محتوى مترجم
المصدر
Philosophy Now
التاريخ
2016/02/01
الكاتب
Ching-Hung Woo

نحن نظن عادة أن المرء بصدد عدة اختيارات يستطيع حقيقةً اختيار واحد منها، وأن النتيجة مُعلقة بحرية الإرادة التي نطبقها أثناء اتخاذ القرار، وليست مُعلقة بالظروف والأسباب السابقة للقرار. ومع ذلك، فإن العالم بكل ما فيه، حتى التفاعلات التي تحدث في الدماغ، تخضع كليًّا لقوانين الفيزياء. وإن كان كل ما يحدث في الدماغ يحدث وفقًا لقوانين الفيزياء الكلاسيكية. فإن حرية الإرادة من منطلق هذا المفهوم غير موجودة حرفيًّا؛ ذلك لأن قوانين الفيزياء الكلاسيكية حتمية. فوضع العالم في أي لحظة هو نتيجة حتمية لوضعه في لحظة سابقة؛ ومن ثمَّ فالبدائل التي قد تبدو متاحة ليختار منها صانع القرار هي في الحقيقة بديل واحد فقط حتمي ومُقدّر سلفًا.

ففي فيزياء الكم، تتطور سعة الاحتمال وفقًا لقوانين حتمية، لكن الانتقال من عدد مِن النتائج المحتملة إلى نتيجة فعلية واحدة يكون بمحض الصدفة. يتبع التوزيع الإحصائي لتلك الاحتمالات قواعد حتمية صارمة، على الرغم من أن النتيجة الوحيدة النهائية لا يمكن التنبؤ بها ولا السيطرة عليها «إراديًا». لذلك، فإن أي قرار هو نتيجة حتمية متوقعة لسعة من الظروف والاحتمالات التي تسبقه (والتي تخضع أحيانًا لميكانيكا الكم) ولا تخلو من حتمية، أو هي كليًا ميكانيكا كم. وفي كلتا الحالتين، فإن الإرادة الحرة التي نعتبرها شيئًا مسلمًا بوجوده غير موجودة. فما هي إذن حرية الاختيار التي نمجدها، والتي تلوكها ألسنة السياسيين في كل مناسبة؟.


الحرية في ظل الجبرية

بالرغم من أننا نختبر إحساس صنع القرار، إلا أن ما يحدث، سواء من تخيل البدائل وإدراك أننا قد اخترنا واحدًا منها، لا يعني غياب العوامل الحتمية المسببة للنتائج.

من أجل التركيز على القضية الأساسية، دعونا نضع فرضيات الفرص جانبًا؛ لأنه، كما رأينا سابقًا، عشوائية الكم لا يمكنها إنقاذ الإرادة الحرة. وفي هذا السياق المُبسط، دعونا نرى ما إذا كان شعورنا الشخصي بحرية الإرادة يمكن توفيقه مع الحتمية المادية.

الشيء الوحيد الذي لا يمكن أن نغفل عنه هو خبرتنا في صنع الخيارات. في الواقع، فإن كل اختيار يتألف من مرحلتين. في المرحلة الأولى نحاول تخيل البدائل المتاحة، في المرحلة الثانية ندرك أننا قد اخترنا بالفعل واحدًا من تلك البدائل. وغالبًا ما يكون البديل الذي تم اختياره هو ذي العواقب الأنسب لنا عن غيره من البدائل المتاحة، إلا أننا لا نقوم بتلك المقارنة بين البدائل بعقلٍ واعٍ. الأكثر من ذلك، فإن الاستعداد الجيني الوراثي بالإضافة إلى التجارب السابقة، كليهما يلعبان دورًا في تحديد تفضيلات الفرد. بالتالي، فإن العوامل الكامنة وراء صنع القرارات هي عوامل معقدة جدًا. وعليه، فبالرغم من أننا نختبر إحساس صنع القرار، إلا أن ما يحدث – انتقالًا من المرحلة الأولى للمرحلة الثانية – لا يعني غياب العوامل الحتمية المسببة للنتائج. وحتى لو كان لدينا انطباع أنه كان يمكننا الاختيار بشكل مختلف، ما قيمة تلك الفكرة بعد أن قمنا بالاختيار بالفعل؟.

الأمر كالآتي، على الرغم من أن صانع القرار لو وُضع أمام نفس مجموعة البدائل المتاحة التي اختار منها للمرة الأولى قد يصنع قرارًا مختلفًا في المرة الثانية، سيكون هذا بسبب أن الوضع ككل، بما في ذلك حالة الدماغ والعقل، قد تغيّر. ولكن مرة أخرى، هذا الاختيار هو الآخر نتيجة لظروف وأسباب سابقة. وبالتالي وجود إرادة حرة كقوة مستقلة قائمة بذاتها وقت اتخاذ القرار غير مقيدة بأسباب سابقة عليها، ليست مفسرًا حقيقيًا للاختيار. وعليه، فإن مفهومنا لحرية صنع القرار سيكون منسجمًا مع «الحتمية/الجبرية» إذا تقبلنا أن الانتقال من المرحلة الأولى للمرحلة الثانية – أي الانتقال من بدائل متعددة لاختيار بديل واحد فقط – مثله مثل أي حدث في العالم تشكله الظروف السابقة له.

