في تفرده الأبدي وبحثه الدائم عن التسامي والمعنى والغاية، تتنازع الإنسان في علاقته مع الزمن رحلتا حج متناقضتين تقصد كل منها قبلة عكس اتجاه الأخرى؛ رحلته الأولى قبلتها إلى النهاية المحتومة، إلى الموت وإلى تحقيق مصيره في هذا العالم. تتم هذه الرحلة -أو هذا الحج- نحو النهاية تحت سطوة الزمن الذي لا يتوقف ولا يمهل ولا ينتظر، وتأثير الزمن في حياة الفرد ليس تأثير تراكم ونمو واكتمال دائمًا، إنما هو أيضًا تجربة متصلة لتفكك الهوية وضياع المعنى وتشتت الغايات والطرق، لذا لم يجد الإنسان عبر تاريخه الطويل وثقافاته وأديانه المتعددة بُدًا من رحلة عكسية وحج ضروري إلى البدايات، إلى منشأ المعنى ومنبع الهوية. حج غايته التسامي على الزمن، وعلى النسيان، وعلى التشتت، وعلى التباعد التاريخي، حج ينشأ من الأسطورة وإليها يعود.

إن كان الإنسان في حجه الأول نحو النهاية مرهون بالتاريخ وتناقضاته والواقع وحتميته، فهو في حجه الثاني نحو البدايات رهن الأسطورة والقصة والشعيرة بما تمثله من تجاوز وتعال على هذا التاريخ وهذا الواقع وهذا الضعف الإنساني الحتمي. ولا تكاد تخلو ديانة أو ثقافة أو حضارة من هذه الشعيرة، حتى تلك المجتمعات التي ادّعت القطيعة مع كل ما هو غير عقلاني أو غير عملي، ما لبثت أن تنازعتها الضرورة والطبيعة والفطرة الإنسانية وانبثقت من داخلها أشكال أخرى مختلفة من هذا الحج نحو البدايات، إلى مكمن المعنى حيث يجثو الإنسان في تفرده وتعاليه.


فسيفساء الحج على جدار التاريخ

يقودنا افتراض فطرية منسك الحج وضرورته الغائية في النفس الإنسانية إلى وجوب النظر في لوحة التاريخ، حيث مارس الإنسان القديم والوسيط والحديث في مختلف الثقافات والديانات والشعوب هذا المنسك بأشكال وفلسفات وشعائر متباينة ومتقاطعة، تشترك في بعض المفاهيم والغايات وتختلف في الشكل والطقوس. تبدأ شعيرة الحج عند أغلب هذه الديانات من الرحلة نفسها أو حتى من اللحظة التي يتم فيها اتخاذ القرار والاستعداد لأداء الشعيرة، وتكمن الغاية أحيانًا في الرحلة أو في الطريق، التي تشبه إلى حد كبير عملية استخلاص أو انتزاع للنفس والروح من براثن الواقع والمحيط، ومن دنس الخطيئة والرغبة والانحطاط إلى مكان أكثر تساميًا، إلى المقدس والمتعالي، إلى المكان الذي ترتبط به الأرض مع السماء، والوجهة هنا ليست جوهرية في ذاتها إلا بمقدار ما يُطرح فيها من القداسة، هذه القداسة ذاتها يتم استجلابها من الأسطورة أو القصة المؤسسة وغالبًا ما تتشكل المناسك أيضًا وفقًا لهذه الأسطورة.

مارس الإنسان القديم والوسيط والحديث في مختلف الثقافات والديانات والشعوب مناسك الحج بأشكال وفلسفات وشعائر متباينة ومتقاطعة

يمكننا إذن أن نؤسس تجربة الحج على ثلاثة أعمدة لا تكاد تغيب عن أي دين أو ثقافة، وهي: (الأسطورة – المناسك – وتجربة السمو والتعالي). قد تكون الأسطورة قصة ميلاد أو وفاة أو تضحية أو ذكرى رحلة أو حادثة، وتختلف المناسك من الصلاة إلى الطواف مرورًا بالتأمل والترتيل والترنم وتعدد تجارب السمو وأشكالها في شكل طيف واسع من الممارسات كالإحرام أو قطع الرحلة سيرًا على الأقدام أو الاغتسال. وتكون الغاية المعلنة للحج غالبًا هي إظهار الإخلاص والتفاني، وإظهار الانتماء والولاء للدين والطائفة وللإله المعبود وللعالم الآخر المقدس. وفقًا للمدخل السابق يمكننا الآن أن نسرد سريعًا وصفًا لهذه الشعيرة لدى بعض أهم أديان ومِلَل العالم:

