احتلت العطور مكانة هامة لدى الإنسان، وتطورت مع تحضره عبر العصور، لأنها من أهم وسائل الزينة لديه، وتعبر عن مدى عنايته بنظافته، ونظرة الآخرين له، لهذا ولع العرب بالطيب فتزينوا به، وضخموا به أجسادهم، واغتسلوا بماء الورد، وتعطروا في مجالسهم واجتماعاتهم وفي أفراحهم وأعراسهم. (1)

فقد اشتهرت تجارة العطور في الجزيرة العربية، وتاجر فيها أشرف العرب من قريش، مثل: أبي طالب بن عبد المطلب عم الرسول «صلى الله عليه وسلم»، حيث عُرف عنه بيع البز (الحرير) في أول النهار، وفي آخره بيع العطر، كما تاجر في العطور أبو عبيدة بن الجراح، وشيبة بن ربيعة، وهشام بن المغيرة، وأمية بن خلف، وعبد الله بن جدعان، وسمرة بن جندب، ويذكر أن عبد شمس كان دهانًا (بائع عطور). (2)

أما العطور الأكثر شُهرة عند العرب، فكانت؛ المسك والعنبر والعود والصندل، كما عُرف عنهم مزج الطيب (العطور)، وحفظها في قوارير وتصديرها إلى بلاد فارس والروم (3)، كما خصص العرب أسواقًا لبيع العطور، ومنها؛ سوق عكاظ، وسوق عدن، وسوق عمان، وسوق الشحر في بلاد المهرة. (4)

حضارة عطرة

ظهور الإسلام في الجزيرة العربية أصل الاهتمام بالنظافة والزينة، وأمر بها، فقد قال الله تعالى في سورة الأعراف: «يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد» (5)، وعلى أهمية التطيب والتعطر في أحاديث وأقوال الرسول، روى الإمام النسائي، أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) قال: «حبب إلي من الدنيا النساء والطيب، وجعلت قرة عيني في الصلاة»، ويذكر الترمذي في كتابه، أن النبي (صلى الله عليه وسلم) كان لا يرد الطيب، كما نهى عن رد الريحان، فعن أبي هريرة، أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) قال: من عرض عليه ريحان، فلا يرده، فإنه خفيف المحمل، طيب الريح» (6).

وخير دليل على مكانة العطور عند الرسول (صلى الله عليه وسلم) أنه لما أراد علي بن أبي طالب أن يتزوج من فاطمة، باع بعيرًا له بثمانين وأربعمائة درهم، ليدفعه مهرًا لها، فأمره الرسول أن يجعل الثلثين في الطيب، وثلثًا في الثياب (7)، هذا بخلاف حث الرسول المسلمين على التطيب حتى تكون رائحتهم عطرة وزكية دومًا.

أصناف العطور

العطر في اللغة، كما عرفه ابن منظور في كتابه «لسان العرب»، هو اسم جامع للطيب، والجمع عطور، والعطّار: بائعه، وحرفته العطارة، ورجل عاطر وعَطر ومِعطير ومِعطار، وامرأة عَطرة ومِعطير ومُعطرة.

والعطور ثلاثة أنواع، فمنها؛ مصدره النبات، أو مصدره الحيوان، أو مركب مزيج بين أكثر من نوع من العطور.

  • العطور النباتية: العود، والريحان، والصندل، والكافور.
  • العطور الحيوانية، هي: المسك المأخوذ من الظبي، والعنبر مأخوذ من الحيتان.
  • العطور المركبة: هي مزيج بين العطور النباتية والحيوانية، ومنها:
    • عطر الغوالي أو الغالية: أما اسمها فيرجع إلى أمير المؤمنين معاوية بن أبي سفيان، حيث دخل عليه عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، وتفوح منه رائحة الطيب، فسأله عنها، فقال بن جعفر: مسك وعنبر جمع بينهما دهن بانٍ، فقال معاوية: غالية، أي ذات ثمن غالٍ. (8)
    • عطر الخلوق: مركب من الزعفران والقرنفل والصندل، ويمتاز باللون الأحمر، وهو مخصص للنساء.
    • عطر الندُد: وهو يعود يتبخر به مطرى بالمسك والعنبر والعود، حيث يوضع في الشمع ويجعل رائحته طيبة، كما يستخدم في تبخير الملابس والأقمشة لحفظها من الحشرات، وازدهر في العهد العباسي.

كما عُرفت في العهد العباسي صناعة المياه العطرية، وكانت تصنع من تقطير الزهور واستخلاص الماء المعطر منها وبيعه. (9)

ومن العطر دواء

شهدت الحضارة الإسلامية تطورًا ملحوظًا في العلوم الطبية والصناعات الدوائية، خاصة العطور، وذلك بعد استخدام بعض التقنيات التي أهلت العطور لتصبح دواءً مناسبًا، في أشكال عدة؛ منها: الاستنشاق، والتبخير، والتدليك .. وغيرها من الصور الدوائية، ويُعد العلاج بالعطور، صورة من صور الطب البديل.

