتصال العمران”، حيث كانوا يحرصون على اتصال العمران بين المدن والأحياء والبلدان التي تفصل بينها مناطق مهجورة، خاصة لما في ذلك من تأمين لحركة المتنقلين هنا وهناك.


المحنة الأخيرة

رغم أن الزمان قد صفا للأمير أزبك نحو ثلاثين عامًا إلا قليلًا، إلا أنه نُغصَّت عليه حياته بعدها بحادث مفاجئ.

فالسلطان قايتباي كان عند توليه الحكم قد خالف سُنّة سابقيه من السلاطين في تصفية التكتلات التابعة لسلاطين سابقين. وكانت أقوى طائفتين هما: الخشقدمية، والإينالية. فأراد قايتباي استبدال «تأليف القلوب» محل البطش، مع من يمكن استمالتهم من جانب، ونفي الآخرين بإرسالهم لمهام في أطراف السلطنة من جانب آخر.

وإن كان السلطان قد استطاع أن يأمن شر الخشقدمية، إلا أن الإينالية وأعوانهم لم يكفوا عن التآمر عليه.

كذلك كانت مشكلة كبيرة تواجهه هي «المماليك الجلبان». فهؤلاء لم يُجلَبوا صغارًا ليتربوا ويتأدبوا بما يناسب عسكر السلطان، بل كانوا يجلبون كبارًا فلا يتلقوا ما يكفي من آداب مما جعلهم قوة غاشمة بلا عقل أو أدب. يشغِّبون على الناس وعلى الأمراء بل وعلى السلطان نفسه، حتى إن هذا الأخير قد اضطر ذات مرة لأن يطلق النفير العام بين جنده وأمرائه لارتداء عدة القتال ومحاربة الجلبان الذين خشوا على أنفسهم فعادوا يعتذرون وقدموا الولاء والطاعة.

ثم بعد أن بدا لكل هؤلاء -الإينالية والجلبان وغيرهم- أنه لا مجال للمساس بالسلطان وهيبته وسطوته طالما كان «جناحاه» هما الأميران يشبك، وأزبك – فقد قرروا قص الجناحين. فدبروا المؤامرات ليشبك وضيقوا عليه حتى اضطروه للخروج من مصر في الحملة على بلاد التركمان لانتزاع جنوب الأناضول والعراق من أيديهم، وتأسيس «دولة وظيفية» تابعة لمصر هناك يكون هو حاكمها. وهي الحملة التي قُتِلَ فيها.

أما أزبك فإنه كان مختلفًا عن زميله الراحل من حيث أنه كان هادئ الأعصاب رقيبًا على الأحداث، فلم يتمكن خصومه من الإيقاع به أو حتى المساس به إلا بعد نحو 15 عامًا من موت يشبك، بل ولأمر عارض ربما لم يكن للإينالية علاقة مباشرة به، وإن بدا دور الجلبان فيه مثيرًا للريبة.

ففي هذا الوقت كان السلطان قد دهمه توعك قوي حتى انتشرت شائعات احتضاره، وفي نفس الوقت كانت العداوة قائمة بين الأميرين آقبردي الدوادار (تولى المنصب بعد مقتل يشبك) وقانصوة خمسمئة أمير آخور (المسئول عن الخيول السلطانية وخيول الجيش) – وكان كلاهما مقرب للسلطان. فجمع قانصوة بعض أعوانه وحشد كل منهم قواته وتوجهوا بشكل مفاجئ لبيت أزبك حيث اجتمع الأمراء هناك ولم يعرف أحد ما الذي يدور بينهم، فقال البعض أنهم اجتمعوا لمطالبة قايتباي بخلع آقبردي من الدوادارية، بينما قال البعض الآخر أنهم احتشدوا لخلع السلطان نفسه. وفي كل الأحوال فقد كان أزبك في موقف محرج حيث أن قانصوة خمسمئة -عدو الدوادار- كان صهره، بينما آقبردي: دوادار سلطانه، وقريبه بل وعديله (كان متزوجًا بأخت زوجة قايتباي).

ثم فجأة بغير مقدمات خرجت شائعة تقول أن الأمراء قد جمعوا عساكرهم في شكل تمرد على السلطان نفسه وخلعه من منصبه، وقام أحد الأمراء بتوصيل الخبر لقايتباي على هذا الشكل. فسارع هذا الأخير -وكان قد برأ من مرضه- بنصب «السنجق السلطاني» (علم صغير يعتبر رفعه بمثابة إعلان تعبئة من السلطان لجنده) ونادى في الأمراء أن من كان سامعًا مطيعًا للسلطان فليأت ويقف تحت السنجق.. فقام الأمراء بالتوجه للسنجق وقدموا الولاء، ثم تبعهم الأمراء الذين كانوا مجتمعين في بيت أزبك. وبقي أزبك حائرًا في بيته حتى أتاه رسول من السلطان يقول: «قم كلم السلطان في خير» فتوضأ وصلى وطلع إلى القلعة. وهناك حاول المماليك الجلبان الاعتداء عليه (وكانوا بشكل عام مثيرين للمشاكل وحاقدين على الأمراء) فزجرهم السلطان وأسرع بحماية صديقه وأتابكه وجعله معه في قاعته إمعانًا في الحماية لمدة ثمانية أيام، ثم خرج وصلى الجمعة مع قايتباي. وعندما أراد أزبك العودة لبيته حذره البعض أن أعداءه ينتظرونه لقتله، فخاف عليه السلطان وأصر على بقائه في حمايته، ثم تشاورا وقال أزبك لصاحبه: «أنا ما بقى لي إقامة في مصر.. يقتلونني المماليك الجلبان». وبالفعل خلع نفسه من مناصبه وتوجه إلى منفاه في مكة معتزلًا الحياة العامة وقد اقترب من الثمانين من عمره.

