كانت ماكوندو قد استحالت، عندئذ، إلى زوبعة رهيبة كالإعصار من الغبار والدمار، يذروها غضب توراتي عاصف. فقلب أوريليانو إحدى عشرة صفحة، قافزا عنها، كي لا يضيع الوقت فى وقائع وحقائق يعرفها تمام المعرفة، وبدأ يحل رموز اللحظة التي كان فيها، يحل رموز اللحظة التى كان يعيشها وهو يعيشها، فيتنبأ عنه في فعله ذاته، وهو يحل رموز آخر صحيفة من الصحائف والرقاع المخطوطة، فكان كأنما هو ينظر في مرآة ناطقة. ثم قفز قفزة أخرى، وتخلى عن بعض الرموز والكلام، كأنما يستعجل النبؤات، كي يتأكد من تاريخ موته، والعلامات التي تسبقه، والعلامات التي ترافقه. لكنه، قبل أن يبلغ البيت أو السطر الأخير، كان قد أيقن أنه لن يغادر الغرفة التي كان فيها أبدا. فقد كان مرئيا أكثر مما كان متنبأ به، إن مدينة المرايا أو مدينة السراب سوف تجتثها الريح العاتية من الأرض وتمحو آثارها، حتى تنفيها عن ذاكرة الإنسان في تمام اللحظة التي ينتهي فيها «أوريليانو باييلونيا» من فك طلاسم الرموز في صحائف الرقاع، كما أدرك أوريليانو أن ما كان مدونا في تلك الرقاع لا يقبل التكرار، فهو أزلي محتوم منذ بداية الوجود وهو سرمدي سوف يظل إلى الأبد. [1]

هكذا انتهت قصة الـ«بوينديا» فى رواية (مائة عام من العزلة) بنهاية حياة آخر أفراد سلالتها، كما رواها جبرائيل جارثيا ماركيز، بهذا السرد الأدبي المتقن والبديع، والمحير كذلك.

بعيدا فقط عن مجرد الجماليات الأدبية الواضحة لهذا النص الروائي وأجوائه المفعمة بالعجائبية والسحر، فإن تلك النهاية الغريبة للرواية تدفعنا بحد ذاتها بوجه خاص للكثير من التأمل الذي يفضي إلى إثارة العديد من الأفكار التي يستدعيها أو يحيل إليها النص.

تستدعي على سبيل المثال تلك الرؤية للزمن الكائنة في عالم ماركيز العجائبى، والتي نجدها في المقطع الأخير من الاقتباس السالف، التصورات الدينية للمسيحية والإسلام، التي تنظر إلى مجريات الزمن والتاريخ بالنظرة ذاتها، بوصفها كذلك هي الأخرى أزلية مقدرة منذ البداية، وبوصفها أيضا سرمدية ستظل إلى الأبد.

وذلك من خلال ترداد أصداء أعمال الإنسان أبديا بلا نهاية، حيث لا يصير كل شيء بعد الموت في الأخير إلى هوة من العدم المطلق، أو إلى صيرورة لتناسخ الأرواح تسمح بقابلية ما لتكرار تجارب البشر، بل دينونة وحساب وثواب وعقاب أبدي على أحداث لا يمكن العودة والرجوع لمحوها أو تغييرها.

كما تذكرنا تلك النهاية الغامضة الرواية أيضا من جهة أخرى بمقولات الفيلسوف الألماني«فرديريك نيتشه» في فلسفته حول العود الأبدي، وهي إن كانت تتناقض تماما وللمفارقة عن الأفكار التي يعبر عنها سرد ماركيز في هذا النص، إلا أن ذلك التقابل التام هو نفسه ما يستدعي تلك الأطروحة، من حيث كونها النقيض الموضوعي الفلسفي والأدبي لذلك السرد العجائبي.

فوفقا لتلك الفلسفة فإن أحداث التاريخ لا تمتد باطراد إلى غير نهاية، بل تتوقف عند حدّ معين، يشرع الزمان بعدها بالبدء من جديد، ومن خلال رجوعه المستمر هذا، يعود إلى نقطة البداية في كل مرة، ثم يقوم بتكرار الأحداث التي اكتنفها سابقا.

