يتحرك عبدل ضابط الجيش الفرنسي من أصل جزائري بينما تتقهقر الكاميرا ملاحقة إياه بشكل عكسي، تبدو عليه ملامح مختلطة من غضب وتوتر ومحاولة لضبط النفس، يخرج إلى ساحة مكتظة بالبشر، يقف ليعلن مقتل إدير أخيه الأصغر، قائلًا إن عناصر الشرطة المتورطة في الحادثة العنيفة لم يستدل عليها، لكن جاري البحث عنهم من أجل تحقيق العدالة، يستكمل الخطاب رجل آخر، يروي تاريخ العائلة الجزائرية في خدمة الجمهورية منذ خدمة جدهم في الجزائر، ضمن الجزائريين الذين عاونوا الجيش الفرنسي في احتلاله الجزائر، وبينما يتكلم تتحرك الكاميرا في حركة متصلة مذهلة لتصل إلى شاب آخر هو كريم، الأخ الذي أصبح الأصغر بمقتل إدير، يقف وسط مجموعة من الشباب الهائج الملثم، تنظر الكاميرا إلى الأسفل، يشعلون زجاجة مولوتوف ويرمونها على مدخل المخفر، ليبدأ كريم ورفاقه في اقتحام المخفر وتخريبه وسرقة أسلحه، وتتبعهم الكاميرا حتى خروجهم من المخفر بسيارة في وسط الشوارع، محتفلين بما حدث، ومعلنين بداية تنفيذ مخطط عدالة «بدائية»، وصولًا إلى مجمعهم السكني الضخم «أثينا». قد تتساءل لم كُتبت الفقرة الفائتة دون استخدام نقطة واحدة، لكن ذلك الأسلوب رأيته الأنسب لتشبيه الكتابة بأسلوب المخرج رومان جافراس الذي يستخدم مشاهد طويلة متصلة تشبه جملًا بروستية– نسبة إلى مارسيل بروست– طويلة، تضعك في وسط الأحداث دون انقطاع، كأنك تعاصرها، دون فرصة لالتقاط الأنفاس.

حرية، إخاء، مساواة: ماذا تعني هذه الكلمات؟

يبدأ السيناريو من بداية الفصل الثاني للحبكة، بعد نقطة الحدث المُحفز، ويرمينا دون مقدمات إلى الأحداث ذاتها، ويترك لنا تخمين السياق من تفاصيل صغيرة على مدار الفيلم. شارك في كتابة الفيلم لادج لي الحائز على جائزة لجنة التحكيم من مهرجان كان عام 2019 عن فيلمه «البؤساء-Les Misérables»، وإذا شاهدت الأخير سيمكنك ملاحظة أن «أثينا-Athena» يبدأ من نقطة نهاية الأخير، ليمنح المشاهد منظورًا ممتدًا عن العنف العرقي المتصاعد في فرنسا بين اليمين السياسي والفرنسيين من أصول غير فرنسية، الذين يأبى بعض من أبناء المجتمع الفرنسي الاعتراف بفرنسيتهم. رغم أن الحبكة تبدأ من نقطة مقتل الأخ، فإن الحكاية تعود لسنوات طويلة قبل ذلك، أو بالتحديد في عام 1830، حين احتلت فرنسا الجزائر احتلالًا دمويًا دام 132 عامًا، ونتج عنه مليون ونصف شهيد جزائري سُفكت دماؤهم في سبيل تحرير الجزائر.

إلى جانب تلك النتائج الدموية، فقد ترتب على ذلك الاحتلال هجرة أجيال كثيرة، ممن تعاونوا مع الفرنسيين أو ممن وجدوا معرفتهم الجيدة بالفرنسية فرصة للعمل في مكان أفضل. عاشت تلك الأجيال تغريبًا كبيرًا واضطهادًا يمكن رؤيته في بعض الأفلام والروايات ومنها فيلم لينا سويلم (جزائرهم) و (إخوتنا Nos frangins) لرشيد بوشارب وغيرها من أعمال السينما الفرنسية المعاصرة. رغم ذلك، فقد ظهرت أجيال جديدة من أبناء المهاجرين، الجزائريين وغيرهم من أبناء الدول التي احتلتها فرنسا، أجيال لم تر إلا فرنسا، ولا تعرف من لغتها الأصلية إلا قلة من الكلمات، وتعتبر أنفسها فرنسية بالكامل.