بعد غياب أزبك عن الصورة عاش قايتباي عامًا أو اثنين في حالة من الارتياب الدائم فيمن حوله، والافتقاد للمخلصين له، والتأفف العلني من أعباء الحكم، حتى وافته المنية بمرض سريع سنة 1496م.


العودة: واللعبة الأخيرة

لم يكن لقايتباي سوى وريث واحد هو ابنه محمد الذي كان مراهقًا في الرابعة عشر من عمره. وكان مختلفًا تمامًا عن أبيه حيث كان شديد الرعونة فضلًا عن أنه كان مصابًا بـ «السادية» إلى حد خروجه كل ليلة لاصطياد البعض واصطحابهم للقلعة لتعذيبهم بنفسه حتى الصباح. جدير بالذكر أن أباه لم يكن راضيًا عن أخلاقه وهذا ما جعله يرفض توليته العهد، لكن قانصوة خمسمائة تدخل بعد موت قايتباي ونصب هذا الطفل ليحكم من ورائه.

في بداية عهد هذا الابن تجدد صراع آقبردي مع قانصوة خمسمائة وانتهى بانتصار هذا الأخير الذي سارع لاستدعاء أزبك من مكة وإعادته لمنصب الأتابكية.

تزايدت حماقات محمد بن قايتباي، وبلغت ساديته وإمعانه في القتل مستوى أنه تحول لكابوس حقيقي لسكان القلعة وسكان القاهرة، فقرر الأمراء التخلص منه. وبالفعل، اغتيل سنة 1498م في منطقة الطالبية بالجيزة خلال عودته من رحلة صيد.

جدير بالذكر أن أزبك كان قد دُعِيَ أكثر من مرة لتولي السلطنة بعد وفاة قايتباي، لكنه كان كلما عُرِضَ عليه الأمر يرفض بشدة، ويحلف بالطلاق من زوجته ألا يتولاها، بل ويهدد بالعودة إلى مكة لو أُلِحَ عليه في هذه المسألة مرة أخرى. وهكذا اختير الأمير قانصوة من قانصوة (وهو غير قانصوة خمسمائة وقانصوة الغوري) خال السلطان المقتول ليكون سلطانًا، وبقي أزبك في الأتابكية ولكن لأيام قليلة.


النهاية

لم تطل أيام أزبك بعد ذلك، ففي العام 1499م وافته المنية فجأة عن عمر ناهز خمسا وثمانون عامًا تميز فيها بالصحة السليمة والبنية القوية والنشاط الشديد وحضور الذهن. ويبدو أن وفاته المفاجئة قد أثارت الريبة حيث أشاع البعض أن أحد أبنائه قد سحر له ليموت، بل وقُبِضَ على رجل وصبي قيل أنهما توليا السحر له.

واختلف أبناؤه أحمد ويحيى في تركته أمام السلطان، فوضع هذا الأخير يده على كل التركة التي بلغت أكثر من سبعمائة ألف دينار من الذهب سوى المنقولات والخيل والعبيد.

وقد قال ابن إياس في أمره أنه كان «رئيسًا حشمًا كفئًا للمهمات مسعود الحركات في كافة أفعاله، ولم تجيء بعده في الأتابكية مثله». فضلًا عن تنويهه بدوره في كسر جيوش العثمانيين المعتدية على شمال المملكة، وإن ذكر بعض مساوئه مثل أنه «شديد الخلق، صعب المراس، جريء اللسان، وكانت عنده حدة زائدة». أما ما يناقض سيرة أزبك من رأي المؤرخ فيه فهو أنه «عنده شح في نفسه»، فأزبك كان معروفًا بالإنفاق بسخاء على الإنشاءات وكذلك على الفرقة التي يعدها من الجيش في الحملات الخارجية.

أزبك من ططخ كان بحق -كما قال بعض المؤرخون- «رجل فاتته السلطنة»، أي خسرته إذ لم يتولها. والقارئ في التاريخ المملوكي يدرك أن بموت هذا الرجل وغيابه عن الساحة فقدت الدولة المملوكية آخر إنسان من جيل العظماء فيها، إذ لم يتول منصبًا بها بعد ذلك إلا ضعيف أو أفَّاق أو فاسد أو حتى خائن. أي أننا نستطيع أن نقول أن وجود أزبك كان من العوامل التي أخرت سقوط وانهيار دولة المماليك. ومن الغريب أن هذا الرجل لم ينل من الذكر في كتب التاريخ إلا القليل، وقلَّ أن يعرف أحد من هو هذا الشخص الذي يحمل أحد أعرق أحياء العاصمة اسمه.

المراجع
  1. محمد بن إياس الحنفي: بدائع الزهور في وقائع الدهور
  2. أحمد عادل كمال: أطلس تاريخ القاهرة
  3. د. هاني حمزة: مصر المملوكية
  4. د.قاسم عبده قاسم: عصر سلاطين المماليك
  5. د. محمد سهيل طقوش: دولة المماليك في مصر وبلاد الشام
  6. خيري شلبي: بطن البقرة