خيَّم التوتر على أجواء العاصمة الأموية دمشق في ذلك اليوم العصيب من أيام عام 64هـ، واحتلَّ عدم اليقين كل شبرٍ في زواياها وفي أعماق سكانها، لا سيَّما مؤيدي الحكم الأموي، والذين أصابتهم الخطبة العصماء التي ألقاها عليهم الخليفة الشاب الجديد معاوية بن يزيد بن معاوية بصدمة بالغة. كانت تلك الخطبة التي أعلن معاوية في نهايتها استقالته من منصب الخلافة، وإعادته الأمرَ شورى بين المسلمين يختارون من يرونه خليفةً، ضربةً في صميم شرعية الحكم الأموي، فقد عرَّض معاوية في الخطبة بجده معاوية بن أبي سفيان لمنازعته الإمام عليّ بن أبي طالب على الخلافة، وبما شهدته خلافة أبيه يزيد من وقائع مروعة، وأكد أنه لا يرى نفسَه أهلًا لهذا المنصب الذي وصله بوصيةٍ وراثية من أبيه.

وفي تعليقٍ مشهور ينمُّ عن مدى الأثر الآنيّ الكبير الذي أحدثته استقالة هذا الشاب من منصب الخلافة، وعن شعور الأسرة الأموية بخطرٍ جارف مع هذا الفراغ المفاجئ في السلطة، يُنسَب إلى مروان بن الحكم، أحد أبرز زعماء الأمويين وأكثرهم إثارةً للجدل منذ عهد الخليفة عثمان بن عفان، والذي سينتزع الخلافة بالسيف بعد أقل من عام، قولُه:

إِنِّي أَرَى فِتْنَةً تَغْلِي مَرَاجِلُهَا ….. وَالْمُلْكُ بَعْدَ أَبِي لَيْلَى لِمَنْ غَلَبَا!

كان وراء ذلك الحدث الجلل، كما تنقل مصادر تاريخية عديدة، رجل اكتنف سيرتَه الكثيرُ من الغموض والتجاهل، هو عمرو المقصوص، والذي كان من معلمي معاوية بن يزيد، وكان يدين بمذهب القدرية الأوائل، وهم الذين بالغوا في التأكيد على نفي وجود أي جبرٍ من الله للناس على أفعالهم، وأن البشر مسؤولون عن أفعالهم مسؤولية مُطلقة، حتى أنَّ تطرفهم في تلك المسألة وصل إلى حد نفي علم الله السابق بأفعال البشر، إمعانًا في نفي الجبرية عن الله، سبحانه وتعالى، وكان عمرو المقصوص أول من تجرَّأ بنشر هذا الفكر في الشام معقل الدولة الأموية، وسيكون ثمن هذا باهظًا بشدة عليه.

ولا يمكن لقارئٍ للتاريخ أن يفصل نشأة هذا المذهب القدري المتطرف عن سياسات السلطة الأموية القائمة، والتي كانت تنشر بشكلٍ مباشر أو غير مباشر أفكار الجبرية، لتبث في أذهان الناس أن حُكمها قضاء نافذ وسابق من الله سبحانه وتعالى، وقدرٌ واجب، لا ينبغي مقاومته بالثورة والانتفاض.

ولا أدل على تلك العلاقة من الجدل الشديد الذي دار في الحجاز عام 64هـ، بعد حصار جيش يزيد بن معاوية الأموي لمكة لإخضاع تمرد ابن الزبير -رضي الله عنهما- فيها، عندما أصابت المجانيق الأموية الكعبة واشتعلت فيها النيران، فادعى بعض الناس أن ما حدث للكعبة قدرٌ من الله- في نفيٍ خبيث غير مباشر للمسؤولية عن المعتدين- فانبرى لهم معبد الجُهني، الذي يعتبره العديد من علماء الفِرق والمذاهب الإسلامية مؤسس مذهب القدرية الأوائل، ونفى ذلك، وأكد أن من فعل هذا مسؤول عنه تمامًا.

بعد سنواتٍ سيقتل الحجاج الثقفي والي العراق للأمويين معبدًا الجهني الذي شارك في العديد من الثورات ضد الأمويين، تحت شعار الدفاع عن العقيدة الإسلامية ضد القدرية المارقين.

معاوية: اعتدلْ أو اعتزلْ!