في الفيلم ثلاثة شخصيات من ذلك الجيل، الأخ الأكبر مختار تاجر المخدرات، الذي يسير أموره بطرق ملتوية، ولا يهتم بكونه فرنسيًا أم لا. على الجانب الآخر هناك عبدل، الذي يبدو مؤمنًا بفرنسيته وبمبادئ الجمهورية الفرنسية أكثر من ارتباطه بالعالم العربي، وأخيرًا هناك كريم الذي يقود جيشًا من أبناء مجمعه السكني للاصطدام بالشرطة من أجل ضبط قتلة أخيه ومحاسبتهم. المثير للاهتمام هنا، هو أن كريم، هو في الحقيقة أقل الإخوة عربية، وأبعدهم عن حكايات الأسرة والعائلة عن الوطن، لكنه أكثرهم حماسة للثأر، حماسة مبنية ربما على تربيه هو الآخر على مبادئ الجمهورية، لكن لكل من الإخوة تفسيره لما تعنيه تلك المبادئ. على الجانب الآخر، هناك الضابط الفرنسي في قوات مكافحة الشغب، الخائف للغاية من عمله، والذي يظهر المخرج مدى رهافته إثر تركه طلاء أصابعه الذي صنعته ابنته الصغيرة له، ربما يمثل هذا الضابط شريحة من المجتمع الفرنسي أيضًا، لا تهتم بالصراع، وتقف فيه موقف الحياد، لكن وقت اشتعال الأحداث، الكل متورط بإرادته أم من دون.

مشروع سكني في الضواحي أم حصن تاريخي؟

إلى جانب الشخصيات الأساسية، هناك بقية المجتمعات التي تسكن المجمع، ومنها المجتمع الإسلامي بما يحويه من مسلمين مسالمين ومتطرفين، ومجتمع تجار المخدرات، والشباب الأصغر الثائر، وهؤلاء الذين يحاولون النجاة وعيش حياة هادئة في وسط كل هذا، من فرنسيين من أصول فرنسية وغير، دفعهم الفقر لسكن المجمع.

المجمعات السكنية هي عنصر مهم في قلب الحكاية، مشاريع إسكان متأثرة بنمط عمارة سوفيتيي، بُنيت لتأوي الطبقة العاملة في البداية، ثم تحولت مع تحلل الصناعة في العاصمة الفرنسية لتكون مأوى للمهاجرين، وتحولت في ما بعد إلى شبه جزر منعزلة، تحوي مجتمعات لها طابعها الخاص، يتشكل بمزيج ما بين الثقافة الفرنسية والثقافات الأصلية لساكني المجمع، ورغم أنها قد شاركت بشكل ما في مشهد الجريمة والعنف فإنها أصبحت أيضًا مصدرًا لفنانين جدد أو لحكايات تروى.

يمكن رؤية هذا في «جاجارين-Gagarine» الذي يحكي قصة واقعية سحرية عن شاب متعلق بشدة بمجمعه السكني ويحوله إلى ما يشبه سفينة فضاء، أو في «بؤساء-Les Misérables» لادج لي. صور «أثينا-Athena» في مقاطعة إيسون في حي إيفري كوركورون، جنوب العاصمة الفرنسية باريس، هناك أنتج المجمع السكني الحقيقي نجوم راب فرنسيين صاعدين وبينهم نيسكا وكوبا لاد، ولكن في الفيلم حوله جافراس إلى مجمع يعرف باسم أثينا.

يبدو ذلك المجمع، الذي تدور به غالبية أحداث الفيلم، بعد أن يجهزه كريم ورفاقه من ساكني المجمع الشباب الغاضبين، كحصن منيع يقف أمام قوات الشرطة الفرنسية التي تسعى لوقف ذلك الشغب. شكل المجمع المغلق بمتاريس وثائريه المسلحين، إضافة إلى اسم الفيلم، يُشَبِه تلك الأحداث بملحمة، المجتمع المقهور بالداخل يحاول حماية نفسه والظفر بحقه في عدالة بدائية بعد سنوات من العنف والتهميش الممنهج.

