«شاذ ومجنون!»

هكذا وصف «يوليان ناجلسمان» مدرّب «بايرن ميونخ» وضعيّة برشلونة في سوق الانتقالات الصيفية الجاري، مذيلًا حديثًا أثار الصخب في أوروبا قال فيه:

برشلونة هو الفريق الوحيد الذي لا يملك المال ويستطيع شراء الصفقات التي يريدها!

لم يكترث ناجلسمان إلى أن أهم صفقة لبرشلونة حتى الآن أتت من بايرن ميونخ نفسه، وهو روبرت ليفاندوفسكي، مقابل 50 مليون يورو وجد برشلونة المال الكافي ليدفعها إلى العملاق الألماني الذي كان على مدى شهر قد بالغ في التهكم على برشلونة حتى وصفه أولي هونيس رئيس بايرن السابق بأنه «نادٍ لا يمكن الوثوق في بقائه لعامين لاحقين!».

رئيس بايرن الحالي وأسطورته، أوليفر كان، كان أكثر حكمة من ناجلسمان وهونيس، فقال إن الشئون الخاصة ببرشلونة تخصه وحده، وإن ما يشاع عن النادي الكتالوني أمر لا يعلمه أحد أكثر من إدارة لابورتا.

لا يكفي أن تكون مدرّب بايرن

الواقع أنه لا يكفيك أن تكون مدربًا أو رئيسًا سابقًا لنادٍ بحجم بايرن ميونخ، كي تستثني نفسك من ترهات وسائل التواصل الاجتماعي.

برشلونة في وضع سيئ؟ بالتأكيد، ولكن أيضًا هناك خطة ما يسير بها النادي للتعافي من أكبر مديونية في تاريخ كرة القدم، والتي قدرت أواخر العام المنصرم بـ 1.3 مليار يورو، وإلا فكيف دُفع أكثر من 148 مليون يورو إلى الآن في الميركاتو؟.

يجد برشلونة المال في الوقت الراهن بصيغة شديدة المخاطرة، الأهم أنها تشبه إلى حد كبير سياسة مصر النقدية حاليًّا. مغامرة سيحسم المستقبل نتائجها.

لنفهم وجه الشبه علينا أن نلم بنقطتين أساسيتين؛ الأولى: ماهية ديون برشلونة، وكيفية التخلص من هذه الديون، والثانية: مفهوم الرافعات الاقتصادية التي لجأ إليها لابورتا لإنعاش خزينة برشلونة.

ديون برشلونة التي أنهى بها الرئيس السابق جوسيب ماريا بارتوميو فترة رئاسته الكارثية للنادي، كانت تتمثل في قيم مستحقة للبنوك جراء قروض قصيرة الأمد، ومشكلات في سقف الرواتب، خصوصًا مع وجود ميسي الذي كان يتقاضى أعلى راتب في العالم، بالإضافة إلى قيم صفقات لم تدفع بالكامل بعد.

عجز واضح في ميزان المدفوعات بفريق كرة القدم على وجه التحديد، فوصلت الديون لدى أول سنة مالية يبدؤها لابورتا إلى 1.3 مليار يورو، وأعلن الرجل ذلك في مؤتمراته الصحفية الأولى.

ميسي أو الفوضى!

رقم صادم، كان على لابورتا أن يفكر في حلول عاجلة له، ومِن ثَم حلول على المدى الطويل، ومِن ثَم كان عليه أن يحسم موقفه من قرض بحدود ربع مليار يورو قبل عام مع رحيل ليونيل ميسي كي يتمكن برشلونة من قيد لاعبيه الموسم المنصرم، هذا في ظل سياسة خصم رواتب بدأت منذ أزمة كورونا، وتضاعفت مرتين ومع بعض اللاعبين 3 مرات.

قرض «CVC» الذي كان يقضي بحرمان برشلونة من عوائد بث مبارياته كاملة لـ 50 عامًا على هيئة فوائد وصفها لابورتا بالمجحفة.

رفض لابورتا هذا القرض الذي كان كفيلًا بسد الدفعة الأولى من مستحقات ديون برشلونة، وكفيلًا في الوقت نفسه بإبقاء ميسي، ولكنه ترك الأخير يرحل، وقال إنه اختار ذلك على القبول بعرض «يضر ببرشلونة على المدى الطويل».

حينئذٍ كان لا بد من خطة بديلة لضمان العنصرين: السداد العاجل، والتخطيط للمدى الطويل. دخل برشلونة الموسم الماضي وخرج منه صفرًا من الألقاب، وكان لزامًا أن تكون خطة الموسم الجديد ثورية بما فيه الكفاية.

القرض الذي يستهدفه لابورتا أتى له عبر مؤسسة جولدمان ساكس الأمريكية للاستشارات المالية، والتي عرضت على لابورتا الحصول على 595 مليون يورو لمدة 10 أعوام، على أن يكون ضامن القرض هو عوائد بث مباريات برشلونة، مع تخفيض الفائدة لأقل من 2%، ووضع شرط يسمح لبرشلونة بإعادة بيع الحقوق إلى منصات أخرى بنسب يحددها بعد استشارة المؤسسة المالية.

عمرو أديب يشرح لك

الإعلامي المصري عمرو أديب يمكن أن يشرح لك هذه الخطوة بشكل واضح عبر فيديو لم يكن يتحدث فيه عن برشلونة بالطبع، وإنما كان الهدف هو إقناع المشاهدين بتوجه الحكومة المصرية لبيع بعض الأصول بضمانات. لقطة خلع عمرو أديب لساعة معصمه لبيعها، ليشرح للمواطنين كيفية التربح من الأصول، توحي لك بما أراده لابورتا من إعادة تدوير أصول النادي المتمثلة في عوائد البث.

