ألم يكن المكان الأكثر سحرًا في العالم؟

لا يوجد ما هو ساحر في الفيلم الأخير لدميان شازيل: «بابيلون – Babylon»، كل الأجساد مستباحة وكل الشخصيات مستغلة، لا يوجد نهاية للبذخ، للنقود، للمخدرات، للقمار والاستغلال، كل من ليس نجمًا كبيرًا أو صاحب ثروة معرض للموت من دون أن يسأل أحد عن موته، لكن على الرغم من ذلك كل الشخصيات تتغنى بسحر عملها، بالمكان الأكثر سحرًا على الأرض: هوليوود، يصرح الجميع بأن السينما ليست فنًا منحدرًا فيما يستمرون في ممارسة كافة أنواع الانحدار الممكن، كل الشخصيات تطمح لأن تكون جزءًا من السحر حتى يصبحوا فعلًا جزءًا من عملية روتينية تكرارية، يتم نزع السحر عن كل ما هو ساحر، تصبح مواقع التصوير مسارح لقتل المستضعفين من الإفراط في العمل أو الإهمال والتجاهل، كل عمليات صناعة الفن تكرارية ومرهقة، يذكرنا الفيلم باستمرار بكون الوسيط السينمائي هو حفلة ضخمة في شركة تجارية، كل شيء وكل شخص يمكن استخدامه للربح أو التخلص منه إذا توقف عن جذب الأموال، لكن وسط كل الإفراط في الرذائل يرى الجميع الجانب الأكثر إشراقًا، تظهر المعجزات من داخل الجحيم، مثل فراشة تقف على كتف ممثل يؤدي مونولوج بينما تدور الكاميرا، أو التقاط آخر شعاع من الغسق البرتقالي قبل أن يتلاشى.

حصل شازيل على ميزانية ضخمة من شركة باراماونت وقام بصناعة فيلم قسم الجماهير والنقاد بشكل حاد، سكب كل ما في عقله على الشاشة من دون حساب أو تفكير، دمج العاطفي (السنتمنتالي) المبتذل مع الساخر المترفع المليء بالكراهية، صنع رهانًا خاسرًا مع واحدة من أكبر شركات الإنتاج لكن ربما تكون تلك الفوضى هي ما يحتاجه من يشاهد السينما الآن، فيلم ليس دقيقًا أو محكمًا البناء ، ليس مضمون النجاح أو مضمون الإيرادات، تلك المغامرات الجامحة هي ما يعيش بعد ذلك، دمج شازيل أبرز اهتماماته في بابيلون، موسيقى الجاز وصناعة السينما وطبيعة النجوم والنجاح، والأثمان التي تدفع لكي يكون أحدهم الافضل في شيء ما، وكانت النتيجة فيلمًا يصعب تصنيفه، فوضوي وعنيف وعاطفي، لكنه أشبه برحلة أفعوانية في عوالم السينما من أحطها إلى أكثرها شاعرية.

أحداث حدثت ولم تحدث

تدور أحداث بابيلون في بداية عشرينيات القرن الماضي في العصر الذهبي للسينما الصامتة في هوليوود، يبدأ الفيلم بحفل جامح، حيث الممنوعات والرقص والعلاقات المتعددة، كل المشاهير هناك، والدخلاء كذلك، حفل مفرط إلى الحد الذي يمكن فيه توقع أن يدخل فيل كعنصر إكزوتيكي احتفالي، في وسط الصخب يلتقط الفيلم خطوط شخصيتين بشكل رئيسي مانويل توريس (دييجو كالفا) شاب مكسيكي أمريكي أوصل الفيل إلى الحفل ويطمح للعمل في الأفلام التي يراها المجال الأكثر سحرًا على الإطلاق، ونيلي ليروي (مارجو روبي) الشابة الجميلة التي ترى نفسها كنجمة حتى قبل أن تصبح كذلك، كاريزماتية ومتهورة تنجح في التطفل على الحفل بمساعدة مانويل الذي يقع في حبها من أول نظرة، بعد ذلك التعريف المبسط بالشخصيات الرئيسة يبدأ الفيلم في أن يصبح تجربة حسية بالكامل أصوات وأحداث وحركة، لا يوجد إطار فارغ أو كاميرا ثابتة، كل شيء يتحرك على الدوام، وطالما هنالك حركة فإن الأشياء لا تزال حية فقط عندما يسكن الفيلم يبدأ كل شيء في الانهيار.