في ضوء ذلك التقابل الذي أشرنا إليه آنفا، نلاحظ هنا أنه وبينما يقترب ما يرويه ماركيز هنا مع السردية الدينية للزمن والتاريخ بكليته كما نرى، يثير عود نيتشه الأبدي في المقابل وعلى النقيض آراء ليست مألوفة إلا في الأساطير الهندية المقدسة القديمة حول الأبدية والخلود وعودة الزمن وإمكانية التقاء زمن الماضي مع زمن المستقبل في نقطة حاسمة هي الحاضر الآني، ويتحقق هذا عندما نتصور الزمن كسيرورة دائرية، وليس كخط يسير بشكل مستقيم إلى الأمام. و هو ما عبر عنه نيتشه حرفيا بقوله:

إن كل اتجاه على خط مستقيم إنما هو اتجاه مكذوب، فالحقيقة منحرفة لأن الزمان نفسه خط مستدير أوله وآخره.[2]

ولذلك تمثل فلسفة العود الأبدي بالنهاية طرف النقيض في النظر الماورائي إلى الزمن والتاريخ بإزاء الرؤى التقليدية للأديان الإبراهيمية والتي عبر عنها ماركيز في المقطع المقتبس من الرواية، حيث تتصل رؤية نيتشه تلك في المقابل بشكل وثيق، مع التصورات الفيدية عن تناسخ الأرواح، وانبثاق العالم بشكل محايث من قلب ذاته، وصيرورته الدائمة على هذا النحو من الاستنساخ المتكرر لنفسه.

ولكن بعيدا وحسب عن ذلك الاقتباس من نص ماركيز الروائي، وذلك الاستطراد في معرض التعليق عليه، الذي بدأنا فيه هنا كمادة لإثارة الذهن لبدء مناقشة موضوعنا في هذا المقال، سنشرع خلال السطور المقبلة في البحث بشكل أعمق حول الزمن والتاريخ، وهو المجال الذي تتراصف خلاله الأفكار هنا بشكل أساسي.

وسنبدأ في هذا الإطار بالعودة مرة أخرى أيضا إلى فلسفة العود الأبدي، التي تحتاج ربما إلى مزيد من إلقاء الضوء عليها.


الأوروبوروس

الأوروبوروس
تناول نيتشه فلسفة العود الأبدي في عمله الأدبي والفلسفي الشهير «هكذا تكلم زرادشت»، أكثر من مرة خلال مواضع عدة يذكر في أحدها:
ما غريب عنا تعليمك يا زارا، فأنت تقول بأن جميع الأشياء تعود أبدا ونحن معها عائدون، وبأننا وجدنا من قبل مرارا لاعداد لها ومعنا جميع الأشياء أيضا [3] .
يقول نيتشه كذلك في سياق آخر:
انظر إلى هذا الباب فإن له واجهتين، وهنا ملتقى مسلكين لم يبلغ إنسان أقصاهما، أحدهما منحدر يمتد إلى أبدية، والآخر مرتفع يمتد إلى أبدية أخرى، المسلكان يتعارضان متقاطعين عند هذا الباب، وقد كتب اسمه على رتاج واحد (الحين) [4].

ربما تبدو فلسفة العود الأبدي غريبة بنهاية المطاف، حيث تصطدم مع وعينا المعاصر بسيرورة التاريخ، إلا أن الأغرب من ذلك هو أن نعرف أن تلك الفلسفة كانت تشكل الإطار العام والتقليدي للمفاهيم السائدة عن وجهة الزمن ومجرى التاريخ قبل انتشار الأديان الإبراهيمية في الدينية للعالم القديم.

وتكاد فلسفة العود الأبدي تحاكى أنموذج أفعى الأوروبوروس الأغريقى ذي الجذور المصرية القديمة، وهو الشعار والرمز الذي يصور أفعى تلتف بشكل دائرى وتأكل طرف ذيلها بفمها، بما يعبر ضمنيا عن طبيعة الكون الدورانية المستمرة بشكل عام، والحياة المستمرة فيها التي لا تتوقف.