حج الزرادشتين

تعتبر «الزرادشتية» إحدى أقدم الديانات في العالم، كان منشأها على يد «زرادشت» في إقليم خراسان من بلاد فارس، يعبدون إلهًا واحدًا يسمونه «أهورامزدا»، وهو إله الخير أو الحكمة، ويرمزون له بالنار التي يعتبرونها من نعمه الأسمى لبني البشر. يحج الزرادشتيون إلى المعبد الأخضر في مدينة يزد الإيرانية مطلع كل صيف، حيث يمارسون شعائرهم وطقوسهم فيخلعون أحذيتهم خارج المعبد ويغطون رؤوسهم بقماش يسمى «غوستي»، ويعبدون إلههم تحت سقف واحد، وتعود قدسية المكان حسب اعتقادهم إلى أنه قبل نحو 1400 عام، وأثناء دخول جيوش الفتح الإسلامي إلى بلاد فارس، هربت السيدة «بانو» وهي إحدى بنات «يزغردن الثالث» آخر ملوك فارس إلى هذا الجبل فانشق هذا القسم من الجبل فاختبأت بداخله وأُغلق الجبل عليها ولم تخرج منه.

الحج في اليهودية

تقام مراسم الحج عند اليهود في هيكل سليمان أو عند حائط المبكى، وهو فرض على الذكور البالغين الأصحاء دون الإناث والقاصرين والعميان والعرجان والمسنين والمرضى في العقل والجسم، ثلاث مرات في العام، في عيد الفصح ذكرى خروج بني إسرائيل من مصر، وفي ذكرى تنزل التوراة على موسى عليه السلام في جبل سيناء، وفي تخليد التيه الذي عاشه بنو إسرائيل بعد خروجهم من مصر، ويستخدم اليهود الآلات الموسيقية المختلفة أثناء صعودهم إلى أورشليم؛ للتخفيف من متاعبهم بالترنم ويرددون الأناشيد والترانيم اليهودية.

الحج عند النصارى

لم تفترض النصرانية على أتباعها حجًا معينًا، ولم يرد في التاريخ المسيحي وجوب زيارة الأماكن التي ارتادها وعاش فيها المسيح عليه السلام، إلا أن الديانة لم تطق إلا استحداث هذه الشعيرة؛ فحج المسيحيون الأوائل إلى المكان المفترض لصلب المسيح، وبنوا فيه كنيسة القيامة، وحجوا إلى بيت لحم مكان ولادته عليه السلام، وحجوا إلى مزارات الصالحين والشهداء والرسل في روما وفرنسا والبرتغال وشرق أوروبا، واستحدثوا كذلك طقوسًا لهذه الشعيرة حيث كان الحج يبدأ بالحصول على البركات من الكاهن الذي يرتدي ملابس خاصة بهذه الشعيرة.

حج الهندوس

يمثل الحج عند الهندوس شعيرة عبور وتطهر يتجهون خلالها إلى الأماكن المقدسة أو إلى أحد الأنهار المقدسة مثل نهر الكنج الذي يعتقدون أن أحد آلهتهم قد اغتسل فيه، فيقومون بالاغتسال فيه، والحج عندهم تطوع لا فرض فيه يؤدون فيه فروض الطاعة لمعبودهم في الأماكن المقدسة ويدعون له ويسجدون ويحلقون رؤوسهم ولحاهم.

حج البوذيين

يعترف البوذيون أن طقوس العبادة عندهم من صلاة ونسك وحج لم يأت بها بوذا إنما اخترعت وأنشِئت بعد وفاته، وجل تعاليمه كانت السمو الروحي والعقل والتأمل والسعي لتهذيب النفس وطهارتها. والحج في البوذية يتم إلى ثمانية أماكن مقدسة؛ أربعة منها هي الأماكن التي ولد فيها بوذا وترعرع والأماكن التي مر فيها بتجربة التنوير الأولى ومكان وفاته، وأربعة أماكن أخرى حدثت فيها المعجزات، وتقتصر الطقوس على التأمل والتبجيل والتذكر.


الإسلام والتجذر في التاريخ

يختلف الإسلام عن غيره من الديانات في أن قصته وأسطورته التي بنى عليها شعيرة الحج متجاوزة تاريخيًا للإسلام نفسه ولرسوله المرسل، وصولًا للجذر الذي ارتضاه لنفسه كمتمم للشريعة والديانة الإبراهيمية التوحيدية القائمة على التوحيد المحض والخالص لله عز وجل.

