في نهاية الستينيات أجرت مجلة Mideast الأمريكية حوارًا عن الصراع العربي-الإسرائيلي مع المؤرخ وفيلسوف الحضارة الإنجليزي المرموق «أرنولد توينبي»، يمكن تلخيصه بجملة:

كان على المرء أن يعطي اليهود أرض الراين.

كما عنونت بها مجلة «دير شبيجل» الألمانية مقالًا حول الموضوع، نُشر بتاريخ 17 مارس/أذار 1969. وأرض الراين هي منطقة جغرافية واسعة تطل على نهر الراين وتشمل جزءًا كبيرًا من غرب ألمانيا، وتمتد غربًا حتى حدود بلجيكا وفرنسا ولوكسمبرج وهولندا.

يبدأ توينبي حواره بإسناد ذنب اضطهاد اليهود إلى الغرب عمومًا وألمانيا خصوصًا، ويؤكد أنَّ حالهم في البلاد التي كان للإسلام فيها السيادة – كالدول العربية والأندلس – كان أفضل بكثير، ولذلك يرى من الظلم أن يتم تهجير 900 ألف فلسطيني بغير حق من أرض أصبحت عربية لأنهم سادوها منذ أن فتحها المسلمون في القرن السابع الميلادي، مما ترتب على ذلك ضياع حق اليهود في أن يعودوا مواطنين نظاميين في هذه الأرض بعد أن غابوا عنها حوالي 1900 سنة منذ سبيهم الأخير على يد الرومان في النصف الثاني من القرن الأول الميلادي.

ينتقل توينبي إلى الحديث باختصار عن معاناة اليهود في أوروبا، والتي انتهت بمحاولة النازيين إبادتهم، ويُرتِّب على ذلك حقهم في دولة خاصة بهم، ولا أدري لماذا لم يُطالب الغرب مثلًا باحتوائهم تأسيًا بمعاملة العرب لهم، وهل يحق لكل مجموعة عرقية تعاني من العنصرية في مكان ما أن تُؤسِّس دولة خاصة بها؟

وبعد أن يعترف بأن اليهود منذ مطلع القرن العشرين حتى عام 1948 لم يملكوا أكثر من حوالي 10% من الأراضي الفلسطينية التي لا يزال ينعتها بـ «العربية»، يقول إنه رغم ذلك ثمة أسباب دينية تُجيز لليهودي أن يملك منزله الخاص في منطقة يهوذا (المنطقة الجبلية في جنوب فلسطين) بشرط موافقة العرب، وعلى ألا تفوق أملاك اليهود بها أملاكهم.

توينبي يتحدث عن يهوذا التاريخية التي دُمرت قبل أكثر من 1900 عام بعد أن نعت الأرض بأكملها بـ «العربية» في مطلع الحوار، والجدير بالذكر أنه ليس ثمة دليل أركيولوجي يدل على الوجود التاريخي لمملكتي يهوذا والسامرة.

وكي يمهد الطريق لنتيجة يبدو أنها كانت مسبقة في ذهنه، والتي لم تكن هذه المقدمة اللطيفة سوى تمهيد لها، فهو يُجيز لليهود امتلاك جزء من الأرض لأسباب دينية راجعة بالتأكيد إلى التوراة. ولكنه لو طبَّق المنهج نفسه على الفلسطينيين الذين يُبدي تعاطفه معهم، فسيجد في نصوص الدين الإسلامي -بما أنًّه اعتبر النصوص الدينية حجة في الأمر – وتاريخه ما قد يُفهَم منه أحقية المسلمين في سيادة هذه الأرض دون منع اليهود أو المسيحيين من زيارة أماكنهم المقدسة في أي وقت.