جدير بالذكر أن تلك الفكرة التي يعبر عنها أنموذج الأوروبوروس تتكرر وبذات المضامين التي تنطوي عليها في أسطورة مصرية ويونانية قديمة شهيرة، ألا و هي أسطورة العنقاء أو الفينكس التي تنبعث من رمادها وتولد كل ألف عام من جديد، كما ذكرها المؤرخ اليوناني هيرودوت.

وقد ورد بالمتون الهرمسية القديمة أيضا نص يتحدث عن دورة الزمن، ويشرح أن الزمن كالدائرة، من خلال التأمل في طبيعة قياس الزمن، بدءا من اليوم المرتبط بدورة الشروق والغروب إلى السنة التي تدور فيها الفصول المناخية المختلفة وتتكرر بشكل ثابت [5]، والذي يتحرك بالنهاية في إطار ذي بنية دائرية، ينبثق الحاضر فيه من الماضي وينبثق المستقبل فيه من الحاضر، وهكذا دواليك.

وقد تم التعبير عن فكرة العود الأبدي في الأنطولوجيا اليونانية المبكرة بأشكال مختلفة أيضا، ففى عصر ما قبل سقراط كان أنكسمندر يرى على سبيل المثال أن جميع الأشياء تخرج من صورة أولية للمادة غير محددة كما أو كيفا أطلق عليها اسم الأبيرون، وكان يرى أيضا أن جميع الأشياء بعد أن تنفصل عن الأبيرون، تخضع لفساد أو انحلال، ثم تعود إليه من أجل أن تتشكل من جديد، وبذلك تنشأ أكوان متعددة متعاقبة في وجودها يتلو كل واحد منها الآخر بعد فنائه.

وتتكرر تلك الفكرة بطريقة أخرى أيضا عند هيراقليطس الذي كان يعتقد أن النار بوصفها رمزا أنطولوجيا بحسبه، هي المبدأ الذي تصدر عنه الموجودات كافة، ومن ثم تعود إليه، وقد كان هذا الأخير يعتقد كذلك من جهة أخرى أن النار أيضا هي لوغوس (قانون) العالم، وعلة تغير الأشياء في العالم. وتعدّدها. وإذا تخلصت تلك النار بالنهاية من هذه المعلولات، وبلغت ذروه نقائها الأخير، يتحقق ما يسميه هيراقليطس الدور التام أو السنة الكبرى، لكن الدور لا يتوقف في حال تمامه، ولكن تتكرر هذه العملية دائما وأبدا إلى ما لا نهاية، بموجب القانون الكلي للعالم ( اللوجوس).

وقد ارتبطت فلسفة التاريخ اليونانية هي الأخرى بتلك الأنطولجيا،التي لا يطرد فيها التاريخ القديم على خط ممتد إلى غير نهاية، حيث نجد على سبيل المثال ثوسيديدس المؤرخ اليونانى الشهير وصاحب النظرية المعروفة عن دورة التاريخ، يتحدث عن التاريخ بكونه يعيد نفسه دائما بصورة متعاقبة في شكل دورة، وهو الأمر الذي كان يعتقد به أفلاطون أيضا.

ولعل تلك الفلسفة السائدة في الزمن القديم لا تنفك بالنهاية عن معتقدات تناسخ الأرواح التي كانت منتشرة في ذلك الوقت بالعديد من أرجاء العالم القديم، والمنتشرة إلى اليوم في شبه القارة الهندية وحضارات الشرق الأقصى، والتي تمثل بدورها المفهوم المقابل للحياة الآخرة في الأديان الإبراهيمية.

حيث تعد هذه الفكرة هي الأخرى شكلا آخر مختلفا من أشكال العود الأبدي، ولا يزال هناك العديد من الديانات والمذاهب الدينية المعاصرة التي تؤمن بهذه الفكرة كالهندوسية، السيخية، الجاينية، البوذية، الطاوية، المذهب الإسماعيلى، والقبالاة اليهودية.


