على مدار رحلته الجهادية التي امتدت لنحو 56 عامًا، تميز أيمن الظواهري، أمير تنظيم القاعدة الذي قُتل في غارة أمريكية على الحي الدبلوماسي بالعاصمة الأفغانية كابل قبل أيام،على أقرانه الجهاديين بكثرة ظهوره في الإصدرات الصوتية والمرئية لرثاء قادة وكوادر التنظيم، ولم يرتبط هذا الظهور المتكرر  سوى بالموت والفقد والخسارة، التي لطالما رافقت مسيرته  المثيرة للجدل.

بيد أن تلك المراثي تصلح لتكون تأريخًا غير رسمي لرحلة أيمن الظواهري الجهادية، التي بدأها عام 1966، بتأسيس «خلية المعادي» إحدى خلايا تنظيم الجهاد المصري، وفق ما رواه في كتابه الشهير «فرسان تحت راية النبي»، الذي استهله للمفارقة بإيراد قصة ورثاء لزميله السابق في تنظيم الجهاد يحيى هاشم، الذي انضم لمجموعة الظواهري عام 1967، وقُتل في اشتباك مع قوات الأمن عام 1974 بعد محاولته إطلاق شرارة حرب عصابات داخل مصر انطلاقًا من صحراء المنيا.

واتسمت خطابات الظواهري الرثائية بأنها أتت في مراحل متفرقة، وعبرت كل منها عن واقع وحال تنظيم القاعدة، في الفترة التي نُشرت فيها، ولعل أبرز تلك الخطابات كان رثاؤه لزعيم القاعدة المؤسس أسامة بن لادن، في يوليو/ تموز عام 2011، وهو نفس الخطاب الذي أُعلن فيه رسميًا تولي أيمن الظواهري، إمارة التنظيم، والتي ظل يشغلها لمدة 11 عامًا أخرى، حتى مقتله.

رثاء أسامة بن لادن أم الإعلان عن تحول القاعدة؟

وتضمن خطاب أيمن الظواهري لرثاء أسامة بن لادن اعترافًا ضمنيًا نادرًا بفشل مشروع القاعدة القتالي، فبعد أن حاجج التنظيم لفترة طويلة أن خطته الإستراتيجية تبدأ باستدراج الولايات المتحدة إلى حروب طويلة تستنزفها ويتم خلال تلك الحروب الوصول إلى حالة توازن الرعب ثم القضاء على المارد الأمريكي- وفق تعبيرهم- كما حصل مع الاتحاد السوفيتي السابق، خرج الأمير الثاني للقاعدة ليعلن أن الانتصار الحقيقي على أمريكا هو كشف زيف إدعاءتها عن حقوق الإنسان والحريات، مستشهدًا بواقعة إلقاء جثة أسامة بن لادن في بحر العرب التي عدّها دليلًا على أن أمريكا لا تعرف شرف الخصومة، على حد تعبيره.

واعتبر الظواهري أن هدف تنظيم القاعدة الرئيس ليس محاربة الولايات المتحدة بمفرده، بل تحريض الأمة العربية والإسلامية على الانتفاض ضد أمريكا، معتبرًا أن ثورات الربيع العربي هي إحدى الضربات القاصمة لأمريكا تمامًا كهجمات 11 سبتمبر/ أيلول 2001.

على أن رثاء أسامة بن لادن، أكد مناقضة الأمير الثاني للقاعدة لذاته، فأيمن الظواهري الذي اعتبر في رثائه لمصطفى أبو اليزيد، الرجل الثالث في تنظيم القاعدة سابقًا، عام 2010، أن التغيير لن يتم عبر الحراك السياسي في مصر وأنه لن يأتي بجهود محمد البرادعي، السياسي المصري البارز، أو خوض الانتخابات أو الصياح في المظاهرات، صار  يشيد، بعد أقل من عام بالثورات العربية، ويعتبرها انتصارًا وامتدادًا لمشروع القاعدة الهادف إلى هزيمة الولايات المتحدة الأمريكية، على حد قوله.

