لم يَعد الولع بمقارنة العرب بالنازيين حكرًا على الصهاينة (الذين قالوا إن عبد الناصر هو هتلر العرب)، بعد أن تطبَّع العرب على مقارنة بعضهم بعضًا بالنازيين، وبعد أن صارت، خصوصًا في الأوساط الليبرالية العربية، مقارنة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان والرئيس المصري الأسبق محمد مرسي بالنازيين مسلكًا عاديًا (يمكن بسهولة القبض على هذا الولع في مقالات أستاذ التاريخ بالجامعة الأمريكية بالقاهرة، خالد فهمي، الذي يرى أن «المقارنة بين الإخوان والنازيين قد تبدو مزعجة ولكنها قد تكون مفيدة لفهم اللحظة الحالية»، والذي قارن وزير ثقافة الإخوان، علاء عبد العزيز، بجوزيف غوبلز. يُنظَر مقالاته في الشروق المصرية:على درب غوبلز، عن الفاشية والفاشيين).

أعتقد أن الاستهلاكية هي أفظع أشكال الفاشية… إنها أفظع من كافة الأشكال الكلاسيكية للفاشيةبيير باولو بازوليني

ضمن الصور التي نُشِرت، يوم 7 أغسطس، لفعالية «الديمقراطية والشهداء»، في ساحة يني كابي (حي ومرفأ، في إسطانبول، على الجانب الأوروبي من البسفور)، ثمة صورة لوكالة الأناضول للأنباء، شبه الرسمية، يظهر فيها «ملايين» المشاركين (حسب وكالة الأنباء الرسمية تي.آر.تي TRT) تحت الأعلام الحُمْر، الذين تواجههم منصَّة تنتمي إلى عصر آخر.

من بين ما يُلفت النظر في فيلم «المُذعِن» (بالإيطالية: Il conformista)، الذي أخرجه برناردو برتلوتشي (1970)، هذا الحضور الواضح للمعمار الفاشي؛ البساطة والوضوح وانعدام البهرجة أو الزخرفة مع وجود الرهبة. مثلًا، المشهد الذي يمشي فيه مارسيلو (جان لوي ترانتينيا) خطوات عديدة مستقيمة متجهًا نحو مكتب المسئول، هو مشهد نموذجي في تصوير الفاشية. هنا، لا تُخلق الرهبة من وجود حرس أو معروضات أو أن هذا الدَرابزين مطعَّم بالذهب وتلك الزهريّة عمل فني باهظ الثمن، وإنما من المسافة الطويلة التي على مارسيلو أن يقطعها حتى يصل إلى المكتب المهيب، ذلك الفراغ الهائل بينه وبين السقف والجدران. من الناحية الأخرى، يظهر المسئول في وضعية فاشية متميزة. فعلى الرغم من الرهبة والفراغ، هناك مركز راسخ يقبض على كل شيء، كان من اللازم أن يُفرَّغ كل ما حوله حتى يتأكَّد ويتجلى. هذا المركز هو المسئول الفاشي الذي يمثِّل الدوتشي. يُلخص هذا المشهد الأبعاد المعمارية للأبنية والساحات التي شيدت في ظل الحكم الفاشي في إيطاليا أو النازي في ألمانيا، كما يبين، على نحو تجريدي، «الشَبَه» بين ساحة يني كابي ونظيراتها النازية.

وفقًا لمفهوم بازوليني، يمكن أن يصير حديث باراك أوباما أو هيلاري كلنتون مشهدًا فاشيًا، وهو ما لا يمكن أن يقول به الليبراليين العرب.

أسهم هذا الشَبَه الكاريكاتوري في مبادرة بعض الليبراليين إلى مقارنة تجمّع الناس في يني كابي بالمشاهد النازية والفاشية الغابرة. بالإمكان فهم هذه المقارنة لو أنها تستند إلى مفهوم متجدد عن الفاشية، كذلك الذي قال به بيير باولو بازوليني في آخر حوار له مع انجمار بيرجمان، لصالح مجلة لسبرسو، قبل مقتله في الأول من نوفمبر 1975: «أعتقد أن الاستهلاكية هي أفظع أشكال الفاشية… إنها أفظع من كافة الأشكال الكلاسيكية للفاشية». فهنا تُعطى الفاشية حمولات جديدة هي عبارة عن مد للمضامين السابقة إلى أقصاها. طبعًا، بازوليني يقول هذا الكلام قبل أن يُخضَع الاستهلاك نفسه لعمليات تطهير وتحلية متواصلة، بما يمكِّن المرء، عند شراء كوب اسبرسو ماكياتو، سولو أو دبل، من ستارباكس، أن ينخرط في خِبرة خيرية وأخلاقية عميقة، لأن ستارباكس ستقوم باقتطاع جزء من المبلغ المدفوع لصالح نقل المياه المحلاة إلى فقراء العالم. بهذا، تأخذ الفاشية وجهًا طيبًا وحنونًا، أبعد ما يكون عن تشنجات هتلر، أو عيون موسوليني الميتة. ووفقًا لمفهوم بازوليني، يمكن أن يصير حديث باراك أوباما أو هيلاري كلنتون أمام الجمهور، في مناسبة انتخابية أو قومية، مشهدًا فاشيًا عتيدًا، وهو ما لا يمكن أن يقول به الليبراليين العرب.

لكن تأتي محاولات المقارنة هذه لتعبِّر عن قصور نظري واستسهال تحليلي مدفوعين بموقف طهراني يسعى إلى شينطة الآخر وإضفاء الخيرية على الذات.