السرد الخطي للتاريخ

أوغست كونت
أوغست كونت

بعيدا عن ذلك التصور المغرق في القدم تشكل الوعي الحديث بالتاريخ بدءا من عصر الأنوار بطريقة تختلف كثيرا عن التصورات السائدة في العالم خلال العصور القديمة وحقبة القرون الوسطى، فنجد على سبيل المثال المفكر وعالم الاجتماع الفرنسى «أوجست كونت» الذي أعطى علم الاجتماع الاسم الذي يعرف به الآن، يقسم تاريخ الفكر الإنساني وفقا لأطروحته عن التقدم الإنساني المعروفة بقانون الأحوال الثلاث إلى ثلاث مراحل. ألا و هي (المرحلة اللاهوتية – المرحلة الميتافيزقية – المرحلة الوضعية).

دون أن نخوض في تفاصيل هذه الرؤية نجد كونت يعبر بوضوح من خلال هذا التقسيم عن فلسفة سائدة داخل العقل الحداثي الغربي تنظر للتاريخ الإنساني بوصفة يتخذ نمطا ثابتا على هيئة مسار خطي متصاعد، كنمط السرد الخطي المتسلسل في البنى السردية للأدب الروائي.

وهو قريب مما تقدمه الطروحات الفلسفية لهيجل عن التاريخ كبنية تتطور من خلال الديناميات الجدلية في مسار رأسي يشوب خطيته بعض التعرجات بفعل الديالكتيك، ولكنه يتجه في الأخير بإزاء التقدم في وعي الإنسان بالحرية وبالتحقق التدريجي لروح المطلق في التاريخ.

الرؤية الخطية للتاريخ نجدها قابعة كذلك في خلفية فلسفة المادية الجدلية لكارل ماركس، التي تُحقب التاريخ وفق حتميات تحكم حركته وتحدد آليات الانتقال فيه من مرحلة إلى أخرى، وفقا لما يجري من تغيرات جدلية في البنى التحتية والفوقية يتنقل التاريخ خلالها تباعا من حتمية إلى أخرى وصولا للحتمية الشيوعية النهائية.

تلك فقط بعض الأمثلة البسيطة،التي تعبر عن تلك الفكرة الثاوية والقارة في تلافيف العقل الغربي الحديث، والتى تمثل السمة الحداثية الأبرز في النظر إلى مسار حركة التاريخ عموما، وفي التناول السردي لأحداثه.

ولكن ربما هذا التحول في النظر إلى حركة التاريخ، لم يكن ليحدث لولا المرور بمرحلة من التوسط التاريخي وفرت الأساس لهذا الانتقال المهم، حيث جرى ذلك الانتقال من داخل الفكر اللاهوتي المسيحي، من خلال الرؤية الخطية للعناية الآلهية التي ترسخت في التراث اللاهوتي منذ أوغسطين (354-430م) والتي تطورت لاحقا أيضا على يد جان بوسويه (1627-1704).

ولعل اختلاف هذه الأطروحة عن الثيولوجيا المستمدة مباشرة من النص الديني للعهدين القديم والجديد، يكمن في سعى اللاهوتيين في التاريخ المسيحي في العديد من المحاولات والمقاربات، لعقلنة الدين وفهمه داخل حدود المنطق، وهو ربما ما أنتج في الأخير إقحام فكرة كفكرة التقدم الخطي في الإطار الديني، رغم مفارقتها مع الإطار الثيولوجي الذي تصدر عنه.

ولكن بعد أن تم تفريغ هذه الرؤية المذكورة من دينيتها لاحقا أضحت تلك الأخيرة منذ مطلع عصر الأنوار الشكل الأساسي لنمط السرد التاريخي الحديث.

لا تخلو فلسفة التاريخ الحديثة بدورها من البعد الأنطولوجي كفلسفة التاريخ اليونانية، فهي تتساوق مع ما تحمله فلسفات كفلسفة كانط والمادية الجدلية لماركس وأنجلز في عمقها من نظر للعالم بكونه لا متناهيا لا تحده أية حدود زمانية أو مكانية.

وهو ما يضعنا بالنهاية أمام نتيجة مفادها أن العالم ليس له نهاية متوقعة، وهو الطرح الذي يعد بمثابة الرحم الذي تخلقت خلاله فكرة التطور الخطي، حيث يجعلنا هذا اللاتناهي لزمان مفتوح في أفقه وفي مداه بلا أي حدود تحد من مسار التطور الإنساني، وهو ما يسمح نظريا على الأقل بإمكانية التطور الخطي المفتوح، بل كذلك بالسرد الخطي للتاريخ بأثر رجعي من منطلق المفهوم ذاته.