إذا تم فهم كيفية اتخاذ القرار في هذا السياق – كحتمية لفيزياء الكم والظروف السابقة له – يمكننا المُضي قدمًا في تناول فكرة «حرية الاختيار» بشكل أوسع. فإذا صوّب شخصٌ ما مسدسًا إلى رأسي وطلب محفظتي، واخترت أن أنفذ طلبه عوضًا عن مقاومته، فإن هذا الاختيار يكون «اختيارًا بالإكراه». وعلى النقيض من ذلك، قد نرى أن الاختيار الحر هو نقيض الاختيار بالإكراه. في النهاية، فإن الحرية في هذا السياق تعتمد على غياب الصراع بين طبيعة صانع القرار، شخصيته، رغباته الداخليّة والعواقب الناجمة عن اختياره. وبما أننا لا ننكر أن طبيعة شخصياتنا هي نتاج نزاعاتنا الوراثية وظروف ماضينا، فإن مفهومنا للحرية يمكن أن يتعايش جنبًا إلى جنب مع الحتمية المادية المقيمة خلف الستار، ومع النظريات العلمية التي تدعمها عشوائية الكم.


التوافقية والمسئولية الأخلاقية

تبنّي غياب الإكراه عوضًا عن غياب الحتمية كجوهر للحرية سيوفر لنا نظرة علمية نخرج بها من هذا الصراع.

ومع ذلك، كيف نكون مسئولين عن عواقب اختياراتنا إذا كانت سلسلة الأحداث التي أدت إليها بدأت منذ زمن طويل دون إرادة منّا؟، الجواب يكمن في كلمة «مسئول». على سبيل المثال، رئيس دولة ما قد يكون مسئولًا عن سوء إدارته لأعمال الإغاثة في أعقاب كارثة ما، على الرغم من أنه على أرض الواقع لم يشارك في تلك الإدارة الفوضوية للأزمة. قياسًا على ذلك، على الرغم من أن جوانب كثيرة من حياتنا تجرّنا للدخول في دوائر متعددة، فنتجادل ونفكر أثناء اتخاذ قرار ما صعب، هناك منطقة مستقرة نسبيًّا نُعرّفها بأنها «أنفسنا»، وهذا الاعتراف يعني أنني مسئول حرفيًا عن كل قرار يصدر عنّي، حتى أثناء أو بعد صراع كل تلك العوامل. وهذا ما يعرف بـ «النفعية المناسبة»، حيث أن تتبع جميع العوامل التي أدت لصناعة القرار أمر مستحيل عمليًّا.

وكما هو واضح، فإن طبيعة النفس البشرية معقدة جدًا. بعضنا يتمتع بسعة أفق حيال المسئولية الشخصية، آخرون لديهم ضيق أفق، لكن حتى الإدراك الذاتي للمسئولية الشخصية يتغير طوال الوقت. أو على سبيل المثال، إذا ارتكب مدمن مخدرات جريمة ما قد يقول أن «الإدمان هو ما دفعني لارتكابها». يُقدم هنا المدمن عادته وكأنها ليست جزءًا منه. ومع ذلك، حين النظر في إذا ما كان مسئولًا فعلًا أم لا، على القاضي أن يقرر ما إذا كانت عادته تشكلت بوعيٍ منه أم دون وعي منه (قد يكون الإدمان أحيانًا بسبب دواء وصفه له طبيب). بعبارة أخرى، على القاضي أن يقرر ليس فقط ما إذا كان المدمن قد ارتكب تلك الجريمة بدون إكراه، لكن أيضًا هل كانت الأفعال الماضية التي دفعت المدمن لارتكاب الجريمة الحالية هي أيضًا أفعال حرة بكامل إرادته.

وعلى النقيض من هذا المدمن، يكتشف بعض الناس مجالًا ما للحرية، حيث يقومون بأفعال متوافقة تمامًا مع طبيعتهم الشخصية، حتى في ظل الظروف التي يكونون فيها تحت إكراه شديد. عندما سُجن هنري ديفد ثورو لرفضه دفع الجزية، كان يشعر أنه حرٌ لأن عقله كان يستطيع السفر لأي مكان، قد لاحظ أيضًا أن ما يؤسس له عقله «هو شيء خطير حقًا». لقد ادعى جان بول سارتر أن الفرنسيين لم يكونوا أكثر حرية مما كانوا عليه في ظل الاحتلال النازي. كيف ذلك؟ لقد خلق الاحتلال مجالات للتمرد والتحدي، وإذا ما كان المرء سيتمرد أم لا كان حقًا قرارًا خطيرًا؛ ومن ثمّ، فقد كان الفرنسيون أكثر حرية لأنهم كانوا أمام قائمة ثرية من الاختيارات الهامة. إلا أنه مهما اتسعت المجالات التي يكون فيه الاختيار بالإكراه، لن تكون أبدًا واسعة بما يكفي لنصف الفعل فيها على أنه فعل حر. في رواية وليم ستايرون «اختيار صوفي»، كانت صوفي مضطرة للتضحية بواحدٍ من طفليها إلى غرفة الغاز. قد يرى العقلانيون أن صوفي لم يكن أمامها بدائل في ظل الاختيارات التي طرحها الأطباء النازيون، مما يُعْفي صوفي من مسئولية وفاة الطفل الذي تمت التضحية به.

وعليه، فإن تبني غياب الإكراه عوضًا عن غياب الحتمية كجوهر للحرية سيوفر لنا نظرة علمية نخرج بها من هذا الصراع. ومع ذلك، لا يزال هذا المفهوم مسيطرًا على فكرتنا عن الحرية كحالة يكون فيها المرء مخلصًا لذاته، وأيضًا كمعيار للحكم عما إذا كان الأشخاص حقًا مسئولين عن أفعالهم.