يختار شازيل إظهار صورة متطرفة لأبعد حد عن تصورات من عايشوا تلك الفترة الهوليوودية، يأخذ أكثر القصص جموحًا ويدرجها في فيلمه، صانعًا هجينًا معقدًا من الشخصيات الحقيقية والخيالية، من الأحداث المؤكدة والمختلطة أو المشكوك في حقيقتها، إذا كان المتلقي على دراية وعلم بتلك الفترة وأبطالها فربما سيلتقط عنصرًا أو اثنين من الشخصيات والأحداث الحقيقية، وإذا لم يكن فإن الفيلم لا يصعب عملية المشاهدة فهو لا يحيل لشخصية واحدة أو حدث بعينه، بل يصنع انطباعًا غائمًا عن كل شيء، يركب شخصياته من شذرات من التفاصيل المستقاة من الشائعات والتاريخ الشفهي والمكتوب، فيصبح ذلك العالم المفرط عالم كابوسي وحلمي في الوقت نفسه، حدث في يوم من الأيام ولم يحدث أبدًا، هوليوود بابيلون هي حفل ضخم من استغلال الصور، صورة المرء وعرقه، غرابته وعاديته، جنسانيته ووسامته، هي استغلال للجمال والقبح والغرابة مثل سيرك كبير، يستخدم شازيل الإحالات للأفلام القديمة بوفرة وإفراط مباشرين في أغلب الأحيان لكن سرعة تحرك عالمه تغرق كل شيء في حلم غريب يصعب تحديدًا إذا ما كان عاطفيًا مغرقًا في حب الوسيط الذي يعمل به أم إذا كان ساخرًا ناقمًا على كل التضحيات غير المستحقة لصناعة نتائج لن تفرق كثيرًا في العالم ومساره، وسوف يتم استهلاكها في قاعة مظلمة لساعتين.

العاطفة والسخرية

يقع بابيلون في ثنائية من الصخب الشديد والهدوء المفاجئ، ينعكس الشكل الفيلمي على الوضع الحكائي، فالحفلات والحركة الدائمة تصبح مع الوقت جزءًا من تركيب الفيلم نفسه وليست أحداثًا في داخله، يصور بابيلون  الحفلات الصاخبة  في سحرها الذهبي وإفراطها القاتم، يصبح الموت بداخلها بلا معنى والحياة بلا معنى، كل شيء مباح وكل شيء يمكن أن يحدث، حتى يخرج الجميع إلى النهار، مع ظهور نور الشمس الأول، يتم تصوير تلك اللحظات برومانسية واضحة، سماء مدرجة بالأزرق والوردي والبنفسجي، بدايات الشمس تلمس الوجوه برقة، يعيدنا ذلك إلى رومانسية شازيل في فيلمه الأشهر «لالا لاند – La La Land» الذي يستدعي الماضي كذلك لكن في صيغة حالمة تستر السخرية داخلها وتخبئها، يحدث نفس الشيء في بابيلون، عندما تتنحى مشاهد الانحلال والصخب لصالح الرومانسية السينمائية والأحلام الشبابية والتصورات المثالية عن أهمية السينما ومكانتها، يمكن قراءة تلك المشاهد الجدية على عدة أوجه، شكلها المباشر الذي يخلق تناقضًا بين النقد الوقح الذي يقدمه شازيل وبين كونه سينمائيًا يحب الوسيط، أو قراءتها باعتبارها مساحة للسخرية والتناقض المقصود والوعي بثنائية ضآلة الفن وضخامته.

