لا يحتاج أي كاتب تفسير الإعجاب بخط هجوم منتخب فرنسا في الماضي. ذلك الفريق الذي نال نصيبًا كبيرًا من جذب الأنظار واستهداف المشجعين، فالفريق الذي امتلك جيلاً يهاجم بزيدان وبيريز وهنري وتريزجيه ودوجري يحظي بالطبع بمتعة استثنائية بجانب إنتاجية فريدة ضمنت تحقيق بطولة كأس العالم 1998 ويورو 2000 بعدها بعامين.

غادر ذات الفريق عقب ذلك جزر كوريا بنفوس ذليلة عام 2002، ثم كانت صحوته التي سحقتها اليونان عام 2004، ثم نطحة مهدت لضياع المجد 2006، وفضيحة في جنوب إفريقيا 2010، والتهام قفاز نوير لتسديدة بنزيمة الصاروخية 2014. وخلال ذلك، كان النقص في إمكانيات المدربين والمهاجمين واضحًا.

لكننا اليوم نشهد فرنسا مختلفة عن سنوات الماضي القريب الباهتة، فرنسا تمتلك مواهب أهلتها للعودة للمنافسة العالمية بعد سنوات الإخفاق، من بينهم مهاجم أتليتكو مدريد الشاب ذو الملامح الألمانية« أنطوان جريزمان» الذي بدأ رحلته من فرنسا إلى إسبانيا ثم عاد من جديد ليقود بلاده إلى نهائي يورو 2016 قبل قذيفة برتغالية اغتالت حلم التتويج.


نيدفيد: شغفي – أولاتس: أخي الأكبر

كانت أكبر أخطائنا، بل خطأ تاريخي.

جيرار بونو، كشاف مواهب ليون

تشرق شمس فرنسا كل صباح علي الطفل أنطوان مهووس الكرة فلا يجد في نفسه حافزًا بقدر معرفة أن جدّه كان لاعبًا محترفًا، وشغفه بالإتشيكي لاعب لاتسيو بافيل نيدفيد. فيذهب للتدريب مع ناشئي ليون كل أربعاء ويعود ليدوِّن أحلامه وإجاباته علي أسئلة المراسلين حينما يكبر. تجمعه صور مختلفة مع نجوم ليون، وزملاءه الناشئين، حتي مع أسرته بمدرج المباريات. لكن ليون لم تعر الطفل انتباهًا أبدًا، فلا اعتبرته موهبة قابلة للتطور ولا عرضت عليه أي تعاقد، فقط سمحت له بالتدريب.

يقول موقع بليتشرريبورت أن مكتشف المواهب إيريك أولاتس كان قد أنهي مهمة كشفية بالأرجنتين وتوجه لعاصمة النور باريس للقاء أصدقاء المهنة فاضطر ،مصادفة، لحضور معسكر للناشئين يرعاه نادي العاصمة، حينها شاهد الناشئ النحيل الذي منحوه عشر دقائق فقط كانت كافية لالتفات أولاتس لموهبته وإمكانياته، أدرك بعدها أن الأكاديميات الفرنسية لا تعوِّل كثيرًا علي جريزمان لضئل حجمه فكان له أن يحول رحلته لفرصة عمل. فتعرف علي جريزمان في آخر أيام المعسكر ثم سأله: هل تود اللعب في أسبانيا؟!

لم تصدق أسرة الصغير عرض أولاتس الذي كان يعمل لـريال سوسيداد، لكن سرعان ما أثبت الرجل جدية عرضه بزيارتهم وإقناعهم بفكرة سفر ولدهم وراء الحدود وتحمله كافة الترتيبات من اللغة، والدراسة، والإقامة واصحطابه لأسرته وقت الأجازات. وكذلك الاعتناء بالتدريب في أكادمية ناديه الأسباني الجديد. وافقت الأسرة، ورحل جريزمان عام 2005 لتبدأ مسيرة تطور مستواه وتحطيم أرقام الكبار فيما يعاني ليون من الإخفاق في اختطاف أي شئ قيم من سان جيرمان منذ سنوات لذلك كان التنازل عن من سيصبح هدافًا خطأ كبير.