شرح ابن البيطار في كتابه «الجامع لمفردات الأدوية والأغذية»، نماذج لبعض العطور واستخداماتها في علاج الأمراض، فقال: إن العنبر مقوٍ للقلب والدماغ، وتضمد به المفاصل، ويصلح لأوجاع المعدة والأعصاب.

أما المسك فهو يقوي القلب، وجيد لمن تعرض للإغماء لإفاقته، وعلاج السموم، وجيد لخفقان القلب، وإذا أضيف له الخل وشُرب فإنه يحلل أورام الطحال .. وغيرها من الأمراض.

أما الكافور فهو مناسب لمن يعاني من الرُعاف، وكذلك الصداع والأورام، ويحفظ على الأسنان صحتها، وأيضًا علاج جيد للسموم، والريحان علاج مناسب لمن يعاني من البواسير الظاهرة والباطنة، ويعالج إدرار البول الناتج عن ضعف المثانة، وأيضًا يستخدم لوجع الظهر والوركين، كما أنه مقوٍ للقلب والحواس.

ولمكانة العطور لدى الناس، وتأثيرها في حياتهم، أُلفت العديد من الكتب عنها، وقيل عنها شعرٌ.

العطور والأدب

يظل الكتاب هو رفيق العالم والمتعلم، وكنزه المعرفي، وكما خصص الكُتاب والمؤلفون على مدار الحضارة الإسلامية كتبًا في مختلف فنون المعرفة، كان للعطور نصيب جيد في رفوف المكتبة الإسلامية، التي ذكرها ابن النديم في الفهرست.

فعلى سبيل المثال، هناك كتاب العطر الذي أُلف للوزير يحيى بن خالد البرمكي 190ه، وكتاب العطر لإبراهيم بن العباس الصولي 243هـ، وأيضًا كتاب العطر للكندي، وكتاب العطر وأجناسه للمفضل بن سلمة .. وغيرها من الكتب.

أما في مجال الشعر، فهناك العديد من الشعراء الذين امتدحوا الطيب، فمثلا؛ قال أبو النواس، 198هـ، ممتدحًا المسك في إحدى قصائده:

نحن نخفيها وتأبى .. طيب ريح فتفوح
فكأن القوم نُهبى .. بينهم مسك ذبيح

ويقول البحتري، 280هـ، في ديوانه:

وحاولن كتمان الترحال في الدجى .. فنم بهن المسك لما تضوعا

أما أبو بكر الخوارزمي، 383هـ، فقال:

وطيب لا يحل بكل طيب .. يحيينا بأنفاس الحبيب
متى يشممهُ أنف حن قلب ..كأن الأنف جاسوس القلوب

أما أبو حيان التوحيدي،414هـ، فقال عن العطر في شعره:

حمراء مصفرة الأحشاء باعثة .. طيبًا تخال به البيت عطارًا
كأن في وجهها تبرًا يخلصه .. قين يضرم في أفنائه النارا

العطور تصنع التاريخ

وكما كان للعطور نصيب من الأدب، كان لها نصيب موفور من التاريخ، فكانت حاضرة في المعاهدات السياسية والمناسبات السعيدة.

بنو قصي بن كلاب

لم يتوقف دور العطور على التطيب والزينة لدى العرب قبل الإسلام وبعده، بل كان لها مكانة مميزة في المشهد السياسي، وهذا ما قاله ابن سعد في الطبقات الكبرى عن الخلاف الذي وقع بين بني عبد مناف وبني عبد الدار على: الحجابة واللواء والرفادة والسقاية ودار الندوة في مكة، وقد تحالف مع بني عبد مناف؛ بنو قصي، وبنو أسد بن عبد العزى بن قصي، وبنو زهرة بن كلاب، وبنو تيم بن مرة، وبنو الحارث بن فهر، أما بنو عبد الدار فتحالف معهم، بنو مخزوم، وسهم، وجمح، وبنو عدي بن كعب.

وذهب كل فريق منهم إلى الكعبة المشرفة للتعاقد والتحالف، فأحضر بنو مناف ومن معهم جفنة مملوءة طيبًا، وغمسوا أيديهم فيها، ثم مسحوا بها الكعبة المشرفة، فسموا بحلف المطيبين، أما بنو عبد الدار ومن كان معهم فأحضروا جفنة من الدم، وغمسوا أيديهم فيها، فسموا بالأحلاف ولعقة الدم، وتهيأ الفريقان للقتال، وبينما هم كذلك دعتهم بعض القبائل للصلح، فقبلوا به، وقسمت تركة قصي بن كلاب فيما بينهما، فأخذ حلف المطيبين السقاية والرفادة، أما حلف الأحلاف ولعقة الدم فأخذ الحجابة واللواء ودار الندوة.