شعائر الحج في الإسلام مستقاة من شعائر الحج الإبراهيمي القديمة، مع تنقيتها من كل ما علق بها من آثار الوثنية وإرجاعها إلى صورتها الأصلية

لا يكمن الاختلاف الإسلامي في الأسطورة فقط، إنما يكتسب المكان أيضًا في الشعيرة الإسلامية قدسية خاصة بذاته بعيدًا عن القصة المؤسسة؛ فقدسية الكعبة والحرم المكي لا تكمن في قصة الفداء، ولا في قصة سعي السيدة هاجر بين الصفا والمروة، إنما تكمن في كون هذا المكان هو أول بيت وضع للناس، وإنما أمر إبراهيم عليه السلام بقصده لذلك. شعائر الحج في الإسلام أيضًا ليست من تأسيسه بالكلية، إنما تم إنشاؤها من شعائر الحج الإبراهيمي القديمة، وتمت تنقيتها من كل ما علق بها من دنس الوثنية وإرجاعها إلى صورتها الأصلية معبرة عن الإخلاص لله الواحد الأحد. لا تقوم شعيرة الحج في الإسلام كذلك إلا في مرة واحدة في العام في مكان واحد هو مكة المكرمة.

ينبؤنا الاستقراء السابق لشعيرة الحج في الإسلام بسمة مميزة ما لبث الإسلام يعلن عنها في كل شعائره حتى اكتملت معالمها في الفريضة الأعظم؛ وهي سمة الوحدانية لله خالصة لا تشوبها شائبة من شرك أو دنس.

إلا أننا إذا ابتعدنا قليلًا عن النص المؤسس وعن الممارسة المبكرة للجيل الأول، يمكننا أن نرى أن فريضة الحج تم استنساخها بأشكال أخرى مختلفة داخل الجسد الإسلامي نفسه من بعض الطوائف المسلمة كالشيعة والصوفية، على شكل زيارة قبور الأولياء والأئمة وشد الرحال إليها في مواسم معينة من موالد أو احتفالات وما سواها. هذا التشظي لشعيرة الحج في الإسلام يمكن إرجاعه لأسباب سياسية واقتصادية وعقائدية، وينبئ عن التأثير والتأثر الذي مر به الإسلام مع الديانات والثقافات الأخرى على مر تاريخه الطويل.


حج الإنسان الحديث

يحكي «بندكت أندرسون» في كتابه «الجماعات المتخيلة» أن تشكل الدولة القومية الحديثة بدأ كرحلة حج لأبناء المستعمرات نحو المتروبول بحثًا عن الهوية والذات، وأن نتاج هذه الرحلة كان اختراع القوميات الحديثة في أمريكا اللاتينية مثلًا، إلا أن هذه الرحلة لا يمكننا اعتبارها حجًا بالمعنى التقليدي للكلمة، لذا باستطاعتنا تجاوزها إلى صور وأشكال حديثة أكثر تعبيرًا عن هذه الممارسة الإنسانية العتيقة.

حاجة الإنسان الحديث إلى الحج معبّر أساسي عن أزمة تشكل المعنى التي أنتجها الحداثة بالضرورة؛ بسبب عدم قدرتها على استبدال سرديات الأديان القديمة بأخرى تتجاوز العقل العملي التقني، وفي ظل حالة السيولة والتفكك التي تمر بها المجتمعات ما بعد الحداثية يصبح السؤال عن المعنى والجدوى والهوية سؤالًا مشروعًا.

لا يقدم الإنسان الحديث كعادته إجابة مباشرة، لكن يمكننا ملاحظة محاولات متكررة من الإجابات المتنازعة والمشتتة تنتهي بما يطلق عليه بعض الباحثين: «التقوى أو التدين الضمني أو الخفي»، وهي أنماط من التفكير الديني التي لا تعبر عن نفسها صراحة كدين خالص. يظهر أثر هذه الأنماط التفكيرية في ممارسات وطقوس تشبه بشكل كبير الطقوس الدينية وتقتفي أثرها، وقد تعيد إحياء بعضها من موات ولكن بغايات مختلفة ومتنوعة. يمكننا في هذا السياق على سبيل المثال اعتبار مهرجانات الموسيقى والألعاب الرياضية ككأس العالم لكرة القدم والأولمبياد مواسمَ للحج يتم فيها التعالي على الحياة اليومية الروتينية وإعادة اكتشاف واختراع هوية فرعية تتعلق بفرق كرة القدم مثلا. في مثال آخر يمكننا ملاحظة حج المواطنين الأمريكيين إلى مكان أحداث الحادي عشر من سبتمبر لإحياء الحدث وإعادة تذكره وممارسة بعض الطقوس الدينية كتلاوة الصلوات. يجادل بعض الباحثين كذلك أن السياحة بشكلها الحديث وزيارة الآثار والمتاحف والبلدان المختلفة تستبطن نوعًا من التشابه مع رحلة الحج القديمة، يتم فيها تعزيز الانتماء إلى الحضارة الإنسانية بشكلها الأعم في المخيلة الحديثة.