(سبتمبر/أيول) إقليم الباسك

وشم على ذراع جريزمان

برغم معاناة الوحدة والاغتراب، ظهر جريزمان بأداء جيد واندماج سريع بقطاعات الناشئين. ولفت الأنظار بـسوسيداد كمهاجم وطرف يلعب ناحية اليسار، فلقد صدق أولاتس عندما أخبره أن أسبانيا ستسعد بسرعته ولمسته ودقة تسديداته. لكن سوسيداد ودَّع الليجا إلي الدرجة الثانية للمرة الأولي منذ 40 عامًا موسم 2006/2007، فاستوجب تعيين الأوروجوياني مارتين لاسرت مديرًا فنيًا للفريق للصعود مرة أخري، فكانت فرصة ذهبية للناشئ الذي سيحولوه إلي شيطان منطقة الجزاء لاحقًا.

يقول لاسرت للصحف الأسبانية أن جريزمان كان دائم الانتباه في التدريبات، ينصت ويسأل، فقام بتصعيده للفريق الأول قبل بداية موسم 2009/2010 وأشركه بالمباريات الودية ثم الرسمية بالكأس والدوري، فكان سبتمبر/أيلول شاهدًا علي سطوع نجمه حين سجل بالبطولتين. لقد أحب إقليم الباسك جريزمان ومنحه الثقة الفنية والجماهيرية وبات ترسًا رئيسيًا بمشروع لاسرت الذي سيمنح الفريق واحدة من أفضل المواسم خلال 2012. «لم يكن يحتاج سوي التطور مع الوقت» هكذا وصفه لاسرت، وهو توصيف دقيق لحالة ومعدل أنطوان التهديفي، فالمهاجم الذي سجل 6 أهداف في موسمه الأول، و7 في الثاني، كان قد سجل 20 في موسمه الخامس والأخير.


مكيدة سميوني

كرتون فرنسي اسمه الشيطان الصغير يبرز طفلاً بملامح أوربية يهوي تدبير المكائد وينجح في خداع الأخرين ويشبه عرضًا أسبانيًا لمهاجم سوسيداد الصغير حين يراوغ المدافعين ويضرب بتسديداته، لذلك أحبت الصحافة والجماهير ذلك اللقب كثيرًا. وبعد 4 مواسم من التألق والتهديف في الريال وبرشلونة وفالنسيا، أصبح واضحًا أن الوقت قد حان لرحيل عن الباسك. القصة التي يعرفها مشجع الأرسنال، تبدأ حين يبدي فينجر اهتمامه بلاعب ما فتتأكد أنه لن يأتي ثم تتوقع تألقه في وجهته القادمة!

مهاجم وطرف سريع، مراوغ جيد، يتحكم ويمرر بدقة ويسدد بقوة،والأهم لا يخطأ كثيرًا في الانفرادات. ماذا يحتاج سميوني أكثر من ذلك لاصطياد خصومه بالمرتدات؟ لا شئ، ربما لا شئ علي الإطلاق. وهكذا نجح في إقناعه بالبقاء في أسبانيا، ودفع أتليتكو 30 مليون قيمة الشرط الجزائي بعقده. لقد أراد سميوني تعويض رحيل كوستا بعد موسم 2014 التاريخي، فحوَّل أنطوان من مجرد شيطان صغير لسفاح يعاقب من يرتكب الهفوات. يصعب المجازفة بخط دفاع غير متماسك أو وسط ملعب متهور يمنحه المساحة وحرية الحركة في ارتداد الأتليتي الهجومي فسجل 25 هدفًا في موسمه الأول، و32 في الثاني. بل أضحي أكثر لاعب فرنسي يسجل خلال موسم بالليجا متجاوزًا رقم بنزيمة. كما تطور دفاعيًا بشكل ملحوظ، ربما يكفي الإشارة لمعدل التدخلات والعرقلات الناجحة التي زادت من 0.4، و0.8 إلي 1.1 و 1.8 بالترتيب خلال المباراة الواحدة بحسب سكاي سبورت.


