تحظى الانتخابات الأمريكية دائمًا باهتمام عربيّ على مستويات متعدّدة، وينطبع هذا الاهتمام في الغالب بطابع الموقف العربيّ من السياسة الأمريكية عموما وفي المنطقة العربية خصوصا، ويترجم هذا الاهتمام نفسه عادة بميل عربيّ إلى المرشَح الذي يتبنّى خطابا أقلّ حماسة للموقف الإسرائيليّ وأقلّ نزوعًا للحلول العسكريّة في المنطقة. ومع أنّ سجل الرؤساء الديمقراطيين لا يخلو من حروب دمويّة، سواء في مناطق أخرى من العالم أو المنطقة العربيّة خصوصًا، إلا أن الانطباع العربي العام هو أن المرشحين الديمقراطيين أقرب إلى العرب، ولو بهامش ضيّق، من نظرائهم الجمهوريين.

غير أن الانتخابات الرئاسيّة الأمريكية المرتقبة في نوفمبر القادم تبدو جاذبة لاهتمام العرب لسببين متميزين، هما:أولًا: وجود مرشَّحَين تبدو مواقفهُما خارجة عن المألوف من المواقف الأمريكية الرسميّة، جمهوريِّها وديمقراطيِّيها على السواء، فيما يتعلّق بالعرب والمسلمين وقضاياهم والموقف منهم، هما المرشّح الديمقراطيّ بيرني ساندرز والمرشح الجمهوري دونالد ترامب.

ثانيًا: التوسيع الذي فرضه هذان المرشَّحان على الطيف المعتاد من المواقف في انتخابات الرئاسة الأمريكية؛ فبعد أن أصبح مألوفًا أن ينحصر السباق بين يمين الوسط ويسار الوسط، أي الاقتراب من الوسط عموما، قدّم ساندرز خطابا أكثر يسارية بكثير من المتوقَّع من مرشَّح رئاسيّ، فيما قدّم ترامب خطابًا يمينيًا متشدِّدا، لا يتردّد كثيرون في وصمه بالفاشية والعنصريّة. هذا التوسيع في طيف الآراء السياسية وافق زمن الربيع العربيّ وما طرحه من تحديات كبيرة فيما يتعلّق بمسار الدولة العربيّة والمجتمعات العربيّة، وما يدور في أذهان العرب وعلى ساحات مساجلاتهم المختلفة من آراء متباينة حول المجتمع المنشود والدولة المأمولة ومسارات النظر والعمل الممكنة.

لأول وهلة، يبدو ميل العرب إلى الديمقراطيين أمرًا لا يحتاج إلى كبيرِ جهد لتفسيره؛ لكننا سنُحاول في هذا المقال أن نُبرِز الخلفية التي يستندُ إليها الميل العربيّ تجاه الديمقراطيين، وأن نوضّح ما نراه التباسا كبيرا يقع فيه العربيّ عند تقويم القوى السياسية الفاعلة في الولايات المتحدة. نحاجج في هذا المقال أن هذا الالتباس ينشأ أساسًا بسبب غياب التمييز بين تقييم الفرقاء السياسيين في الولايات المتحدة بناء على مواقفهم من العرب وقضايا العرب، وبين تقييمهم بناء على مواقفهم من القضايا الفكرية والسياسية والاقتصادية التي تواجه المجتمع الأمريكي، وتواجه أيَّ مجتمع آخر بما في ذلك المجتمعات العربية، مع بعض التفاوت في حدّة القضايا والحلول المطروحة لها بين مجتمع وآخر بطبيعة الحال. وبناء على هذا التمييز الذي نراه ضروريًا، يُحاجج هذا المقال أن العرب وإن كانوا ميالين للديمقراطيين بسبب مواقفهم من العرب وقضاياهم، إلا أنّ ميل العرب لرؤى الديمقراطين الاجتماعية والسياسية والاقتصادية سيكون أمرًا مشكوكًا فيه –على أقل تقدير- فيما لو طُرِحَت هذه الرؤى في سياق عربي.

العرب، وإن كانوا ميالين للديمقراطيين بسبب مواقفهم من العرب، إلا أنّ ميل العرب لرؤى الديمقراطين الاجتماعية والسياسية والاقتصادية سيكون أمرًا مشكوكًا فيه.