يجدر بنا في هذا المقام أيضًا أن نذكر الأهمية المتزايدة التي يكتسبها الحج في الأوساط المعرفية في مجالات الأنثروبولوجيا وعلم النفس والاجتماع والسياسة. يمكننا أن نلحظ بشكل متزايد الدراسات النفسية التي تتحدث عن الآثار أو الفوائد الإيجابية التي تحدثها رحلة الحج في علاج الأمراض النفسية كالاكتئاب وغيره، ويمكننا أن نلمح التقدم الذي تحدثه دراسات الأنثروبولوجيا في فهم شعيرة الحج عند المسيحيين الأوروبيين، والدوافع والهواجس التي أدت إلى إحياء واستعادة هذه الشعيرة من جديد، وإن كانت بغايات وأهداف مختلفة.


الحج وتجاذبات السياسة

مهرجانات الموسيقى والألعاب الرياضية ككأس العالم لكرة القدم والأولمبياد، يمكن اعتبارها مواسمَ للحج يتم فيها التعالي على الحياة اليومية الروتينية

أخيرًا، لا يكف الحج -بسبب طبيعته المتجاوزة للجغرافيا- عن الدخول في تجاذبات السياسة، غير أن القوة السياسية للحج لا تستمد فقط من هذه الطبيعة، إنما أيضًا من الدور الذي يشغله الدين عمومًا في الممارسات السياسية، وقدرته على خلق الولاءات والانتماءات، وتجاوز أو خلق الأيديولوجيا وسواها. لا يسعنا في هذا المقام إلا أن ندلل على الدور السياسي للحج بالمرور على ثلاثة أمثلة تاريخية مرورًا سريعًا:

المثال الأول: يعود بنا إلى العصور الوسطى، فأحيانًا كثيرة ما يستدعي مصطلح الحج في المخيلة الغربية صورًا عن الحروب الصليبية في العصور الوسطى؛ لأن الحج لم يشكل حينها الشرعية أو المنطلق الذي انطلقت منه هذه الحملات فقط، إنما أيضًا ساعد هذا المفهوم الكنيسة في مد نفوذها في الداخل الأوروبي نفسه، وإعادة ترتيب البيت الأوروبي والخلافات التي تتنازعه تحت ذريعة هذه الشعيرة.

المثال الثاني: يأخذنا إلى الصراع المذهبي داخل البيت الإسلامي الذي اشتد أوجه بعد نجاح الثورة الإسلامية في إيران وقيام دولة شيعية مذهبية تهدد ممالك الجوار السنية، والتي من بينها المملكة العربية السعودية التي تحتفظ بحقها في إدارة شعائر الحج ورعايتها. بطبيعة الحال لم تفلت شعيرة الحج من براثن التسييس في هذا الصراع التي وصلت أوجها في المواجهات الدامية بين الحجاج الإيرانيين والأمن السعودي عام 1987م، ومقتل العديد من الحجاج الإيرانيين واحتلال وإغلاق السفارة السعودية بطهران، فضلاً عن الحوادث والتجاذبات المتفرقة التي لم تتوقف حتى الآن.

المثال الثالث: يأخذنا بعيدًا إلى أمريكا اللاتينية، وإلى محاولات التيارات الرجعية التي تمثل السكان المحليين في استعادة شعائر الحج إلى الجبال والكهوف التي كانت تمارسها قبائل المايا، في محاولة لتأكيد الهوية الما قبل كولونيالية، واستعادتها في مواجهة الإمبريالية الغربية تجاه أمريكا اللاتينية.

المراجع
  1. بيندكت أندرسون، الجماعات المتخيلة.
  2. The Philosophy of Hajj
  3. Buddhist Pilgrimage
  4. فريضة الحج: دراسة مقارنة.
  5. Pilgrimage (Anthropology)
  6. Quest for Transformation: An Exploration of Pilgrimage in the Counseling Process.
  7. The Psychological and Physical Benefits of Spiritual/Religious Practices, Ellen Idler.
  8. Understanding the Pilgrim Experience Findings from a three year Indo-British Research Collaboration funded by the Economic and Social Research Council
  9. [Pilgrimage Today: The Meaning-Making Potential of Ritual]Tatjana Schnella & Sarah Palib Innsbruck University, Austria
  10. MAYA INTIMACY WITH THE MOUNTAINS: PILGRIMAGE, SACRIFICE AND EXISTENTIAL ECONOMY, JAN KAPUSTA