يقول القائد العسكري الشهير كارل فون كلاوزفيتز في كتابه التكتيكي (عن الحرب  On war) إنك إذا خُضتَ حربًا مع العدو يجب أن تجعله يمرُّ بالعديد من المصاعب، هذه المصاعب يجب ألَّا تكون عابرة بالطبع. يجب أن تُحيط عدوك بظروف يائسة تجعله أعزل تمامًا، وعندها يُمكنك أن تفعل ما تُريده به، يُمكنك ألا تتخلَّص منه نهائيًّا، لكنك ستضعه في خطرٍ مُحتمل بصفة نهائية.

حسنًا، أحسبُ أنه من الصعب أن يكون كلاوزفيتز وضع أي أبعادٍ كروية في ذهنه خلال سبكه هذه العبارات التكتيكية الذهبية، وإن ابتلعنا وجود أي إسقاطات كروية لسطور القائد الروسي الفذ، فإنه من المستحيل أن هذه الإسقاطات وُضعت لتوصيف الصراع الأزلي بين قطبي مصر؛ الأهلي والزمالك.

فالرجل المتوفى عام 1780م لم يكن ليتخيَّل أن كلماته ستُخلد لدرجة أنها ستكون أكثر من لائقة للتعبير عن العلاقة بين ناديين أُنشئا بعد رحيله بـ127 عامًا في حالة الأهلي، و131 عامًا في حالة الزمالك.

وعندما أقصد العلاقة بين الأهلي والزمالك، لا أنزلق هنا إلى هوَّة التضاري الرياضي على ساحات العشب أو الخشب المرن، وإنما يعنيني بالأساس تأطير شكل العلاقة بين جمهوري الناديين، وهي العلاقة التي اكتسح فيها الحُمر خصومهم بنجاحٍ باهر، وتمكَّنوا من تدشين آلة جبَّارة لم تكتفِ فقط بإنعاش أرواح أنصارها، وإنما أثخنت هوَى أعدائها بالجراح حتى تمكَّنت منهم وشكَّلت أولوياتهم كما تُريد.

اقتل عدوك قبل القتال

إذا ارتاح عدوك فاجعله يكدح، إذا شبع فاجعله جائعًا، إن استقرَّ فاجعله يتحرك، إن ارتفعت معنوياته فأحبطها، إذا ارتاح فأتعبه، وإذا حاول الاتحاد ففرِّق بين فصائله، ضخِّم نقاط ضعفه واجعلها أوضح ما تكون للعيان.
الجنرال الصيني صن تزو

يقول كريس ستانكوفيتش، دكتور علم النفس الرياضي، إن أحد أبرز العوامل التي تُعينك على قهر خصمك، هو أن تدخل في رأسه ما يُعينك على الانتصار نفسيًّا قبل خوض النزالات في الملاعب.

يعتبر كريس أن كثيرًا من اللقاءات لا تُحسم فقط بسبب الفوارق البدنية والفنية للاعبين، وإنما تلعب العوامل النفسية، وعلى رأسها الثقة، دورًا حاسمًا في ضمان النصر.

فالرياضيون الذين ينزلون إلى الملعب وهم يتحلَّون بالثقة يستطيعون الاستفادة من قُدراتهم إلى أقصى حدٍّ ممكن، وهو نفس ما ينطبق على الرياضيين الموهوبين منزوعي الثقة، الذين تتخبَّط أقدامهم فور نزولهم أرض الملعب وإن حملوا موهبة مارادونا.

لهذه الأسباب كان محمد علي يتراقص أمام خصمه في الحلبة كلما وجَّه له ضربة فاشلة، لا يكتفي بتجاهلها ببساطة أو صدها بذراعه، وإنما يغرس في عقله الواعي مع كل محاولة أنه لن ينجح أبدًا، وعندما يصل الخصمَ يقينٌ بأنه لا يُواجه خصمًا عاديًّا وإنما بطلاً خارقًا مُستدعًى من قصص الكوميكس، هنا سيضع نفسه على أول طريق الهزيمة، وستكون أهون لكمة كفيلة بإسقاطه.