مشهد من فيلم Babylon
مشهد من فيلم Babylon

يقدم بابيلون نفسه كفيلم فارغ لكنه محمل بكل شيء، يرتدي وضوحه وفجاجته، عاطفيته المفرطة تجاه الأفلام والسينما، سخريته التي يصعب التأكد ما إذا كانت مقصودًا، يصور الفيلم الأرشيف الذي يعيش بعد موت الجميع كشاهد على العنف والقسوة وعدم المبالاة، يتصارع جانب العاطفية والسخرية طيلة فترة الفيلم، تظهر العاطفة مفرطة على ألسنة الشخصيات، النجم جاك كونراد (براد بيت) يصرخ قائلًا إن السينما فن راق كالمسرح والأوبرا لكنها أكثر قربًا للناس، هي فن الشعوب ومهربهم من الواقع، ويتمنى مانويل أن يصبح جزءًا من التاريخ أن يكون داخل شيء أكبر من نفسه ومن حياته، عند سماع تلك الأمنيات الصادقة يصبح من الصعب وصف الفيلم بالسخرية لكنه يجاور كل لحظة عاطفية مع موت أحد الممثلين الإضافيين في الموقع، أو عامل الصوت في الاستوديو، أو فقدان البوصلة الأخلاقية والتورط في عصابات تهدد المتعدين بالموت الحقيقي، حتى عندما يصل الفيلم إلى ذروة ابتذاله العاطفي ويخرج خارج السرد الرئيسي ليخبرنا كم أن مخرجه عاشق للسينما، يظل هناك مجال لرؤية ذلك كحب معقد، كتضحية غير مستحقة، كتذكير بضآلة كل شيء في مقابل الخلود والثروة، وفي الانفصال الحقيقي بين المنتج النهائي وما يسري في خلفية صناعته.

يرى شازيل صناعة الأفلام كشيء مادي وعضوي وليس سحرًا ميتافيزيقيًا يخلق من الأفكار والنوايا الحالمة لصانعيه، هي عملية جماعية مضنية لكنها ليست أساسية في الحياة بأي شكل، ربما يقع شازيل في فخ تصوير نجوم وصناع السينما كمخلصين ينهون حياتهم من أجلنا، لكن ربما تلك هي فكرتهم عن أنفسهم، كل مواقع التصوير مزدحمة وخانقة، لا توجد حقوق حقيقية للعاملين غير النجوم، لا يوجد حدود للعنصرية والاستغلال للأقليات، ينقلنا الفيلم من الموقع إلى عمليات ما بعد الإنتاج من طباعة وتحميض لفائف الفيلم المصور، الصبغ والتعديل وإضافة اللوحات المكتوبة، يصبح المنتج النهائي الساحر مفكك الأجزاء، عمليات كيميائية وتفاعلات معملية، الوسيط كله متداع ومهدد بالاضمحلال، والخلود هش للغاية يمكن أن يفقد في خطأ معملي ويصبح كل شيء من دون معنى.

السينما كفن دائم التهدد بالموت

دائمًا ما تتناقل معلومات عن ردود أفعال من عاصروا بداية اختراع الكاميرا على ذلك التطور التكنولوجي المفاجئ، أصبح من الممكن نسخ الحياة كصورة والاحتفاظ بها، أن تعرف كيف بدا شخص عندما كان صغيرًا دون أن تعاصره، أن تقتبس نسخة مما تراه عيناك وتحتفظ بها للأبد، ظن البعض وقتها أن تلك العملية تسرق الروح، تقصر العمر، فأنت بالتقاطك للصورة تأخذ قطعة من حياة العنصر، مع ظهور الكاميرا التي تلتقط الصور المتحركة أصبح الوضع أكثر تعقيدًا، فالصورة الثابتة جزء من الحياة لكنها ليست الحياة نفسها، لكن الصورة المتحركة هي أقرب ما يكون لتعليب اللحظات، للإمساك بالزمن وجعله محمولًا ومكررًا ويمكن التلاعب به وإعادة رؤيته في سياقات مختلفة، يستدعي بايبلون فرضية سرقة الروح بالكاميرا، فكل من يؤخذ بسحر الخلود تتلاشى حياته سريعًا، كل الأحلام بالبقاء أبدًا يرادفها تناقص واضح في العمر، تطرف في طبيعة الحياة يجعل الخلود مناقضًا للحياة نفسها يجعل التطور جزءًا من الموت.