ولكي يتّضح هذا التمييز، لنقارنْ في عجالة بين ما تميل إليه حديثًا مواقف الديمقراطيين والجمهوريين بإجمال من العرب والقضايا العربيّة. يبدو الديمقراطيون عموما أقلّ حماسة للتدخل العسكريّ المباشر، ويبدون بالتالي أكثر ميلًا للديبلوماسية، وبدا هذا واضحًا في موقف أوباما من نتائج حرب بوش على العراق وإنجازه لتسوية تاريخية مع إيران، وموقف ساندرز الذي يصب في الاتجاه نفسه. وبخصوص القضية الفلسطينية، فالجمهوريون يتبارون في تأييد إسرائيل وضمان أمنها وتفوقها العسكري النوعي والاستراتيجي على محيطها، ومع أن الديمقراطيين يؤكدون كذلك على أمن إسرائيل، صداقتها والحلف القويّ معها، إلا أنهم يرون ضرورة الضغط على إسرائيل لتحقيق تسوية عادلة، ويعارضون عموما الاعتراف بإسرائيل كـ «دولة يهودية» كما يطالب نتنياهو، وخرج إلى العلن خلاف أوباما مع نتنياهو بخصوص الاتفاق مع إيران، ولم يُلبِّ ساندرز الدعوة التقليدية لمرشحي الرئاسة الأمريكية لحضور مؤتمر «أيباك»، وأطلق تصريحات لافتة تدعو إسرائيل لإخلاء بعض المستوطنات في الضفة الغربية كما فعلت في غزة. ينبغي الاستدراك هنا بخصوص موقف كلينتون الذي يبدو أنه موقف «مؤسسة الحكم» التقليدي من هذه القضايا، الذي يُقارب هذه القضايا بعبارات معروفة ومحسوبة، من قبيل ضمان أمن إسرائيل، وضرورة التوصل لتسوية عادلة للصراع، ونبذ التشدّد والإرهاب في المنطقة، والتعاون مع المعتدلين، إلى آخره.

يُضاف إلى ما سبق موقفُ الديمقراطيين الأقلّ تشدّدا في قضايا العرب والمسلمين في أمريكا، والذي يفرّق عموما بين الإسلام والإرهاب، ويرى أن المسلمين يمكن أن يكونوا مواطنين صالحين في أمريكا، وأنهم جزء من جيشها وشرطتها ودفاعها المدني وأكاديمييها ورجال أعمالها، وأن الإسلام يمنح الطمأنينة لكثير من البشر الذين ينبذون الإرهاب، ولا يدعو علنًا إلى التمييز ضد العرب أو المسلمين في قضايا الفيزا والهجرة؛ في مقابل مواقف المرشحين الجمهوريين التي تبدو أقل تحفظًا في الربط بين الإسلام والإرهاب، وتدعو لرقابة متميزة على المسلمين في الولايات المتحدة، ولإجراءات أكثر تشددًا في منحهم التأشيرات والإقامة والجنسية.

لهذه الأسباب ولغيرها يميل العرب إلى الديمقراطيين عموما في هذه الانتخابات، وليس خافيا أن ثمّة ميلًا خاصًا إلى «بيرني ساندرز»، وهذا مفهوم. فمن المنطقيّ لمن يتابع انتخابات قوى عظمى، وهو يعلم أن سياستها تمسّه في كثير من المناحي، أن يميل إلى ما يقترب من مصالحه وإلى الطرف الذي يتبنّى سياسات أكثر توافقًا وأقل صدامًا معه، لكنّ هذا الميل يُترجم نفسه أحيانًا، على مستويات متنوعة، إلى تصوّرين غير دقيقين يحتاجان فحصًا متعمّقًا، هما:

1- تصوُّر كثيرٍ من العرب أنهم «يساريّون» بالفطرة أو بمقتضيات الضرورة. فإذا كانت أمريكا هي التمثيل الأصدق للرأسمالية اليمينية الليبيرالية، فمن الطبيعيّ أن يقف مناهضو أمريكا إلى يسارِها، أي أن يتبنّوا خطابًا مناهضًا للإمبريالية والحلول العسكريّة، ومطالبا بحقوق الطبقات الأفقر والأقليات، وداعيًا لاقتصاد أكثر عدالة وأقل تمركزًا حول مصالح الشركات الكبرى العابرة للقارات، ومُطالبًا بحلول عاجلة لمشكلة التغيّر المناخي الذي تتسبّب فيه الدول الصناعية أكثر من غيرها وتدفع ثمنه الأمم المستضعَفة أكثر من غيرها، وإلى غير ذلك من مواقف اليسار المعروفة.