فكما يقول مدرب اللياقة البدنية فيل فريس في كتابه (القتال العقلي): «إن أبسط طريقة لإحداث تغيير عقلي إيجابي على المدى الطويل يُمكن تلخيصها في عبارة  (زيِّفها حتى تصنعها Fake it until you make it)، لا تبحث عن مدى المصداقية المُطلقة فيما ترفعه من شعارات، لا تهتم بأي ثغرات قد تطيح بمنطقيتها، ارفعها دائمًا ولا تكل عن ترديدها في كل المحافل، هذا الإصرار سيُجبر الدماغ البشري على الاستماع لهذا التغيير، والتعامل معه كأمرٍ مُسلَّم به، وكلما زاد عدد الأدمغة التي تبنَّت هذه الشعارات، ظهرت آثار سيطرتك أكثر على منظومتك الرياضية».

وهو ما سارت على خطاه الترسانة الإعلامية الأهلاوية حتى ولو لم تكن تدري، فبعيدًا عن حسابات الفوز والمكسب أو عدد الألقاب والميداليات، داوَمت المنظومة الحمراء على حقن المجتمع بشعارات إنشائية، كـالأهلي فوق الجميع، والأهلي بمَن حضر، واللي خايف يروَّح.

رُفعت في المدرجات ولم يكفَّ المعلِّقون والمحللون عن ترديدها في الاستوديوهات، في الوقت نفسه الذي صيغت فيه شخصية الزملكاوي كإنسان مهزوم دائمًا وأبدًا، لا يكفُّ عن احتساء أدوية الضغط والسكر، فاعتبر أن قمَّة نجاحه أن يخرج من هذه المعارك بأقل الخسائر؛ المركز الثاني أو هدف جميل في مقص المرمى أو حديث سفسطائي عن مؤامرات كونية لا تكفُّ عن التنزل لسحق الفريق.

هذه الصورة ثنائية الأبعاد لم تترسَّخ فقط عند الأهلاوية، وإنما عند المنتمين للزمالك أيضًا وهذا قمَّة النجاح، فلا تستغرب عندها من صدور تصريح غريب من اللواء علاء مقلد العضو الحالي لمجلس إدارة الزمالك، ناشد فيه إدارة الأهلي الانسحاب من بطولة كأس مصر حتى يتمكن الزمالك من حصدها!

تراكمات بناء الثقة تلك دائمًا ما تحضر في اللقاءات الكبرى، وتعين لاعبي الأهلي على التماسك حتى إن كانوا أسوأ من لاعبي الزمالك، فحال تلقيهم هدفًا، أو حتى إن خسروا المباراة بأسرها، لا ينفرط العِقد ولا تُقام المذابح بحقِّ نجوم الأهلي، وهو بالضبط ما يحدث عكسه مع الزمالك، الذي ما إن يترنَّح فوق جواده حتى تتداعَى إليه سكاكين الذبح.

الأهلي والزمالك

لماذا لم يصد القط جيري توم أبدًا؟

لنفس السبب الذي يجعل موت محمود المليجي في الأفلام مستحيلاً، مهما ضربه فريد شوقي، إلا في آخر العمل، لأن مقتله يعني ضربة في الصميم لبطولة فريد شوقي التي تتمثَّل أبرز معالمها في التنكيل به ليلًا ونهارًا، فلو ضاع المليجي ضاع فريد شوقي، وضاع الفيلم بأسره.

لذا فإن الأهلاوية حينما يعتبرون أن الزمالك حجر أساسي في الكرة المصرية فهم لا يُبالغون أبدًا في هذا الصدد، فلا يُوجد أمتع من تحقيق بطولة انتُزِعت من أيدي الزمالك. منافسٌ أزلي يجب أن يُسمح له ببعض القوة حتى تكون المنازلة أكثر مُتعة، لهذا كان نهائي أفريقيا 2020م هو الأغلى عند الحُمر منذ سنواتٍ طوال رغم ازدحام خزائنهم بتسع كؤوس، لكن الأخيرة هي أثمنها؛ لأنها ترافقت ومُطالعة القهر في عيون منافسيهم الألداء.

هُم محمود المليجي خاصتهم، الذي يجب أن يُحشر في الزاوية وتكال له الضربات، وإلا شاخت قبضتهم من نُدرة الاستعمال، وبالطبع لو تجاوز التنكيل الحد اللازم وكاد المليجي أن يموت، يجب أن يُلحق بعدة إسعافات أولية وإلا فسد كل شيء.

هذه الإسعافات ستُعين «البطل المحشور» على النهوض مُجددًا، حتى يكون لائقًا كفاية لتلقي المزيد من الضربات.