لن يأتي التغيير عبر البرادعي ولا التباكي في الفضائيات ولا بخوض الانتخابات ولا الاكتفاء بالصياح في المظاهرات ولا بالانزواء بذريعة طلب العِلم العقيم بغير عمل ولا بإيثار السلامة.
من كلمة أيمن الظواهري رثاء الشيخ الأمير مصطفى أبو اليزيد

ورغم أن الظواهري احتفظ بنفس مفردات وعبارات وقصائد الرثاء التي استخدمها في خطابي مصطفى أبو اليزيد، وأسامة بن لادن، فإنه لم يحتفظ بنفس رؤيته وتصوره الجهادي، بل طغت عليه نبرة أكثر براجماتية وأقل جهادية، وأعاد طرح تصوره للصراع مع الولايات المتحدة في وثيقته الشهيرة المعروفة بـ«توجيهات عامة للعمل الجهادي»، قائلًا إنه يتكون من شقين أحدهما عسكري، والآخر دعوي، ويركز الشق الأول على استهداف أمريكا وإسرائيل، أما الشق الثاني فيركز على توعية الجماهير وتحريضها والسعي في تحريكها لتثور على حكامها، وتنضم للقاعدة.

ولم يكن التركيز  على تحريض الشعوب على الثورة هو الانقلاب أو التحول الوحيد في تصور أيمن الظواهري، بل إن أمير القاعدة (المقتول) دعا إلى عدم الانخراط في قتال الأنظمة السياسية في الدول العربية والمسلمة، واستثمار كل فرصة للهدنة معها، بعدما كان يدعو في كل مناسبة ممكنة، منذ انخراطه في تنظيم الجهاد وفي فترة إمارته للتنظيم قبل الاندماج مع تنظيم القاعدة لإسقاط الأنظمة العربية والقضاء عليها.

وكذلك دعا أيمن الظواهري إلى عدم قتال من وصفهم بالطوائف المنحرفة كالشيعة والإسماعيلية والقاديانية والصوفية، والسيخ، والهندوس، والمسيحيين وغيرهم، وعدم مهاجمة الجماعات الإسلامية الأخرى بل محاولة تجنب الخلاف معها، على حد تعبير الظواهري في وثيقته المذكورة.

توجيهات الظواهري تُفاقم أزمات القاعدة

ومن جانبها، رأت تنظيمات جهادية كانت مرتبطة بالقاعدة في ذلك التوقيت (كتنظيم الدولة الإسلامية داعش) أن توجيهات أيمن الظواهري وخطاباته تعد انحرافًا عن النهج الجهادي الذي التزمت به القاعدة منذ تأسيسها وطوال فترة إمارة أسامة بن لادن للتنظيم، مشددةً على أن هذا النهج يشمل إعلان التبرؤ من الطوائف المخالفة والتأكيد على أنها طوائف مُقاتلة لا يجب مهادنتها على عكس ما يقول أيمن الظواهري.

وبالنسبة لتنظيم الدولة الإسلامية «داعش»، شكلت تلك التطورات تأكيدًا إضافيًا على أن مواقف أمير القاعدة (المقتول) تبدلت وتحولت، فالظواهري الذي وصف في كلمته المعنونة بـ«رثاء القائدين: أمير المؤمنين أبو عمر البغدادي وزير الحرب أبو حمزة المهاجر»، عام 2010، الشيعة بأنهم «ليسوا شيعةَ آلِ البيتِ، ولكنهم شيعةُ البيتِ الأبيضِ، وليسوا شيعةَ الحسينِ، ولكنهم شيعةُ حسينِ أوباما- في تعريض باسم الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما-، وأنهم تحالفوا وتواطئوا مع الصليبيين (الأمريكيين) في أفغانستانَ والعراقِ»، أصبح يدعو في «وثيقة التوجيهات» إلى تحييدهم وعدم قتالهم.

وزرعت تلك المواقف والتحولات، بجانب عوامل أخرى، بذرة الشقاق بين قيادة القاعدة وأميرها أيمن الظواهري، وقيادة تنظيم الدولة الإسلامية «داعش»، وترسخ هذا الشقاق، لاحقًا، بعد إعلان التنظيم الأخير رفضه الانسحاب من سوريا نزولًا على أوامر أيمن الظواهري وحكمه في الخلاف الشهير بين داعش وجبهة النصرة، والتي كانت فرعًا لداعش قبل أن تتحايل على قيادته وتُعلن بيعتها المباشرة لأمير القاعدة كي تفك ارتباطها بالتنظيم العراقي.

رثاء أبو خالد السوري: خطاب الظواهري لإشعال الاقتتال الجهادي

وعلى ذات الصعيد، أدى رثاء أيمن الظواهري للقيادي الجهادي البارز أبو خالد السوري، الذي قُتل في فبراير/ شباط 2014، إلى إشعال نيران الاقتتال الجهادي- الجهادي، فبدلًا من أن يحتوي أمير القاعدة الشقاق بين أتباعه الجهاديين، صب الزيت على النار ، قائلًا إن على كل عاقل أن يتبرأ ممن يرفضون التحكيم، وأن يتوقف عن دعمهم لأنهم يحققون مصالح أعداء الجهاد، وذلك في إشارة مباشرة لتنظيم داعش.