.. ولا أحبُّ أن ألقى الله بتبِعاتِكم، فشأنُكم وأمرُكم، ولّوهُ من شِئتم، فو الله لئنْ كانت الخلافة مغنمًا، لقد أصبْنا منها حظًا، وإن كانت شرًا، فحسب آل أبي سفيان ما أصابوا منها ..
جزء من خطبة الاستقالة لمعاوية بن يزيد

تختلف المصادر التاريخية كثيرًا في تفسير استقالة الخليفة الشاب معاوية بن يزيد، كما أنها تتبايَن في الأجزاء التي تقتبسُها من خطبته القوية التي أعلن فيها قرار الاستقالة الصادم، فكانت المصادر السنية التاريخية غالبًا ما تتجنب سرد أجزاء الخطبة التي تُوحي بأي خلفياتٍ قدرية أو شيعية وراء ما فعله معاوية، لكنها في المجمل تشيدُ بهذا الشاب الورِعْ الذي نشأ في أسرةٍ مالكة اشتهرت بالبذخ وبالتشبث بالسلطة مهما كان الثمن من الدم والصراع وشراء الذمم والولاءات بالمال، لكنه لم يترددْ في ترك تلك الخلافة ومغانمها عندما رأى نفسه ليسَ لها أهلًا، من الناحية الشرعية، ومن جهة إقامة العدل.

يصفُه الحافظ الذهبي في موسوعة «سير أعلام النبلاء» بأنه كان زاهدًا متديِّنًا، ويجزم أنَّه كان أفضل كثيرًا من أبيه يزيد بن معاوية، واعتبره عالم الحديث المعروف ابن حِبَّان أفضل رجال الأسرة الأموية، ونقل بإعجابٍ عنه في كتاب «السيرة النبوية وأخبار الخلفاء» رفضه الحاد وهو على فراش الموت، تدلّ على عميق زُهده وورعه، عندما رفض تمامًا أن يورث الخلافة من بعده:

.. ما أصبتُ من دُنياكُم شيئًا فأتقلَّدُ مأثمَها.

وينسب له ابن عبد ربه الأندلسي في كتابه الشهير «العقد الفريد» قوله:

.. لا يذهب بنو أمية بحلاوتها وأتجرّع مرارتها.

ذكرت بعض المصادر التاريخية صراحةً أن معاوية بن يزيد تأثر بعمرو المقصوص بشدة، حتى أصبح هو نفسه قدريًا، وممن صرَّح بذلك المؤرخ ذو الميول الاعتزالية المطهر بن طاهر المقدسي (المتوفى 355هـ) في كتابه (البدء والتاريخ)، وأكَّد المقدسي أن عمرو المقصوص كان هو أستاذ معاوية في نهج القدرية، وأنه الذي شجعه على الاستقالة واعتزال منصب الخلافة طالما وجد نفسه أمام الضغوطات المحيطة به عاجزًا عن إقامة العدل، وأنه قال له جملة بليغة لخَّص فيها نصيحته له:

إما أن تعتدلْ، وإما أن تعتزلْ!

وتزيد المصادر الشيعية على قصة معاوية بن يزيد، أنه أيضًا اكتسب من عمرو المقصوص محبة الإمام علي بن أبي طالب، كرَّم الله وجهه، وأبنائه، واستنكار منازعة أسرته الأموية لهم، فاعتبره الشيعة من طبقاتهم الأولى. وهو ما انسجم مع عريضة الاتهام الأموية لعمرو المقصوص بإفساد -على حد زعمهم- معاوية بن يزيد، واختطافه ذهنيًا بزرع النقمة فيه ضد أسرته.

لم يلبثْ معاوية بن يزيد سوى أسابيع قليلة على قيد الحياة بعد خطبته الخطيرة، حيث اعتزل في بيته إلى أن توفي مريضًَا في ريعان الشباب، وتلك الوفاة المفاجئة دفعت البعض إلى الظنَّ بأنه قد يكون ضحية اغتيالٍ بالسم من قبل أسرته الأموية المصدومة مما فعل، لكن لا يمكن الوصول إلى أدلةٍ قطعية على وقوع هذا.

اقرأ: ماذا لو قابلَ المعتزلة تنويريًأ عربيًا معاصرًا؟

المقصوص وقصاصتُه التاريخية العابرة

عمرو المقصوص كان أحد «نُشطاء» القدريين بلغة عصرنا، وقد نجح سرًا في جعل معاوية الصغير ينسلخ من عباءة بني أمية ويحنُّ لعهد الخلفاء الراشدين.
الكاتب بلال فضل في كتابه «فتح بطن التاريخ»

رغم خطورة واقعة استقالة الخليفة الأموي الشاب معاوية بن يزيد، والتي أدخلت الدولة الأموية في طورٍ من الاحتراب واهتزاز السيطرة لأكثر من 9 سنوات في مواجهة خصمها العتيد آنذاك ابن الزبير، والذي لو أحسن انتقاء تحركاته على رقعة الشطرنج الخطرة، لقضى على دولة الأمويين مطلقًا.