المأمون وقاضي مكة

في عهد الخلافة العباسية، حدث خلاف على الحكم بين الأمين والمأمون، والذي انتهى لصالح الأخير، وهنا يحكي الطبري في كتابه «تاريخ الرسل والملوك»، أن المأمون عزل قاضي مكة محمد بن عبد الرحمن المخزومي، فحاول استمالة جنود طاهر بن الحسين، أحد قادة المأمون، فمنحهم المال وعطر لحاهم بالغالية (نوع من العطور) فسمي هؤلاء الجنود بـ«قواد الغالية».

زواج المأمون وبوران

اتفق المسعودي في مروج الذهب، وابن الأثير في الكامل، على أن زفاف المأمون لم يسبق له مثيل، فكانت كل المسرات فيه حاضرة، حيث زينت مدينة فم الصلح على أكمل وجه، خاصة قصر سهل بن الحسن، ولكن أكثر ما كان مميزًا في تلك الزينة والزخارف المبهرة، أنه تمت إضاءة جوانب القصر وقاعاته بالشموع المصنوعة بالعنبر والمسك، كما وضعت في قاعة الزفاف شمعة من العنبر، هذا بخلاف توزيع الهدايا والعطايا على الحاضرين، وآلاف الدراهم والدنانير ونوافج (أوعية المسك في الظبي) المسك وبيض العنبر على جميع الناس في المدينة، مما جعل حفل الزفاف من الحفلات المعدودة في عمر الدنيا.

يوم الطين

أورد ابن المقري التلمساني، في كتابه «نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب» حكاية اعتماد الرميكية التي أحبها وعشقها المعتمد بن عباد آخر ملوك بني عباد في الأندلس، فكان لا يرفض لها طلبًا، وذلك لحسنها، وظُرف حديثها، فيحكي المقري أنها ذات يوم رأت من شرفة القصر بعض الناس يمشون على الطين، فتمنت أن تفعل مثلهم، ولشدة حب المعتمد لها وخوفه على قدميها من الطين، فأمر العاملين في القصر بأن يحضروا مجموعة متنوعة من العطور والطيب ويخلطوها معًا وعجنها جيدًا في باحة القصر ثم صب ماء الورد عليها، لكي تمشي اعتماد على طين مصنوع من الطيب.

لكن رغم هذا كله، ذات يوم غضبت اعتماد منه، فقالت: ما رأيت منك خيرًا قط، فقال المعتمد: ولا يوم الطين؟ فتذكرته؛ فاستحت واعتذرت له.

قوافل الطيب

ازدهرت تجارة العطور، كغيرها من السلع مع اتساع رقعة الدولة الإسلامية، خاصة في عهد الدولة العباسية، التي شهدت حالة من الرواج التجاري سواء عبر الموانئ البحرية أو الطرق البرية، فكان المسك يأتي من الهند والصين عبر البحر، وكذلك العنبر، ثم يأخذه التجار إلى مصر والأندلس لبيعه (10)، فكانت بذلك العطور تلعب دور حلقة الوصل بين بغداد وأطراف العالم والمدن الخاضعة لها، كما كان يُقبل على شرائها أهل مدينة بغداد والمدن الأخرى، من الأسواق المخصصة لتجارة العطور، وكان يشرف على كل سوق عامل من قبل الدولة، يسمى بالمحتسب، للإشراف على حركة البيع والشراء، ومتابعة الموازين، والكشف عن أي حالة غش أو سرقة في السوق.

المراجع
  1. يحيي الجبوري، الزينة في الشعر الجاهلي، زينة الطيب والعطور، حوليات كلية الإنسانيات والعلوم الاجتماعية، جامعة قطر.
  2. هشام بن محمد الكلبي، كتاب مثالب العرب والعجم، دار الأندلس.
  3. أبو علي المرزوقي، كتاب الأزمنة والأمكنة، دار الكتب العلمية.
  4. سعيد الأفغاني، أسواق العرب في الجاهلية، دار الكتاب الإسلامي.
  5. سورة الأعراف، آية 31.
  6. النووي، صحيح مسلم بشرح النووي، مؤسسة قرطبة.
  7. ابن سعد، الطبقات الكبرى، دار الكتب العلمية.
  8. النويري، نهاية الأرب في فنون الأدب.
  9. ابن أبي يعقوب، كتاب البلدان.
  10. القلقشندي، صبح الأعشي.