توينبي يؤمن بفكرة «النقاء العرقي» لليهود

الغريب أن فيلسوفًا للتاريخ نادرًا في حجم توينبي يفوته في حوار يتناول موضوعًا تاريخيًّا مهمًّا كهذا أن يتساءل: هل يهود اليوم الذين غابوا عن تلك الأرض ما يقرب من ألفي عام، كما ذكر هو نفسه، وانتشروا في جميع أرجاء المعمورة فاختلطوا بجميع أعراق الأرض عن طريق النسب والمصاهرة، هم أنفسهم أحفاد هؤلاء الذي هُجِّروا من ديارهم؟

كلا لم يفعل، وما يعنيه ذلك من أنه لا محالة يؤمن بفكرة النقاء العرقي لشعب إسرائيل، وهي فكرة مردودة بأدلة أنثروبولوجية تاريخية، أثبتها علماء، بعضهم يهود بالفعل، تُفيد أن اليهود كانوا أكثر الناس تبشيرًا – رغم أن اليهودية ديانة غير تبشيرية بزعمهم – في العصر الوسيط؛ لأن ديانتهم كانت معرضة للانقراض نظرًا لمحاولات إبادتهم العديدة وتحول بعضهم إلى المسيحية أو الإسلام، فأثبت بعض العلماء اليهود – منهم العالم المجري «آرثر كوستلر» في كتابه «السبط الثالث عشر» – أن إمبراطورية الخزر التترية التي قامت على ضفاف بحر قزوين في منطقة القوقاز تهوَّد بعضها أو جميعها في القرن الثامن الميلادي، فأصبح معظم اليهود تتارين قوقازيين ولم يعودوا ساميين، وبالتالي يسقط حقهم في العودة.

هذا إذا سلمنا أصلًا أنه يمكن لمجموعة عرقية تركت وطنها لأي سبب كان لمدة 1900 عام أن تعود إليه وتطالب بحقها فيه من جديد، لا سيما إذا كانت الأرض قد أصبحت ملكًا لشعب آخر يضرب بجذوره فيها. النظرية نفسها تناولها عالم الجغرافيا المصري «جمال حمدان» قبل كوستلر في كتابه «اليهود: أنثروبولوجيا»، وهو الكتاب الجدير بالقراءة في هذا الصدد.

الحل المُعضِل

بعد أن يُمهِّد توينبي الطريق بهذه المقدمة يمضي إلى حقيقة مُرَّة، على العرب أن يتقبلوها الآن، ألا وهي هزيمتهم في ثلاث حروب متتالية، والتي أدت بدورها إلى حقيقتين لا غبار عليهما في نظره: قيام دولة إسرائيل، ووجود الشعب اليهودي.

ثم يقترح على إسرائيل أن تنسحب من الأراضي المحتلة في حرب 1967 إذا كانت حقًّا تريد سلامًا مع العرب، وينصح العرب أيضًا بأن يعترفوا بها كي يعيش الجميع في سلام، مما قد يُفهم منه قيام دولة فلسطينية على حدود 1967، لكن توينبي يقترح أن يعيش الفلسطينيون هناك بوصفهم مواطنين إسرائيليين. ولا يفوته أن يوصي إسرائيل بألَّا تعتبرهم مواطنين من الدرجة الثانية بشرط ألَّا يكونوا «طابورًا خامسًا» داخل الدولة اليهودية.

ويتساءل الرجل الذي أجهد نفسه من أجل السلام في حيرة: هل يقبل اللاجئ الفلسطيني أن يعيش في إسرائيل تحت حكم اليهود؟

فيكتشف أن الإجابة «لا».

يُذكرني قول توينبي هنا بقولين لبنيامين نتنياهو، أحدهما في مؤتمر الصهيونية العالمية عام 2015 وهو:

لم يكن في نية هتلر التخلص من اليهود، بل تهجيرهم فقط، لكن مفتي القدس الملعون الحاج «أمين الحسيني» وسوس له قائلًا: إذا هجَّرتهم فسيقيمون وطنًا في أرض فلسطين. أبِدهم كي ترتاح البشرية منهم، فانصاع لنصيحته هتلر المطيع!