2- تصوُّر كثير من العرب أن السياسات اليساريّة هي الأنجع لحلّ مشكلات المجتمعات العربية. فالخطاب الذي ينادي بالعدالة وحقوق الطبقات الأفقر وحقوق الأقليات يجد صدى عربيًّا عامًّا، باعتبار أننا شعوب مغلوبة مستضعفة ومُفقَرة ومحرومة من خيراتها ومواردها وعقول أبنائها لصالح الغرب وحلفائه السياسيين والاقتصاديين في دولِنا.

التصوران السابقان يعتريهما في نظرنا كثير من الخلط والالتباس، ويحتاج كلٌّ منهما مناقشة معمَّقة. نخصّصُ هذا المقال للأولى؛ أملًا في مناقشة الثانية في مناسبة أخرى.


هل «نحن» أميل إلى اليسار بالبداهة وبطبيعة الحال؟

الحقيقة أن تقسيم الجمهور العربيّ بمعايير اليمين واليسار أمر بالغ الصعوبة لأسباب متعددة؛ منها أن وصف المواقف باليمينية واليسارية أمر نسبيّ يختلف من مجتمع إلى آخر، بل يختلف حتى في المجتمع الواحد من حقبة إلى أخرى. فكثير من مطالبات ساندرز التي توصَف بأنها يساريّة أكثر من اللازم، كانت هي السائد والمتوافَق عليه في زمن دوايت أيزنهاور وما أُطلق عليه «العهد الجديد» أو The New Deal؛ وبالتالي فهذا التقسيم محفوف بالمخاطر سلفًا.

لكن عمومًا، فالجمهور العربي والمسلم سيقف موقفًا مقابلًا لساندرز في أكثر القضايا المتعلقة بالشأن الداخلي وإدارة الدولة. ولنذكر المواقف التالية لساندرز على سبيل المثال لا الحصر؛ وقد تعمّدنا إهمال موقفه من قضايا لا تحظى بشعبية في السياق العربيّ، من قبيل التغيّر المناخي وحيازة الأسلحة ودور أموال الشركات في الحياة السياسية وغيرها:

1- موقف مؤيِّد لحق المرأة في الإجهاض لأي سبب ومن دون سبب.

2- موقف معارض لعقوبة الإعدام كجزاء لأي جريمة.

3- اعتبار الإدمان مرضًا لا سلوكًا منحرفًا، والمطالبة بعدم تجريم الماريغوانا (الحشيش).

4- التأييد الكامل لزواج ذوي السلوك الجنسي المثلي.

5- المطالبة بمزيد من الضرائب على الأغنياء من أجل زيادة قدرة الدولة على تقديم الرعاية الصحية والإعانة الاجتماعية للفقراء ومن لا يمتلكون بيوتًا وغير القادرين على العمل.

6- المطالبة بمزيد من تدخّل الدولة في ضبط الاقتصاد وزيادة تنظيم السوق.

نزعم أن الجمهور العربيّ والمسلم سيقف موقفًا معارضًا لساندرز في القضايا الأربع الأولى عموما. ومن المهمّ ملاحظة أن هذا لن يقتصر على الإسلاميين –الذين يبدو وصفهم بـ «اليمينية المحافظة» أمرًا شبه مفروغ منه- بل سيتعدّاهم إلى قطاعات أخرى، منها اليمين الدولتي، الذي يمثّل قطاعات واسعة من الطبقة الوسطى والعليا ويساند تقليديًا النظم القائمة ويطالب باستمرار بحلول دولتية شديدة القسوة للقضايا المشار إليها. ونزعم أن معارضة مواقف ساندرز من هذه القضايا سيكون هو الموقف العام لعموم سكان الأرياف العرب الذين يغلب عليهم التديّن الشعبي والمحافظة الاجتماعية، وغياب موقف متبلور من السياسات الاقتصادية. يصعب العثور على مؤيّدين لساندرز في هذه المواقف من خارج الإطار اليساري المتحمّس.

