لقد زرت «السبيليات» وسألت لماذا بقي هذا الشريط أخضر؟ ولفت نظري حالة طلاء غير عادية للجدران، جارتنا أم قاسم التي كنت أعرفها شخصيا رحلت مع أسرتها وحميرها قسرًا إبان الحرب العراقية الإيرانية، الأب توفي في الطريق، بعد عامين لم تستطع أن تقاوم وعادت إلى السبيليات على حمار يسمى «قدم خير».

المكان:

النجف، قرية السبيليات.

الزمان:

ثمانينيات القرن الماضي، سبتمبر/أيلول 1980- أغسطس/آب 1988.

الحدث:

«حرصًا على سلامة مواطنينا القاطنين في القرى والبلدات القريبة من ساحات المعارك رسمنا بما هو آت..»

ذروة الصراع في الحرب العراقية الإيرانية، وإخلاء القرى المجاورة لمناطق الحرب من السكان.

الشخصيات:

أم قاسم، بو قاسم، الأبناء الخمسة، والحمير التسعة، ملازم عبد الكريم، الجندي جاسم، والبيوت الخالية ومقام سيد رجب والأشجار.


أم القاسم:

لمّا تجد حالك فاقدًا شخصًا تسكن إليه، ولا من سبيل للتعويض، ألمك يتكاثف في غفلة منك، يصبح كتلة ثقيلة متوارية في قعر جنجرتك.

«أم القاسم» امرأة ثكلى، نزعت من مسكنها الأول، وفقدت زوجها في أثناء الترحيل إلى مسكنها الجديد، تبلغ من العمر خمسة وخمسين عامًا، تمر الأيام عليها تباعًا، الثلاثة الأشهر الأولى، والوعد الكاذب بالعودة. ثلاثة أشهر غيرها، عام، عامان، ولا حياة لمن تنادي، من حولها تباطأ الزمن حتى توقف، يطاردها شعور دائم بالحنين إلى المكان.

اقرأ أيضا:القائمة القصيرة لبوكر 2017: الانحياز للمسكوت عنه

صرحت لأولادها: «لا أستطيع البقاء هنا؟ ماذا تعنين؟ أحس باختناق غريب»، تعرف أولادها جيدًا، ليس من بينهم من يأخذ معاناتها على محمل الجد، اتخذت قرارها بالعودة إلى البيت بمفردها، ونفذته في سرية تامة. من هنا بدأت سيرتها المنسية.


سيرة ما لم يرد ذكره من سيرة أم قاسم

لا قيمة للأشياء بغياب أصحابها.

من يعرف قرية السبيليات يعرف أم قاسم، يسرد أهالى القرية جوانب من حكايتها، رواية من هنا، وعلامة من هناك، وفي كل التفاصيل تترك علامتها، كانت تردد دائمًا: «ما جدوى البيوت إذا أقفرت من أهلها».

في بيتها على سرير الزوجية بين الحلم واليقظة كانت ترى «أبو قاسم» تقول:

بو قاسم لم ينسني، كان يزورني في الحلم ليلا، في كل زيارة أوجه له السؤال ذاته لماذا أنت حزين، يجيبني لأني مدفون في أرض غريبة، ما المطلوب مني، ليتك تبادرين لاستعادة رفاتي تأخذيني لبيتنا، شدد علي، وصيتي لك أن أدفن تحت النخلة الحلاوية في حوشنا، شردت عيناها في البعيد. زارني في حلم البارحة، بعدما تنتهين من دفني مطلوب منك أن تقومي بتلاوة القرآن الكريم على قبري ساعتين في اليوم لمدّة أربعين يومًا. كلماتها الأخيرة بالرسالة المضمنة، رفع الضابط يده بإشارة دالة على طلب الصمت، سألها: أين هي رفات زوجك الآن؟ ملفوفة بكفنها في البيت. اتخذ قراره. نساعدك بإتمام مراسم دفنه اليوم، على أن نتدبر أمر نقلك بعدها مباشرة إلى ما وراء حدود الأراضي المحرّمة.