وهو ما يفتح الباب كذلك لتصورات لا يتوقف عندها التاريخ أنطولوجيا بالنهاية كما في الأديان الإبراهيمية،بل سرديا من خلال ذوبان التناقضات والصراعات التي تدفع حركة التاريخ الراهنة، مما يصل بنا في الأخير إلى مطلق أرضى ما.

حاول من جهة أخرى ميشيل فوكو في كتابه (حفريات المعرفة) أن يقدم من جانب آخر تصورا أبستمولوجيا مختلفا لتاريخ المعرفة، يقترب من بعيد لنمط السرد المتقطع فى الأدب الروائي، حيث لا يتقدم التاريخ بموجب هذا التصور من خلال التسلسل المطرد والمتصل، ولكن يتطور في المقابل من خلال عمليات الانقطاع المتكررة.

بالرغم من كون فكرة القطيعة الأبستمولوجية هي سمة الحداثية الأبرز على مستوى تاريخ المعرفة، منذ كوبرنيكوس إلى ميشال فوكو، كما يذكر هاشم صالح في كتابه «مخاضات الحداثة التنويرية»، فإن ذلك لم ينسحب من جهة أخرى، على نمط السرد التاريخي الحديث، في كل المسارات الأخرى، حيث ظل النمط الخطي كامن في باقي مختلف التصورات التاريخية، الواقعة في أسر الأيديولوجيا الحديثة.

حري بنا أن نذكر أن السرد الخطي الحداثي للتاريخ ينطوي في الحقيقة على عدة أشكالات في داخله، لعل أولها في هذا الإطار، الرغبة والدائمة في إيجاد نهاية ما للتاريخ، من خلال لحظة تحل فيها عقدة الدراما الإنسانية وتنتهي جميع الصراعات بسلام أخير ودائم، كسلام المدينة الفاضلة التي حلم بها الفلاسفة منذ أفلاطون وزينون، مرورا بالفارابى واليوتوبيا العلمية الميكانيكية لفرانسيس بيكون.

وصولا في هذا الإطار إلى تصور فرانسيس فوكوياما عن نهاية التاريخ، وهو ما يستعصي بالنهاية على التحقق، نتيجة لكون السعي البشري الدائم نحو أفق ما كان دائما سببا لإضفاء المعنى على الحياة، بدونه يفقد الإنسان قدرته على الاستمرارية في الحياة، ولذلك إذا انتهى ذلك السعي نحو هذا الأفق المجهول، وانتهى التدافع من أجل الوصول إليه بتحقق فكرة نهاية التاريخ، فإن ذلك سيعني بالضرورة النهاية المعنوية للإنسان.

كما ينطوي السرد الخطي للتاريخ على إشكالية أخرى، ألا وهي إنتاجه المستمر والدائب للحتميات كنمط، حيث تحتوي فكرة المسار الخطي بداخلها فكرة أخري ألا وهي فكرة التطور المطرد والمستمر، حيث يتطور التاريخ خلال هذا النسق عبر حلقات متصلة ومتداخلة من السبب والنتيجة، تنتهي عادةً باليوتوبيا كحتمية نهائية وأخيرة في ختام المتصل الخطى للتاريخ، وغني عن الذكر هنا أن تلك الحتميات النظرية تصطدم في الأخير بصخرة الواقع القاسية التي تفتتها كما جرى للحتميات الماركسية على سبيل المثال.


التعاقب الدوري للتاريخ

أرنولد توينبي، مصدر الصورة : (Wikimedia Commons/CC BY-Sa 3.0)

في مقابل السردية الخطية للتاريخ اهتم العديد من المؤرخين وفلاسفة التاريخ القدامى بتأطير نمط سردي آخر ألا وهو نمط التعاقب الدوري للتاريخ، كالفيلسوف والمؤرخ الإيطالي جامباتيستا ڤيكو (1668ـ 1744)، من خلالها نظريته عن النكوص الحضاري، التي قدمها في كتابه «مبادئ علم جديد في الطبيعة المشتركة للأمم».