«نتفليكس» وكان، صناعة السينما أم الأفلام؟

الأسلوب الفني للفيلم يصور ما يحدث كملحمة تاريخية، يؤسلب العنف السينمائي، ويصوره بشكل مثير أقرب لأفلام الحركة. الملاحظة الأهم هي حركة الكاميرا المتصلة والمشاهد الطويلة، وسواء صُورت تلك اللقطات مرة واحدة أو تم قطعها قطعات خفية، فإنها لقطات مشهدية طويلة، تمنح ديناميكية مذهلة مع الحركة المزدوجة للكاميرا والمجموعات الكبيرة من الممثلين، تجعلك ببساطة مشاركًا بدلًا أن تجعلك متأملًا يراقب من بعيد، كما تمنحك إحساسًا قريبًا من زمن الأحداث التي تدور في أقل من 24 ساعة.

على الجانب الآخر من التكوين البصري، هناك لقطات مكونة بشكل أكثر نظامية، وبخاصة مشهد اقتحام قوات فض الشغب للمجمع، الذي يحول ذلك الحدث الذي ينطلق من نقطة واقعية، إلى ما يشبه عساكر جيش يحاولون اقتحام حصن تاريخي. ما يزيد من ملحمية الفيلم هو استخدام موسيقى تمزج بين الراب وموسيقى الهيب هوب، مستوحاة من دي جي مهدي، الصديق الراحل للمخرج، في لقطات الغضب والثورة، ونقيضها من الموسيقى الأوبرالية المهيبة التي تفخم من لحظات المأساة الإغريقية التي صنعها جافراس.

الملاحظة الأخيرة لا تتعلق بأسلوب الفيلم، لكن بإنتاجه وسياق ذلك الإنتاج، لكنها ملاحظة لا يمكن تجاهلها بالتأكيد، إذ إنها تتعلق بالجهة منتجة وعارضة الفيلم «نتفليكس». تعود المنصة في نهاية العام ببعض من الأعمال السينمائية المتميزة، التي شارك أغلبها في مهرجان فينيسيا، إثر استمرار الخلاف بين عملاق البث الإلكتروني ومهرجان كان، إذ يشترط الأخير أن تحظى الأفلام التي يعرضها المهرجان بتوزيع تجاري في قاعات العرض الفرنسية، ذلك الخلاف الذي استمر، منح المساحة لفينيسيا لقنص بعض من أعمال العام الهامة وبينها «أثينا-Athena» و«شقراء-Blonde» لأندرو دومينيك و«باردو-Bardo» للمخرج المكسيكي أليخاندرو جونزاليس إيناريتو.

عند مشاهدتك «أثينا Athena»، قد تتمنى لو حظي بعرض في قاعة سينمائية كبيرة تمنح الجهد التقني المبذول فيه حقه، وهو ما يجعلك تنحاز بعض الشيء إلى رؤية مهرجان كان، إلا أنك تتذكر أنه بفضل خوارزميات المنصة الشهيرة، فقد أتيح للعديد من المخرجين المهمين تنفيذ رؤيتهم الفنية بميزانيات كبيرة نسبيًا لأفلام فنية وبينها «الأيرلندي-The Irishman» لمارتن سكورسيزي و«روما-Roma» لألفونسو كوارون والفيلم محل المناقشة هنا، ما يجعلك أيضًا ترى أن المنصة تسهم بالفعل في تشجيع صناعة الأفلام، لكن ربما ليس صناعة السينما.

يُشرِح أثينا أزمة من أزمات المجتمع الفرنسي المعاصر، يبالغ في تخيل عواقب ما يحدث الآن في ذلك المجتمع، من صعود قوي لليمين، الذي كاد يفوز بالانتخابات الأخيرة، الذي يعتمد في خطابه على كراهية المهاجرين وتحميلهم أزمات اقتصادية تشهدها البلاد. يستخدم الفيلم أسلوبًا خاصًا، يجعله يبدو فيلمًا تاريخيًا، ورغم المبالغات المستخدمة في الفيلم لأغراض الدراما، فإنك قد تتساءل في النهاية، هل يمكن أن يحدث ذلك فعلًا؟ ربما نعم ربما لا، لكن الفيلم يتصور السيناريو الأسوأ إلى ما يمكن أن تؤول إليه الحكاية، بخاصة مع حالة النسيان الجماعي الضخم لما فعلته الفاشية في أوروبا منذ أقل من قرن.