أما النقطتان الخامسة والسادسة فالنقاش بشأنهما أشدّ وعورة. ذلك أننا نزعم أنّ مجتمعاتنا العربيّة لم تخض نقاشًا حقيقيًا حول قضايا العدالة الاجتماعية، والاختيار بين المسارات الاقتصادية المختلفة (اليسار/عدالة التوزيع/ضرائب تصاعدية/مزيد من الدولة، في مقابل اليمين/عدالة الفرص/ضرائب أقل/حدّ أدنى من تدخّل الدولة). ذلك أنّ هذه القضايا كانت تُناقش نقاشًا نظريًّا فحسب بين المثقفين، وإذا ما طُبِّق بعضُها فإن التطبيق كان دائمًا شكليًّا وبقوّة الدولة وبعيدًا عن أيّ حوار مجتمعي حقيقيّ وتدافع انتخابي وبرامجي يُؤدّي لتبلور مواقف واعية عند الجمهور، وناشئة عن تجربة واختبار.

فعلى المستوى النظريّ، يلتقي الإسلاميون واليساريّون في التأكيد على ضرورة «العدالة الاجتماعية» والتكافل الاجتماعي، ويستخدم كلّ فريق لغة متميّزة مستمدّة من سياقه في توكيد هذه المعاني؛ لكنّنا نحاجج أن تطبيق نظام عدالة اجتماعية، على الطريقة الاشتراكية الناصريّة، أو حتى الديمقراطية الاجتماعية في شمال أوروبا والتي يدعو لها ساندرز، لن يكون أمرًا بلا عوائق على جبهات الإسلاميين الحركيين والتراثيين، والفئات ذات التديّن الشعبيّ، وقطاع واسع من الطبقة الوسطى متمثّل في التجار وأصحاب المشاريع الصغيرة ومُلَّاك العقارات والموظفين المرموقين، فضلا عن معظم «القطاع الخاص الجديد» المتمثّل في العاملين في الإعلام والبنوك الخاصة وفروع وامتدادات الشركات العالمية الكبيرة. وأحد الأسباب المهمّة هو أن كثيرًا من المجتمعات العربيّة لم تعرف نموذج الدولة الكفؤة والنشطة في جمع الضرائب، ولم يضطرّ كثير من سكّانها لمعايشة ما تعنيه دولة تفرض ضرائب مرتفعة وتتعامل بحزم شديد مع التخلف والاحتيال الضريبي كالولايات المتحدّة. العدالة الاجتماعية والتكافل الاجتماعي في أذهان كثير من الفئات العربيّة يقتصر على العمل الخيري الطوعي، وإخراج الزكاة والصدقة، لكنّه لا يمتدّ إلى ضرائب تصل إلى أكثر من خمسين في المئة من الدخل كما هو الحال في الولايات المتحدّة.

افتراض أنّ انتشار خطاب «العدالة الاجتماعية» الإسلامي سيؤدّي تلقائيًا إلى التعاطف مع سياسات اقتصادية يساريّة نراه افتراضًا متسرّعًا.

وحتى الفئات التي يُمكن توقُّع تأييدها لسياسات اقتصادية يسارية، من قبيل الفلاحين والعمّال وأصحاب المهن الصغيرة واليدوية وسكان الأحياء الفقيرة في المدن الكبيرة، سيخسرُهم مرشَّح نظير لساندرز في السياق العربيّ بسبب مواقفه غير المحافظة في الجانب الاجتماعي والتشريعي القانوني.

أمّا افتراض أنّ انتشار خطاب «العدالة الاجتماعية» الإسلامي سيؤدّي تلقائيًا إلى التعاطف مع سياسات اقتصادية يساريّة كما تبلورت في الديمقراطيات الاجتماعية أو كما ينظِّر لها ساندرز فنراه افتراضًا متسرّعًا. فالإسلام يتخّذ مبدئيًّا موقفًا مؤكِّدًا للتفاوت المادّي والاجتماعي في المجتمع. ومع أن الحثّ على التكافل وفعل الخير ومحاربة الفقر والعوز قضايا مركزية في الخطاب والتصور الإسلاميين للمجتمع، إلا أنّ الإسلام يؤكِّد أن التفاوت المادي والاجتماعي سنة بشريّة لا تتخلَّف. يُضاف إلى ذلك قضيّة شديدة الأهمية هي أن شرعية الدولة الحديثة ما تزال أمرًا لم تسلِّم به قطاعات واسعة من الإسلاميين، وتغفل عن تبعاته –أو لا تفكّر فيه أصلا- كثير من الفئات الشعبيّة. فالزكاة، باعتبارها أهم مظاهر التكافل الاجتماعي وتوزيع الثروة في مجتمع مسلم، ما تزال تُدار داخل المجتمع وبعيدًا عن الدولة، ويستعين الجمهور في تأديتها بلجان أهلية غير حكومية في أحسن الأحوال، وإذا ما قررت الدولة الاضطلاع بهذا الدور فلن يمرّ هذا من دون نقاش حادّ.