كما قدم المؤرخ الإنجليزي الشهير أرنولد توينبي بدوره إسهاما مهما أيضا في هذا الإطار خلال نظريته عن الدورة الحضارية والتحدي والاستجابة التي تتحدث عن التحدي الطبيعي والتحدي البشري وعن الصعود والسقوط الدوري للحضارات ودور الدين في هذا الصدد، وقدم أوزفالد أشنبجلر إسهاما مميزا كذلك في هذا الصدد خلال كتابه الشهير «تدهور الحضارة الغربية».

الفحوى العامة لتلك السردية الأخيرة هي أن للتاريخ دورات كدورة الليل والنهار ودورة الفصول الأربعة للسنة الشمسية، وتمر هذه الدورة بمراحل كمراحل حياة الإنسان «الميلاد، الطفولة، الشباب، الشيخوخة، الفناء».

وهذه السردية وإن كانت مهمشة نسبيا في فلسفة التاريخ الغربية إلا أنها تعد في المقابل الأهم في فلسفة التاريخ الإسلامية، وهي لم تبدأ بابن خلدون في فلسفته عن دورة العمران في حقيقة الأمر، بل هي بالأساس رؤية متجذرة للتاريخ في العقلية العربية والإسلامية منذ البداية.

حيث تجد على سبيل المثال عمر بن الخطاب بعد الخطبة الشهيرة للنبي في حجة الوداع وبعد نزول الآية القرآنية: «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإسْلامَ دِينًا» (المائدة:3) يبكي، وعندما سئل: ما يبكيك؟ رد قائلا: ليس بعد الكمال إلا النقصان. أخرجه البخاري، كما تجد المثل العربي الشهير في هذا الإطار يقول: (ما طار طير وارتفع إلا كما طار وقع).

ولذلك جاءت بالنهاية نظرية ابن خلدون عن دورة العمران كتعبير عن هذا الرؤية المستقرة في العقل العربي والإسلامي لمسار حركة التاريخ، منذ وقت طويل سابق.

وينطوي ذلك النموذج هو الآخر على إشكاليات أخرى في الحقيقة، حيث إن القول بدورة التاريخ يوحي بأن التاريخ يعيد نفسه في حلقات مغلقة ومتكررة، أو أنه عندما يبدأ من نقطة يعود مرة أخرى إلى ذات النقطة، ولا يأخذ ذلك النمط السردي بعين الاعتبار التطورات الخطية على المستوى الحضاري والمادي والتراكم العام للعلوم والخبرة والتجربة الإنسانية، التي أوصلت البشرية إلى ما هي عليه الآن، رغم كل التقلبات الحضارية والاجتماعية التي شهدتها بلدان وثقافات العالم المختلفة في أطوار متعددة من مسيرتها.

هذا مع العلم أيضا أن التطور الخطي المطرد فب المقابل لا يأخذ في الاعتبار الأطوار الاجتماعية المتتابعة للحضارات الإنسانية في ازدهارها وانحطاطها وهو ما خبرته التجربة الإنسانية عمليا، من صعود يليه سقوط لدول وإمبراطوريات كبرى، وتقدم يعقبه تقهقر للأمم وهكذا دواليك.


الحاجة إلى نموذج سردي جديد

بناء على ما تقدم، وبعد عرض كلتا السرديتين السابقتين، يبدو -رغم تعدد الأنماط السردية للتاريخ الإنساني- أننا بحاجة حتى الآن إلى سردية أخرى سردية أكثر تركيبا من مجرد السرديتين السالفتين.

سردية تأخذ في الاعتبار ديناميات التعاقب الدورية لأطوار الاجتماع الإنساني على المستويات المختلفة، وتأخذ كذلك في الاعتبار ديناميات التطور الخطي على المستوي المادي والحضاري، ويمكن بناء على هذه السردية عمليا من تركيب السرديتين آنفتي الذكر، وهو ما يعطينا في الأخير نموذجا من الدوران المتتابع في مسار رأسي طولي متصاعد، أي «نموذجا أهليجيا» بنهاية المطاف.