والثاني مفاده أنه لم يكن هناك فلسطين أصلًا، بل إن هؤلاء لاجئون من الأردن والدول العربية المجاورة، استوطنوا هذه الأرض فترة من الزمان، وكأنه يريد أن يشكرهم على الحفاظ على أرض شعب إسرائيل المختار إلى أن يعود إليها بعد رحلته القصيرة التي دامت تسعة عشر قرنًا فقط. إلى هذين الادعاءين يُعزَى أحد مبررات قيام الدولة الصهيونية في فلسطين وهو «أرض بلا شعب لشعب بلا أرض».

توينبي يُطالِب الغرب المذنب بالتدخل أخيرًا لحل القضية التي أعيت البشرية، على نحو يُرضي الفلسطينيين المجني عليهم، بل العرب جميعهم، لكنه لا ينسى أن يضع ضمن الحل شرطًا يجعل منه معضلة وليس حلًّا، وهو ألَّا يُهدَد وجود إسرائيل ولا أمنها. إسرائيل التي كان يبدو أنه يطالب الغرب في أول حواره بأن يعطي ساكنيها أرض الراين بدلًا من أرض العرب.

إن توينبي يتخيَّل كل شيء ما عدا قيام دولة فلسطينية ولو حتى على حدود 1967؛ لأن اليهود الذين أصبحوا بقدرة قادر أصحاب الأرض لن يقبلوا تلك الدولة. فما الحل إذن؟

أسس صفقة القرن على لسان توينبي

لأن الفلسطينيين لا يعترفون بإسرائيل، فمن حق إسرائيل أيضًا ألا تعترف بهم. فهل يمكن استبدال الأرض بأرض أخرى يُقام فيها وطن للفلسطينيين؟ هل يمكن أن نُحيي هوية ميتة عن طريق إبادة هوية أخرى بالقول والفعل؟

في رأي توينبي يمكن ذلك.

حاول توينبي إغراء الفلسطينيين بمكان آخر من خلال سرد إمكانيات المنطقة المقترحة، على طريقة تشويق الأطفال الصغار بلعبة جديدة اشتراها الوالد وهو في طريق العودة من العمل: الجزء السوري الواقع على شمال غرب نهر الفرات هو الحل. لماذا يا توينبي؟ لأن منبع الفرات في الجنة والمنطقة غنية بمواردها المائية والزراعية، تقع بين دولتين من أقدم دول العالم وأعرقها سوريا والعراق، هلموا أيها الفلسطينيون المُشردون فتلك أرض تكون لكم بمباركة الرب!

ولا يشك مؤرخنا في أن العالم، إذا قَبِل الفلسطينيون هذا العرض المغري، لن يتوانى للحظة عن ضخ الأموال اللازمة لقيام الدولة الجديدة وبناء المدارس عالية الجودة التي تُناسب العقل الفلسطيني الموهوب الفذ كما يصفه.

ويُعوِّل فيلسوف الحضارة – الذي خط المشيب فوديه وتراكمت الخبرات في عقله حتى غدا يتوقع الأمور قبل حدوثها – على قبول الفلسطينيين لهذا العرض بسبب خسارة العرب في ثلاث حروب متتالية انتهت بـ «ملحمت شيشيت هياميم» أو حرب الأيام الست كما يُسميها الغرب، والتي لم تعرف مصر في تاريخها الضارب في القدم مثيلًا لها. ويُعوِّل توينبي أيضًا على أن الفلسطيني المُهجَّر لم ينل من عناده طيلة 20 عامًا سوى التشرد.

 فهل هناك اختلاف، من حيث المبدأ، بين فكرة توينبي ذات الخمسين عامًا وفكرة دونالد ترامب (صفقة القرن) التي طرحها في عهدته البائدة؟ الفكرة قديمة حديثة: إحياء هُوية عن طريق سحق هُوية أخرى بطريقة الإحلال والتهجير.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.