وهو ما سيقودنا للحديث عن متلازمة رياضية من طراز نادر، لا أدري إن وُجِد مثلها في العالم من قبل أم لا.

وهي.. متلازمة «عمرو أديب».

متلازمة «عمرو أديب»

يُشكِّل الإعلامي الزملكاوي عمرو أديب حالة فريدة في عالم الرياضة المصرية، فما إن تحلَّ بالزمالك هزيمة ما كبيرة أو صغيرة، لا يبحث الأهلاوية عن تعليق من إعلامي أهلاوي كأحمد شوبير أو حتى يركضون نحو قناة ناديهم الرسمية، وإنما يدير الجميع وجوههم شطر عمرو أديب أينما كان؛ سواء على قناة مشفرة أو أخرى متاحة للجميع.

يمتلك عمرو أديب كل ما يؤهله ليكون إعلاميًّا ناجحًا؛ حضورًا قويًّا على الشاشة، قدرةً على انتقاء الألفاظ القوية،أداءً تمثيليًّا مُبهرًا يجعل جميع المتفرجين يدخلون الأجواء فورًا، وهو ما يجعله اختيارًا مثاليًّا فور وقوع الزمالك على ركبتيه، لأنه يُعطيهم الفرصة كاملة لرؤية نِتاج انتصارهم في حالات الانكسار التي يتفنَّن الزملكاوي العتيق في إظهارها، وهو ما ينسجم تمامًا مع الدور الذي أُريد للزمالك ولأهله أن يلعبوه في منظومة الكرة المصرية التي يتمناها الأهلي ومن معه.

فملامح الرجل المُتحسرة، وكلماته اللاذعة التي تضع الزمالك دائمًا في المركز الثاني، ملحوقة بدستة من الأكليشيهات التي داوَمت المنظومة المجتمعية الأهلاوية على حقنها لنظرائهم الزملكاوية، كـالأهلي بطل الـ90 دقيقة والزمالك وُلِد للمركز الثاني، تجعل عمرو أديب اختيارًا مثاليًّا للتعبير عن الانتصار في أكمل معانيه، لأنه يخرج به عن حدود الانتصار في مباراة هنا أو هناك، ولكنه يجعله يُعبِّر عن طبيعة الحال الذي أُريد به توصيف العلاقة بين الناديين أمس واليوم وغدًا، فالأهلي على القمة دومًا مهما كان سيئًا، والزمالك ابن بار بالمركز الثاني وبهزائم اللحظات الأخيرة مهما كان جيدًا.

لذا لا عجب في أن يكون عمرو أديب المقصد الأول ليس للجمهور الأهلاوي وحده، وإنما للاعبي العملاق الأحمر أنفسهم، فما إن تحلَّ الهزيمة بالزمالك حتى يتكالبوا على برنامجه لجلده بمكالمات ساخرة من ارتفاع ضغطه وسكره، فمن غيره في مصر يتحمَّل كل ضربات السوط بابتسامة ويقول: «كمان»!

وهو يُؤدِّي لنسبة مشاهدات قياسية لمقاطعه التي يُمزِّق فيها الزمالك بأسنانه كلما سقط، تفوق ما يُحرزه أي مُحلل رياضي آخر للمباراة، معادلة يخرج منها الجُل فائزون؛ الأهلي باللقب والأهلاوية بإحساس أزلي بالنصر، وعمرو أديب بمشاهدات قياسية سُرعان ما ستترجم إلى أموال.

ذات مرةٍ أكد لاعب الشطرنج بوريس سباسكي، عقب لقاء عاصف مع الأسطورة بوبي فيشر قهره فيه الأخير بسهولة غير متوقعة، أن الهالة التي ينجح فيشر في إضفائها على نفسه خلال اللقاء تجعل نتيجة خوض نزالٍ معه لا ترتبط بما إذا كنت ستفوز أم ستخسر، بل فقط إذا كنت ستنجو من براثنه.

وهو تحديدًا ما يُصيب لاعبي الزمالك خلال لقاءات الأهلي، والتي تجعلهم لا يبحثون عن الفوز أو تجنب الخسارة، وإنما تكون كل أمانيهم «النجاة»، فالسقوط أمام الأهلي يجلب كل السكاكين إلى رقابهم مهما اجتهدوا، وأبرزها سكين عمرو أديب.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.