في أحد الأفلام التي شاهدتها قديمًا رددت البطلة على مسامع إحدى صديقاتها بـ«أن ليس الجميع بقادر على تحمل عبء الرومانسية»، لكن حين أفكر الآن في هذا المعنى فإنني أتساءل: هل يوجد فعلًا من هو غير قادر على تحمل هذا العبء في عالم لا يتغنّى بشيء كما يتغنى بالرومانسية؟! أم أن البطلة أخطأت بالأساس في صياغة الحجة، وأن الإشكال لا يكمن في عجز البعض عن تحمل تكلفة الرومانسية، وأنه على العكس، يكمن في أن الرأسمالية أقنعتنا أننا جميعًا قادرون على تحمل هذا العبء.

يؤشر هذا إلى مأساة أعمق تتعلق بمساءلة الرومانسية في عصرنا الحالي. للإجابة عن سؤال: هل فعلًا يُشجِّعنا العالم على أن ننجح في الحب؟ أم أنه في الحقيقة لا يمنحنا سوى وهم علاقات، ووهم حب نعيشه للحظات ثم لا يلبث أن يغادرنا ويتركنا ثقالًا، نعيش مغمة أننا غير مخلوقين للحب أو أن الحب نفسه لم يُخلق لنا؟

النجاح في الحب الذي ما عاد خلاصًا فرديًا

في العالم الرأسمالي تضخّمت البنى الاجتماعية والاقتصادية والسياسية حتى صارت أكبر من الإنسان، في حين يتصاغر وجوده هو يومًا بعد يوم، وهنا يقف الإنسان أمام ذاته في حالة من الشتات الكامل، فنحن نسأل أنفسنا باستمرار عن أزمات ربما هي أكبر منّا، بمعنى أنها لم تعد في هذا العصر مشاكل خلاص فردي، والقول بأن النجاح في الحب بات إحدى هذه المشكلات لن يكون غريبًا، فنحن كذوات فردية نتصوّر أحيانًا أن الفشل في الحب يجب أن يعود في نهاية الأمر إلى أسباب شخصية تتعلق بأحد أطراف العلاقة، أنا أو الآخر، ومنْ يُوسِّع دائرة النظر ربما قد يُضيف الأهل والمجتمع المحيط كأحد مسببات الفشل الذريع في الرومانسية.

لكن ماذا لو أن الأمر لا يتعلق في هذا العصر بهذه الأبعاد، أو لا يتعلق بها وحدها؟ وأنه ثمة سبب أعم وأشمل يتعلق ببنية العالم الحديث التي نعيش فيها. وماذا لو أننا نبحث عن تجربة حب لم تعد من بنات هذا العالم، وتقع خارجه، ولم يعد أصلًا يتحملها أو يتقبلها؟

فنحن نتصوّر أننا بإصلاح بعض الظروف، وعمل بعض الترقيعات، قد ننجو من خيبة الحب الكبيرة التي نعيشها، لكن ما يقوله هذا المقال يتمحور حول هذه الجملة:

رومانسية الجميع… رومانسية اللا أحد.

إذ أننا ربما نعيش– حاليًا- في أكبر عصر سهّل وأتاح لأفراده التواصل على جميع المستويات، لكن جودة التواصل هي التي نقف أمامها موقف المُشكِّكك المُرتاب. نعم… يحثّنا العصر الحالي على مزيد من التواصل، ولا تنفك وسائل التواصل الاجتماعي ترفع شعارات تدعونا لنتواصل أكثر، وتُشارِكها في هذا كل الشركات التي تستفيد ماديًا من جعل الناس أقرب- ماديًا بالتأكيد- مثل شركات التكنولوجيا والنقل والشحن وغيرها.