المكان.. الذاكرة

«لا أحد يرغب في أن يعيش في منطقة خطرة»، ورغم ذلك يأتي المكان ليسرد الحكاية أثناء الحرب، يروي مقاومة قرية السبيليات في خضم الصراع الدائر بين البلدين، وحكاية امرأة عجوز وحمارها، وفأس الجيران، وما تبقى من رفات رجل ميت.

اقرأ أيضا من قائمة البوكر:«زرايب العبيد»: الحب ينتصر على القهر والعبودية

تمثل «أم قاسم» الأرض والوطن من وجهة نظر الإنسان البسيط الذي يعاني من ويلات الحرب ولا يفهم أسباب اندلاعها، امرأة لديها تلك الأسئلة المطلقة عن الحرب، ولماذا يُحرم الإنسان من أرضه؟ لماذا ينتزع منها ويموت بعيدًا عنها، إنها تمثل الإنسان الحقيقي المرتبط بالأرض والمكان والذاكرة. وتشبه الطفل الصغير الذي يعاود الرجوع إلى حضن أمه ليطمئن، إذ تعاود أم القاسم إلى قريتها كي يرتاح بالها وتحقق أحلام زوجها.


المرأة والسرد

لقد تميز النص بطبيعته النسبية، والتي تعبر عن بيئته الحاضرة في ملامح السرد بقوة، وبوصف التفاصيل اليومية في حياة أهل القرية، إذ يطرح النص قصة حقيقية لامرأة من وجهة نظر أنثى عانت وتمردت وحاولت تلمس طريق خلاصها.

اقرأ أيضا من قائمة البوكر:موت صغير: عن حياة إمام المتصوفة «ابن عربي»

كما اعتمد السرد في بنائه على كم بنية تصادمية تأخذ طبيعة خشنة، وناعمة حينًا آخر، وذلك ناتج عن أن الأنثى الساردة تحمل السلم عرضًا فتصطدم بكل ما حولها، إذ تخوض معارك كثيرة مع نفسها ومع المجتمع، وتعارض عاداته وتقاليده وقوانينه التي تقيدها وتحاصرها وتمنع عنها انطلاقها الحر، لذلك تسبح عكس التيار، وهو ما ظهر بقوة في شخصية أم قاسم.


السرد العنكبوتي

بصفتها مسقط رأسك يلزمك أن تكتشف السر..

وهو سرد يعتمد على نسج خيوطه الناعمة الخادعة حول الذكر، يمتص منه كل احتياجاته الحياتية، ثم ينتهي الآخر بالخلاص منه، أو بمعنى أوضح الخلاص من سلطته التي حاصرت الأنثى زمنًا طويلاً، أو آن الأوان لأن تمتلك هي هذه السلطة؛ لذلك أصبح الخلاص من الذكر ظاهرة لافته في السرد المرتبط بالأنثى.

يقوم النص على موت «بو قاسم»، ويمهد النص هذا الجزء بتهميشه داخليا وخارجيا، وفي بعض النص يلحق الذكر العجز بجسده وعقله، فإن لم ينفع ما سبق في الخلاص منه سعت إلى تمويته، لتنفرد هي بأفعالها وسلطتها، وتعوض ما فات من خلال رحلة التهميش التي عانت منها طويلا.

ويظهر التهميش في مرض بو قاسم، وفي موته المفاجئ، وتوقفها عن ممارسة التقاليد والعادات الدينية وتخليها عن أيام عدتها، وخروجها وحيدة من بيتها الجديد مع حمارها الذي كان يقوده زوجها، وممارستها لعادات ليست متعارفا عليها بين النساء، مثل بحثها عن قبر زوجها كي تستخلص الجثة، حفرها لقبره، وحملها القرميط والفأس والخروج للمشي تحت المطر وهدم جزء من السور الترابي الذي يحجب الماء عن النباتات، وجلوسها بجوار مقام سيد رجب وبنائها العريشة كي تحتمي من القذائف المدفعية، ومعرفتها بكافة مهام الرجال وقدرتها وهي المرأة كبيرة السن على ممارستها.