مواساة الملك فيليب

أطلق أنطوان رصاصة انتهاء العلاقة بين جوارديولا وبايرن ميونخ بنصف النهائي. اعتمد ألابا علي التسلل في التعامل مع تلك الهجمة المرتدة، فأهلًا بكم في أكثر العروض المحببة لشيطان مدريد. نوير علي الأرض، وجريزمان فوق أكتاف أسطورتي ناديه: جابي وتوريس.

في النهائي مرة أخري بفضل التعادل، بشري كبري في الظفر بالأولي.

مرت أغلب هجمات الأتليتي خلال نهائي السان سيرو بقدم جريزمان، مسَّاك ولاعب من الوسط يضغط كلما تحرك الفرنسي، بيبي نفسه كان قد صرح بعد ليلة مايو/آيار أن ترويض أنطوان أمر مرهق..لكن هل كل ذلك ذي أهمية؟ بالطبع لا. سمع كلمات المديح مئات المرات، لا شرف بدون تتويج، ولا تتويج بدون تعادل.

أمام أعينه جماهير الروخي بلانكوس وطاقة أمل تتعلق فقط بقدمه، علي يمينه الشولو مستغرق بالتفكير في تكتيك ما بعد التعادل، ينتظره نافاس بتفوق معنوي حيث سبق وتصدي لركلته في الدوري سابقًا. تسديد ضربات الجزاء بسقف المرمي أسلوب يتسم بالوجاهة خصوصًا لو كان الحارس يجيد تقفيل الزوايا لكن القائم وخط المرمي تمنَّعتا، فالدراما دائمًا في صف الأبيض والأحمر!

صحيح أن جريزمان كان أول من تصدي لضربات الجزاء بنهاية الوقت الإضافي بأعصاب حديدية وهدوء وسكون وركلة منحت الثقة لرفاقه، لكن ذلك لم يخفي ملامح الندم علي ضياع الأولي حتي قبل تسديدة خوان فران. ملك أسبانيا فيليب الذي كان حاضرًا يعرف أن شعور تحمل مسئولية خذلان الجماهير أمر لا يسهل احتماله، خصوصًا بأندية كأتليتكو، ربما تفيد بعض كلمات المواساة.


ورطة ديشامب

اجعل حياتك حلمًا، واجعل الحلم حقيقة.

فشل المدرب ديديه ديشامب في إدارة مواهب فرنسا وتوظيف إمكانياتهم وعجز عن ابتكار حلول لاختراق دفاعات الخصم وفك تكتلات نصف الملعب. منتخب يمتلك بايه،بوجبا،ماتويدي، كومان جريزمان،مارسيال ولكنه يعاني من بطء التحضير وصعوبة صناعة اللعب. وجريزمان الذي يجيد اللعب في كل مراكز الخط الهجومي ويساهم أحيانًا كمحطة لتحرير الأطراف والنزول لوسط الملعب للمساهمة في صناعة اللعب وجد نفسه في ورطة مفاصلها: التسجيل من أقل فرصة متاحة بالإضافة لتكتل دفاعي من الخصم.

فوز صعب علي رومانيا وألبانيا، إلي آمال تكبدها كتفه بعد تجاوز أيرلندا، بطل شعبي بعد إقصاء الألمان. وجمهور عريض انتظر منه استكمال عروضه الخاطفة أمام منتخب يدافع بقتل المساحات،والكل تناسي أن مدربًا ينكمش علي الدكة كلما سجل الخصم وينتظر الإنقاذ من أنطوان أو بايه. قدرات ديديه التي أضاعت أسهل بطولة تمر بها فرنسا منذ زمن،منحت فرصة تاريخية ذاتية لـأنطوان بتسجيله 6 أهداف واقترابه من تحطيم رقم رونالدو الذي حطم رقم بلاتيني لأكبر عدد أهداف باليورو.

رقصة الهاتف تعطلت أمام دفاعات بيبي وفونتي وتعملق مفاجئ للحارس باتريسيو وحُرِم صاحب الرقصة من ملامسة كأس البطولة وأكتفي بلاعب وهداف البطولة كما اكتفي مع الأتليتي بألقاب ذاتية مرات.