يمكن الآن على سبيل المثال أن تُرسِل هدية عيد ميلاد من جانب من الكوكب إلى الجانب الآخر في أيام قليلة، ومع كل تقدم في وسائل التوصيل ستقل المدة، لكن هل جعل كل ذلك الناس أقرب معنويًا؟

هذا السؤال ربما تُجيِب عنه الأرقام، إذ يكفي القول، إن هناك شخصًا ينتحر كل 40 ثانية بحسب بيانات منظمة الصحة العالمية، ناهيك عن الأمراض التي باتت تُسيِطر على غالبية سكان العالم مثل القلق والاكتئاب. نعم لا يُنكر أن إنسان هذا العالم هو الأكثر تطورًا وحداثةً وإشباعًا لرغباته المادية، لكنه حتمًا الإنسان الأكثر تعاسة الذي عرفته الأرض.

رومانسية الجميع

تدعونا الرأسمالية التي تسيطر على عالمنا اليوم بكل جهدها إلى ممارسة الرومانسية، لكن السؤال هو إلى أي نوع من الرومانسية تدعونا؟ إنها رومانسية تُتاح للجميع، حتى لو لم يريدوها، بمعنى أن الرومانسية كونها تحولت إلى سلعة رأسمالية، فقد حُشِدت لها الأموال لترويجها، مع صناعة محتوى يحث عليها باستمرار، نراه في السينما، والأدب، والحملات الدعائية، ومستحضرات التجميل، وفي الثقافة التي تُضخِّم من أهمية الجسد، ومن دور الحب في تغييرنا، وفي شعارات العالم الذي لا يمكن أن ينجو من دون حب، تلك الشعارات التي حوّلتها الرأسمالية إلى مواد دعائية لرومانسيتها التي تُتيحها للجميع، حتى تُحقِّق الربح الأكبر من ورائها، وهو ما حدث بالفعل.

فالآن ثمة اقتصاد للرومانسية قائم بذاته، وصناعة كاملة للحب، ومحتوى متنوع ثقافيًا وطبيًا واستعراضيًا وترفيهيًا لا يروم غير أن يقع أكبر عدد ممكن من الأفراد في الحب، لكنه «حب رأسمالي»، بمعايير الرأسمالية التي تريده حبًا مؤقتًا، سطحيًا، قابلًا للتجاوز السريع، والأهم أنه حب لا يوقف طاقات العمل والإنتاج.

هنا يُحذرنا «سلافوي جيجك» من أن «هناك ثمة مشكلة وهي لا تتعلق بإشباعنا لرغباتنا أم لا. بل في الكيفية التي نعرف بها ما نرغب فيه». لكن حتى لو نجونا من فخ الرومانسية الرأسمالية، فكيف لنا أن نصل إلى الرومانسية التي نرغبها فعلًا؟

الحب من الديمومة إلى التغير

تضرب الرأسمالية الحب في مقتل حين تُخرِجه عن بشريته، لتخلق بذلك رومانسيتها الخاصة التي عمادها التغيير المستمر، مُستخدمة في ذلك السينما والأدب، وكما ترى السوسيولوجية الألمانية «باربرا كوشلر»، فإن العدد الكبير نسبيًا من خيبات الأمل الحادة والانفصال الذي نمر به في عالم اليوم، يرتبط بشكل منهجي بإدراكنا المشترك لما يجب أن يكون عليه الحب. فصور الحب في الأفلام والكتب تتركنا محبطين وغير راضين عن علاقاتنا التي نعيشها.

عندما نقارِن الذروة الرومانسية التي نراها على الشاشة أو نقرأ عنها في الكتب، قد تبدو رومانسيتنا عادية، لننتهي برؤية شريكنا مجرد إنسان عادي لا ينتمي لأبطال القصص الخرافية. في حين يقفز كثير منّا إلى استنتاج مفاده أنه يجب إلقاء اللوم على شركائنا في التناقض الحاصل بين ما يجب أن يكون وما هو حقًا كائن، معتقدين أن شريكًا جديدًا يمكن له أن يُغيِّر كل شيء، ويمكن أن يكون «الشخص». ودون أن يدرك ذلك لا يعلم أن ذات النمط سوف يكرر نفسه مرارًا وتكرارًا .

وتؤشِر هذه الملاحظة لكوشلر على أن الرأسمالية لا ترغب في القضاء على الحب، بل على العكس، هي حريصة على بقائه، لكن بنسخة مُعدّلة تتوافق مع متطلبات الرأسمالية ولا تخرج عنها.