وفي المقابل، لم تشهد المجتمعات العربية تجربة ليبيرالية حقيقية في دولة ما بعد الاستعمار، وموقف الجمهور العربيّ من الليبيرالية تحدَّد عموما بناء على تفاعلين مشوَّهين مع الليبرالية، هما:

1- الليبرالية باعتبارها الدعوة للتحرر الاجتماعي والجنسيّ، أي باعتبارها دعوة «حريات خاصّة» فحسب، مع حضور خجول لمضامينها القانونية، أي فكرة «الحقّ» بمعناها القانوني، ومع غياب تامّ لمضمونها السياسي والاقتصادي. وهذا النمط من تمثّل الليبرالية هو الشائع في الخليج؛ السعودية خصوصًا.

2- الليبرالية باعتبارها النزوع الغربيّ للهيمنة الاقتصادية من خلال الشركات الكبرى والوكلاء المحليّين من رجال أعمال ومن موظفين كبار في الدولة يديرون سياستها الاقتصاديّة، من قبيل جماعة جمال مبارك في مصر وباسم عوض الله في الأردن وسلام فياض في فلسطين. وهذا النمط من الليبيرالية يمرّ بمرحلتين من التشويه، أولاهما هو كون الليبيرالية قرارًا مفروضًا من الخارج لمصلحة الغرب ووكلائه، لا باعتباره نمطًا من العيش وجوابًا على أسئلة سياسية واقتصادية يمكن أن تتبناها مجتمعاتنا كليًّا أو جزئيًّا وتخوض معها تجربة اختبار خاصة. وثانيهما هو أن هذا النمط من الليبيرالية لم يكن إلا تكريسًا لهيمنة المتنفّذِّين والمستحوذين على السلطة والثروة، فلم تشتمل هذه الليبيرالية مثلا على حرية رأس المال الخاص والمشاريع الصغيرة –التي تحاربُها الدولة العربية بالرشاوى الباهظة والقوانين المتخلفة وشراء الولاء السياسيّ- ولم تشتمل على حريّة سياسية أو فكرية أو اجتماعية من أيّ نوع، بل ظلّت السلطة متغوّلة ومتنفّذة وخانقة لأي حريات، وظلّت السلطة كذلك مصدرًا للربح والإثراء من خلال الفساد وارتباط حرية رأس المال بعلاقة جيدة مع السلطات وولاء تام لها، وهو ما يتناقض جذريًّا مع الليبرالية التي تدعو إلى «دولة أقلّ» في أكثر ما يتعلّق بالشأن الداخليّ، وتحرير رأس المال من هيمنة الدولة.

وكمثال شديد المفارقة على النقطة الأخيرة، يتعامل كثيرون مع الفئات المتنفّذة في نظام مثل النظام المصريّ الحالي باعتبارهم يمثّلون «برجوازية قذرة» أو «وكلاء محلّيين للغرب الرأسماليّ الليبيرالي»، في حين أنّ كثيرًا من هؤلاء المتنفذين ضباطٌ سابقون وحاليون وقضاة وموظفون كبار أثْرَوا من خلال موقعهم في النّظام الذي قامت شرعيّتُه أساسا على عدائه للإقطاع وليبرالية العهد الملكي وإقطاعِها!

بالتالي، نعتقد أنّ افتراض «هوى يساريّ» من أيّ نوع في المجتمعات العربيّة هو أمرٌ متسرّع، وهو افتراض نراه نتيجة غير منطقيّة للميل المنطقيّ لدى العرب إلى الظواهر اليساريّة في الغرب، أمّا اقتناع العرب بسياسات يساريّة على أيّ صعيد فيظلّ أمرًا مشكوكًا فيه، وقائمًا على تشابهات شكلية في الشعارات، دون الاستناد إلى تجربة تاريخيّة أو اختبار واقعيّ.