براد بيت من فيلم Babylon

يظهر ذلك بشكل رئيسي في الفرضية الرئيسية للفيلم وهي الانتقال من الصمت إلى الصوت، وهو الموضوع المألوف تمامًا لمن شاهد فيلم الغناء في المطر singin’ in the rain ، يستدعي بابيلون الفيلم الغنائي الشهير بعد نزع السحر والخفة عنه، فانتقال الوسيط من حال لآخر يعني موت الحال الأسبق، يصور بابيلون السينما كفن دائم التهدد بالموت، والنجوم كحمقى في انتظار فنائهم فقط ليكونو جزءًا من شيء أكبر، لكن ذلك الشيء ليس إنجازًا تاريخيًا  على أرض الواقع مثل البطولات والاختراعات بل في عيش حيوات متنوعة، في الموت على الشاشة، في الغناء والرقص في أن يكون المرء كل الأشخاص الممكنين في أزمنة وأمكنة مختلفة، ينعكس ذلك بشكل يتناص مع الواقع أو يصنع وضعًا ميتًا حكائيًا، فكل نجم نراه على الشاشة سوف يموت وينسى يومًا ما وتبقى أفلامه ليكتشفها شخص ولد بعد أن ماتوا جميعًا، كل تقنية مستخدمة في صناعة الفيلم سوف يجور عليها الزمن وتستبدل بأخرى، يتجلى ذلك بشكل رئيسي في استخدام براد بيت للقيام بشخصية جاك كونراد النجم الواشك على الأفول بعد دخول الصوت للسينما، فبراد بيت نفسه يعتبر واحدًا من أواخر نجوم السينما بشكلهم المعتاد الذي ابتدعته هوليوود، يمثل أفوله داخل الفيلم مرثية لانتهاء عصر آخر خارج الفيلم، لكن الموت المجازي والحرفي للنجوم ليس كل ما يمثله تهدد السينما بالموت المستمر، فهي فن حرج منذ بدايته، كل فترة تلحق الأخرى بوتيرة أسرع من أي فن آخر وكل تطور بسيط يهدد الآخر بالموت.

يعامل شازيل الفن السينمائي كعملية حياة أو موت، يصنع من أماكن التصوير مصغر للحياة في أكثر صورها تطرفًا، داخل ذلك الفن كل الطبقات والتراتبيات، وداخله يقبع الحلم الأمريكي فالسينما موجودة في كل العالم لكن هوليوود ليست كذلك هي في مكان واحد فقط، مكان يمكن لأي شخص أن يصبح أي شيء، بابيلون ليس فيلمًا محكم البناء أو واضحًا فيما يريد أن يقوله هو ذو طبيعة حلقية، كل مشهد هو حدث منفرد لكن داخل تلك الحلقات المتفرقة تتطور الشخصيات بشكل تقليدي، هو فيلم طموح مليء بالعيوب والأفكار المتناقضة، لكن طموحه ومحاولاته للوصول إلى أقصى حدود كل شيء هو ما يجعله مثيرًا للإعجاب، فهو قادر على مناقضة أفكاره بينما لا يزال في طور الحدوث، الطريف في بابيلون هو أن كل ما يجعله سيئ هو ما يجعله ساحرًا،  تمامًا مثل صناعة الأفلام في هوليوود.