إن الخيط الناظم لعالمنا الآن هو التغير، مصداقًا لمقولة الفيلسوف اليوناني «هرقليطس»، عن أن الثابت الوحيد في هذا العالم هو التغير المستمر، وهذا التغير هو ما يحكمنا اليوم. فالثبات أو الجري في المكان، هو عدو آخر للرأسمالية، وكل دعوة إلى شيء ثابت ودائم هو في الحقيقة يضرب الرأسمالية في أهم ثوابتها، والآن كل أنماط الإنتاج والتصنيع وعلوم التسويق الرأسمالي تستهدف أن يتشرّب الناس التغيير كمنهج حياة، وبهذا يصير التغيير قيمة أخلاقية في ذاته، فالجديد والحديث هو أفضل بالتأكيد، كما تقول الدعاية الرأسمالية. المُفارقة تقع هنا حين يُطلب من هذا الفرد الذي تعرّض لكل هذه الدعاية، ويُغيِّر سيارته وهاتفه سنويًا، أن يلتزم في علاقة حب تدوم للأبد؟

تقول الرأسمالية إننا جميعًا قادرون على الوقوع في الحب، وإننا لا يفصلنا عن الحب سوى قرار شخصي هو القرار بـ«أن نحب»، لكنها دعوة ربما ترتد إلى ما نُكرره هنا باعتباره دعوة لرومانسية في العلن هي للجميع بينما في المضمون هي للا أحد.

أي هل تتحمل الرأسمالية أن نحب حقًا؟ أو أن نقع كأفراد في تجارب حب، سأقول عنها «صادقة» بمعنى دائمة، إذ إن الديمومة في الحب هي لا شك من دلائل تحققه؟

لكن الرأسمالية على العكس ربما تقبل بأي شيء لكنها حتمًا لا تقبل بالديمومة، لأن الديمومة تعني توقف التغيير، وتوقف التغيير يعني توقف الاستهلاك أو تقليله، ومن المعلوم أن الاستهلاك هو عصب الرأسمالية، ومن دونه ينهار معبدها المُشيَّد منذ قرون.

يصيغ عالم الاجتماع البولندي «زيجمونت باومان» هذا المعنى بحرفية شديدة بقوله:

عندما يخذلك الكيف، فإنك تطلب النجاة في الكم. وعندما يكون الدوام غير معقول ولا مقبول، فإن سرعة التغيير هي التي يمكن أن تُنجِيك.

مفارقة الإنسان الحديث الأشد قسوة

ما الذي جعل «رومانسية الجميع» هذه تستحيل إلى «رومانسية اللا أحد»؟

كُتبت إجابة هذا السؤال ككلمات في هذا المقالK لكنها على الحقيقة لا تُقارب غير كفجيعة بشرية نختبرها جميعًا كأفراد عالم حديث، يشعر كل فرد فيه بأن الحب أقرب إليه من حبل الوريد، لكنه في الآن نفسه يشعر بأن الحب الذي يريده بعيد عنه كنجمة بعيدة المنال، وهي مفارقة الإنسان الحديث الأشد قسوة.

إذ أنه بعيدًا عن الجدل الدائر بين العلم والفلسفة حول حقيقة الحب، وهل هو مُتطلب أنطولوجي أم بيولوجي، فإن الحقيقة التي يتفق عليها الطرفان في النهاية، هي وجود الرغبة لدى الجميع في الوقوع في الحب، وعيش تلك التجربة التي يستشعرون أنها تُقرِّبهم أكثر إلى التحقق، وأن يكونوا أنفسهم.

يصطدم قطار الرغبة الإنساني هذا في علاقة حب ناجحة، بجدار الواقع الرأسمالي، الذي لا يُتيح هذا النوع من الرومانسية، بل يدعو إلى رومانسية أخرى، ربما لا يجمعها مع المُتخيل الإنساني عن الحب غير الاسم فقط، وهنا تتحقق المفارقة [الفجيعة] في رومانسية للجميع، لكنها للا أحد.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.