ورغم الدور الجوهري المنسوب لعمرو المقصوص في تلك الواقعة الخطيرة، فإن المصادر التاريخية التي أشارت لهذا الرجل، تكتفي بالسطر وبالسطريْن عنه، أو بالكاد فقرة كبيرة إن توسَّعت، وهذا يثير أمام أذهاننا مجدَّدًا قضية سرد التاريخ المُنحاز غالبًا للمنتصرين ولأصحاب السلطة، على حساب الثوار والمعارضين. ولا شكَّ أن العصبية المذهبية كان لها دورٌ في الهوى الأموي النسبي عند جلّ المؤرخين السنة قديمًا وحديثًا، والتكلم بتحفظٍ واختصارٍ شديديْن عن جُلِّ خصوم الأمويين لاعتبارهم مبتدعين ضالين، لا سيَّما القدرية.

اقرأ: عمران بن حطان .. تابعي ثقة انضم للخوارج

في القليل المُتاح لنا عن عمرو المقصوص، كان الرجل من الطبقة الأولى في منتحلي مذهب القدرية، فكان مثلهم مهجوسًا بقضية العدل في الحكم، ومواجهة الظلم، ونزع محاولة السلطة لاعتبار مظالمها قدرًا ربانيًا نافذًا لا دافع له، فأكد عمرو وأترابه حرية الإنسان الكاملة في فعل الخير أو الشر، وبالتالي مسؤوليته التامة عن عواقب تلك الأفعال في الدنيا وفي الآخرة، وبالتالي تُنزَع أي قداسة أو شرعية عن ظلم السلطة والحكام، وتصبح مواجهته بكل الطرق وصولًا إلى الثورة العنيفة واجبًا إن تعذَّر رفع الظلم وإقامة العدل بغير ذلك.

اقرأ: تعظيم معاوية وشبهة إضفاء القداسة على الظلم

والقارئ المتجرِّد لتاريخ تلك الفترة، يعرف جيدًا أن مسألة القدر في تلك العقود المبكرة من تاريخ الإسلام -كما أشرنا في بداية هذا المقال- كانت بالأساس قضية سياسية قبل أن تكون عقائدية. فمن تطرَّفوا في القرن الأول الهجري في نفي القدر السابق، كان جلُّهُم ثوارًا معارضين للأمويين ولجبريتهم. وبالتالي فالإنصاف الصعب يقتضي أن يتزامن استنكار الشطحات العقائدية للقدرية، وما قد يُفهَم منها من انتقاصٍ من علم الله الكلي المُطلق، سبحانه وتعالى، مع استنكار أشد لمظالم السلطة وشيوخها، وشطحاتها العقائدية كذلك التي تحاول بشكلٍ مباشر وغير مباشر إلصاق مسؤولية مظالمها بالله وأقداره النافذة، والتنصل من مسؤولية الإنسان عنها، وألا يكون نقد شطحات أمثال عمرو المقصوص، تبريرًا للتنكيل الذي وقع عليهم قتلًا وتعذيبًا وتشريدًا من السلطات الظالمة المستبدة.

المصير: قتلٌ وذكر عابر

إن القدرية كانت أول مدرسة فلسفية في الإسلام.. وقد اقترنت بفلسفة سياسة ذلك العصر. وأخذت تهدف إلى ارتياد العقل، وتحرير الفكر .. وبالتالي مقاومة السلطة الحكومية آنذاك. فحمل ذلك الأمويين على التنكيل بأنصارها، والفتك بمروِّجيها، فذهب عدد غير يسير من نوابغ ذلك العصر ضحايا هذا الاضطهاد السياسي.
الكاتب المصري أحمد حسن الزيات .. العدد 972 من مجلة الرسالة

تكاد تجتمع المصادر التاريخية المعدودة التي وردت فيها تلك القصاصة التاريخية، على طريقةٍ مُفجعة لقتلِ عمرو المقصوص، تنمُّ عن مدى حنق الأمويين عليه لدوره المركزي في نظرهم في أزمة معاوية بن يزيد، فقد دفنوه حيًا حتى الموت، وكانت تلك الواقعة على الأرجح عام 80هـ، أي بعد أكثر من 16 عامًا من استقالة ووفاة/اغتيال تلميذه معاوية بن يزيد.

وفي رأيي، فإنَّ الأنكى من مصير عمرو المادي بالإعدام ظُلمًا وببشاعة، الاغتيالُ المعنوي له ولأقرانه بتسجيل كتب التاريخ آلاف الصفحات عن تفاصيل حياة وتواريخ خصومهم من الخلفاء الأمويين وولاتهم المشهورين مثل الحجاج الثقفي، لا تخلو من تمجيدٍ لهم، وتضخيم لأعمالهم، وتهوين من مثالبهم، بينما يرد ذكر ضحاياهم -ومنهم عمرو المقصوص- في ومضاتٍ تاريخية سريعة، بجملٍ مقتضبة، تُنسي ذكرهم أكثر مما تُخلِّده، ويغلب عليها الانتقاد لهم، والتركيز على شطحاتهم الفكرية والعقدية في تبرير خفي وظاهر لإسالة دمائهم، أو محاولة أخذ موقفٍ رمادي بينهم وبين قاتليهم.