يوجد عمليا العديد من الأطروحات الحديثة تشرح بالفعل الديناميات الدورية وديناميات التطور الخطي في نفس الوقت، ولكن تبقى الحاجة في النهاية إلى التأطير النسقي والمنهجي لهذه المحاولات في سياق مشروع سردي كلي واضح المعالم، يحمل على الأقل عنوانا وبعض القسمات والملامح المحددة.

ستؤدي بلورة هذا المشروع السردي الجديد بنهاية المطاف إلى تبدل الكثير من جوانب رؤيتنا إلى التاريخ، فضلا على سقوط الكثير من المفاهيم المستقرة وفقا للسرديات آنفة الذكر في الأخير. حيث ستسقط الحتميات النظرية للاطراد في سردية التقدم الخطي، بفعل حضور ديناميات الدوران التي تعمل على حرف مسار التاريخ من التقدم على نحو خطي مطرد ومستمر في التحليل التاريخي.

وهذا ما يجري بالفعل على مستوى آخر في عالم الاقتصاد على سبيل المثال، وفى مجال الأسواق المالية بشكل خاص، حيث نجد الحجم الكلي للأصول وللمتعاملات ينمو بشكل خطي على مدى الأعوام ولكن نلاحظ أن هذا التطور العام لا يتحرك في مسار مستقيم ، ولكن في صورة دورات موسمية متتابعة من النمو والكساد والسيولة والانكماش.

وللعالم الاقتصادي الروسى نيكولاي كوندراتييف (1892 – 1938 ) نظرية في هذا الصدد بالفعل تتناول الدورات طويلة الأمد للديناميكا الاقتصادية العالمية، حيث قدر مدة كل دورة أو موجة منها بما يتراوح بين خمسين وستين عاما، وتعرف الآن تلك الدورات باسم موجات كوندراتييف.

كما سيؤدي تبني هذا النمط السردي الجديد من جهة أخرى، إلى تقوض فكرة نهاية التاريخ وكل نماذج اليوتوبيا بشكل عام، حيث ستعمل ديناميات الدوران على حرف التقدم الخطي بما يجعل كل نهاية لحقبة في مناهج النظر التاريخية، بداية لحقبة أخرى في الوقت ذاته.

وفى هذا الإطار تسقط كذلك الرؤية الكلاسيكية لحتميات التعاقب الدوري وفقا لنموذج الدوران التكراري المغلق، حيث لن تجعل ديناميات التطور الخطي الدورة التاريخية دورة دائرية مغلقة وفقا لنمط متكرر، بل ستجعل ذلك الدوران التحليلي والنظري دورانا رأسيا طوليا أهليجيا لا يعود الدوران إلى نقطة مر بها في خط صعوده في لحظة ما من قبل، لذا فكل دورة في هذا الدوران الطولي تختلف في مسارها وطبيعتها ومدتها كل مرة عن سابقتها.


النموذج الأهليجي

جدير بالذكر أن فكرة الدوران الأهليجي تتصل أيضا بفكرة الديالكتيك أو الجدل المغرقة في القدم منذ فجر الفلسفة اليونانية، والتي بدأت منذ هيرقليطس المالطي وزينون الأيلي، إلى أن تطورت بالشكل الذي تعرف به اليوم على يد هيجل وماركس، ويظهر هذا الارتباط أول ما يظهر من المعنى اللغوي للجدل ذاته، حيث جاء اشتقاق كلمة الجدل من الجديلة، التي يتم تجديلها بالنهاية وفق حركة مغزلية من الدوران الرأسي المتتابع، أي من خلال النمط ذاته الذي نتحدث عنه هنا.

وأكثر ما يثير التأمل في هذا السياق في الحقيقة هو أن الدوران والنموذج الأهليجي عموما يشكل نمطا يتكرر بشكل لافت في الحياة الطبيعية والكون، فعلى سبيل المثال وعلى عكس الاعتقادات الخاطئة السائدة، لا تُعد حركة الأرض والشمس النجوم ومختلف الأجسام السماوية في هذا الإطار، سواء حول نفسها، أو حول المركز الفلكي التي تدور حوله حركة دائرية كما يعتقد الكثيرون.