وعقب رثاء الظواهري، أطلقت الفصائل السورية حملة موسعة ضد داعش، قُتل خلالها حجي بكر (سمير عبد محمد الخليفاوي)، نائب أمير التنظيم والمخطط الرئيس لتمدده لسوريا، وكاد التنظيم ينهزم لكنه نجح في استعادة زمام المبادرة ونجح في التصدي للحملة التي شُنت ضده، لكنه لم ينس موقف أمير القاعدة، ورد عليه بشكل مباشر في كلمة المتحدث الرسمي (الأسبق) لداعش أبو محمد العدناني المعنونة بـ«ما كان هذا منهجنا ولن يكون»، أبريل/ نيسان 2014، قائلًا إن القاعدة تبدلت وأصبحت القاعدة تجري خلف ركب الأكثرية، وتسمّيهم الأمة؛ فتداهنهم على حساب الدين، مردفًا «ولا ندري عن أي أمة يتحدثون، وأي حصاد مر يرجون».

ولم يفت أبو محمد العدناني أن يعلق على وثيقة توجيهات عامة للعمل الجهادي، فقال إن قاعدة الظواهري ليست «قاعدة الجهاد» التي بايعها داعش إبان حقبة أسامة بن لادن، مضيفًا أن أيمن الظواهري أصبح معولًا لهدم الحركة الجهادية وأنه جعل من قتل رجل (أبو خالد السوري) بابًا لهدم المشروع ووأد الحلم (يقصد حلم الخلافة الداعشية) الذي هاجر إليه آلاف الجهاديين، كما أنه أصبح يصف  المسيحيين والهندوس والسيخ بأنهم شركاء الوطن؛ يجب العيش فيه معهم بسلام واستقرار ودعَة، وهذا يتضاد مع نهج أسامة بن لادن الذي ادعى أن داعش يسير عليه، وفق قوله.

المنهج الجديد: جهاد الدعوة أم رثاء القاعدة

ومن جهته حرص أيمن الظواهري، على تأكيد انفصاله عن النهج الذي يتبناه داعش، وركز في غضون ذلك على شرح التصور الإستراتيجي الجديد لتنظيمه، والذي ضمنه في سلسلة الإصدارات الأخيرة التي نشرتها مؤسسة السحاب له قبل مقتله (سلسلة صفقة القرن أم حملات القرون، 6 حلقات)، ويتضمن التصور مراحل متدرجة تبدأ بـ«جهاد البيان، ثم جهاد الدعوة، ثم الجهاد السياسي.. إلخ»، بينما يتأخر الجهاد القتالي إلى المرحلة الأخيرة وفق تصور أمير القاعدة المقتول.

وأشار أيمن الظواهري إلى إن التنظيم يواجه 6 تحديات رئيسية هي: الدولة الوطنية، والشرعية الدولية، والإلحاد، والقهر والاستبداد، والاحتلال العسكري، والتنصير، وأن هذه التحديات تحول دون إعلانه الخلافة الجهادية العالمية، التي تختلف عن الخلافة الداعشية التي تميزت بأنها خلافة أبي الملثم وأبي المكمم، وأبي المتخفي، وأبي المبرقع، وأبي المُجهل الذين لا يُعرف شيء عن تاريخهم الجهادي سوى الكذب والتكفير والعمليات الإرهابية، وفق تعبيره في آخر ظهور له في 15 يوليو/ تموز الماضي، أي قبل مقتله بنحو أسبوعين فقط.

وعلى الرغم من أن أمير القاعدة (المقتول) هدف بتصوره الجديد إلى إعادة بعث تنظيمه من حالة الموات السريري التي يعانيها منذ أكثر من 11 عامًا، أي منذ توليه لزعامته، فإن تلك الكلمات تعد اعترافًا صريحًا بأن مشروع القاعدة القتالي أصبح فاشلًا، وأن محاولات إحيائه ليست إلا  رثاءً ضمنيًا للتنظيم الذي أسسه الجهاديون العرب وعلى رأسهم أسامة بن لادن وأيمن الظواهري، كما تثبت تلك الكلمات أن الظواهري لم يكن ظاهرة حقيقية بقدر كونه «ظاهرة صوتية محبة للظهور الإعلامي»، بتعبير رفيقه وأمير تنظيم الجهاد سابقًا سيد إمام الشريف.