حيث كل تلك الأجسام الفلكية لا تدور بالأساس في مدار مغلق و لا تعود أبدا إلى نقطة كانت فيها في الفضاء في لحظة ما، بل تدور في مدارات طولية تأخذ شكل القطع الناقص، أي أن الأقمار والكواكب والنجوم والمجرات وعناقيد المجرات الهائلة تدور كلها بالنهاية بشكل أهليجي

وفقاً كذلك لنظرية الشواش التي تتعامل مع الجمل المتحركة (الديناميكية) اللاخطية التي تبدي نوعا من السلوك العشوائي، ومن أجل استكشاف النظام الخفي المضمر في هذه العشوائية الظاهرة، ومحاولة وضع قواعد لدراسة مثل هذه النظم كالتنبؤات الجوية ومراقبة النظام الشمسي واقتصاد السوق وحركة اللأسهم المالية والتزايد السكاني. نجد أن المخططات التجريدية لتلك النظم تتخذ بصورة دائمة أيضا نمطا أهليجيا مزدوجا من الحركة، يسمى بجاذب لورينتز[6]

من جهة أخرى، تعد البنية الأساسية لكل المواد الحية وغير الحية في هذا العالم، وفقا لنظرية الأوتار الفائقة، هي الأوتار دون الذرية التي تهتز بدورها على هيئة جسيمات خيطية مجدلة أهليجيا، يلتف مع اهتزازها الزمان والمكان، وهو ما ينتج لنا في الأخير الجاذبية التي تمنح عالمنا الفيزيائي قوامه وتماسكه.

وعلى مستوى آخر، يعطينا ملمحا رمزيا على الأقل، يعد شكلا الأساسيا للبنية الأولية الحية في العالم الطبيعى، والمتمثل في الشكل الكيميائي للمادة الوراثية DNA، لمختلف الكائنات هو الشكل الأهليجي المزدوج.


ختامًا

أرنولد توينبي
أرنولد توينبي

يبدو في الأخير، من واقع هذه الفرضية التي تنظر إلى البنية السردية للتاريخ كنمط متكرر تتخذه مختلف أشكال الحياة كنمط أساسي لخط حركتها في هذا الوجود، أن ذلك الواقع اللافت لها يبدو وكأنه يخبرنا في الأخير أنه كما أن للزمان الفيزيائي شكلا وقواما وبنية تتصل بالأبعاد المكانية في عالم رباعي الأبعاد كما يخبرنا آينشتين ومنكوفيسكي، فإن التاريخ بمفهومه الإنسانى والمعرفي كما تناولناه في السطور السابقة يتخذ فيما يبدو بالمقابل شكلا وقواما أيضا من جهة أخرى، كالزمان الفيزيائي.

واللافت أنه عندما نتأمل في الأخير في ذلك النموذج لحركة التاريخ والزمن بدورانها الرأسي في خط متصاعد ممتد، نجد تلك السيرورة بنهاية المطاف، وكأنها أشبه ما تكون بحركة عروج ملحمي إلى الأعلى.

عروج من المآسي والتراجيديا الإنسانية التي لا تنقطع، يجري في مشهد تجريدي مهيب تكاد تنحبس معه الأنفاس، تبدو البشرية بين ثناياه وكأنها ترقى درجا ما، أو تسعى ارتفاعا في حركة طواف سماوية حول مركز مجهول، نحو أفق عالٍ بعيد لا نعلم بعد إلى متى وإلى أين منتهاه.

المراجع
  1. نيتشه هكذا تكلم زرادشت، ترجمة فليكس فارس، مطبعة البصير، الاسكندرية، 1938 ، ص184 .
  2. نيتشه ,هكذا تكلم زرادشت، ترجمة فليكس فارس، مطبعة البصير، الاسكندرية، 1938 ، ص 253
  3. المصدر السابق ص 184
  4. تيموثى فريك و بيتر جاندى , متون هرمس , ترجمة عمر الفاروق عمر ,المشروع القومى للترجمة , المجلس الأعلى للثقافة بمصر , الطبعة الأولى , 2002 , ص 51 -52
  5. نظرية الفوضى علم اللامتوقع ( جايمس غليك ). ترجمة أحمد مغربي. دار الساقي – الطبعة الأولى 2008