ساهمت الدفعة الأولى التي تلقاها برشلونة من جولدمان ساكس في دفع مستحقات الديون، مع نشاط إداري كتالوني لإعادة جدولة باقي الديون في صيغ تسمح بأن توضع في قاعدة، بشرط ضمان برشلونة الحصول على أرباح، وتلك مهمة ستسهلها عودة برشلونة إلى سابق عهده وإحراز البطولات، وتلك هي النقطة الثانية التي استوحاها لابورتا من السياسة الاقتصادية المصرية الحالية.

أجزلت الحكومة المصرية عبر كل ممثليها وفي مقدمتهم رئيس الجمهورية عبد الفتاح السيسي الحديث عن ضرورة استكمال مشاريع البنى التحتية التي تجعل البلاد مهيأة لجذب رءوس الأموال من كل حدب وصوب كي ينتعش الاقتصاد، وفي كل مرة كان الانتقاد ينال تلك السياسة بدعوى أن «رغيف العيش أهم من الأعمال الإنشائية والمشاريع القومية» كان يجاب عليها بأن تلك الأعمال والمشاريع هي التي ستضمن وصول رغيف العيش دائمًا لكل مستحقيه بشكل مستديم، هذا بالضبط ما يعلن عنه لابورتا.

يمكنك أن تعتبر رافينيا أحد كباري القاهرة الجديدة، وأن ترى في ليفاندوفسكي مدينة جديدة مزدهرة الشطآن على الساحل الشمالي، وأن تعتبر صفقة كوندي مشروع القطار الكهربائي السريع، إنها نفس الإستراتيجية!

يؤمن لابورتا أن برشلونة عليه أن يعود سريعًا ناديًا منافسًا على كل الألقاب، كي يبرم عقود رعاية أكثر من تلك الحالية، والتي يعد أبرزها قادمًا من «سبوتيفاي» الذي سيرعى قمصان الفريق بدءًا من الموسم القادم، وأن برشلونة إن لم يعد سريعًا إلى سابق عهده، فقد يواجه مشكلات كبيرة كي يجذب عقودًا من هذا النوع، وعليه فلا بد من «إصلاح اقتصادي» فني عاجل يتمثل في صفقات بقيم تثير التعجب، وتجعل ناجلسمان يصف ما يحدث بأنه «جنون وشذوذ»؛ إذ كيف لفريق يعلن مديونيته التاريخية أمام العالم أجمع أن يربح كل الصفقات التي يستهدفها وأمام حفنة من عمالقة أوروبا؟!

الرافعات الاقتصادية

وعلى هذا الأساس يمكننا أن نوضح مفهوم «الرافعات الاقتصادية» التي أعلن عنها لابورتا، والتي أسفرت عن مرحلتين إلى الآن، والتي تهدف بالأساس إلى تسهيل قدوم اللاعبين إلى برشلونة بالقيم التي تطلبها نواديهم.

باختصار شديد، الرافعة الاقتصادية هي حزمة إجراءات يتخدها النادي مجتمعة تتمثل في نسبة اقتراض يحصل عليها النادي، إضافة إلى بيع لاعبين وخصم رواتب وبيع أصول، تجتمع كل هذه الإجراءات معًا فتسجل فائضًا للميزانية يعلنه النادي بوضوح.

هناك مرحلة ثالثة تتبقى في الرافعات الاقتصادية، ولكن إلى حد الآن فإن لابورتا يسير ببرشلونة بخطى ثابتة نحو التعافي المؤقت من الديون العاجلة، وإيجاد آلية واضحة لسداد المستقبلية، تمكن بالفعل من دخول الميركاتو، وما زال يستهدف بعض اللاعبين وهو الأكثر إبرامًا للصفقات الرنانة إلى الآن بين كل أندية أوروبا، والذي سجل ربحًا في السنة المالية الكاملة الأولى للابورتا بقيمة 267 مليون يورو.

لكن التحدي الأبرز الآن هو بيع اللاعبين في ظل تشبث فرينكي دي يونج بالبقاء، وعدم وجود أفق واضح لبيع كل من سيرجينيو ديست وممفيس ديباي ومارك أندريه تير شتيجن، بعد أن باع فيليبي كوتينيو وفيران جوتجلا وأرناو كوماس بقيمة 26 مليون يورو وأعار فرانشيسكو ترينكاو بـ 3 ملايين يورو مع خيار شراء بـ 10 ملايين يورو، أي إن برشلونة قد يجني زهاء 40 مليون يورو إضافية، وجنى بالفعل 29 مليونًا من مبيعات لاعبيه.

كل هذا لا يكفي

لكن هذا لا يكفي برشلونة كي يتمكن أولًا من تسجيل صفقاته بالرواتب الجديدة، برشلونة دخل موسم الانتقالات متعينًا عليه معادلة رقم سالب 144 مليون يورو من عمليات البيع وتصفيات الرواتب كي يتمكن من قيد لاعبيه الجدد بشكل اعتيادي، والاستفادة من كل تلك المجهودات الاقتصادية المثمنة التي قام بها لابورتا.

ولذلك فإن برشلونة يستهدف أولًا إنهاء عمليات انتداب لاعبيه للموسم المقبل بضم كوندي على الأرجح ومحاولة الوصول إلى اسم إضافي من بين أزبليكويتا أو ماركوس ألونسو، ثم ستكون الفترة المقبلة في الميركاتو مخصصة لبيع اللاعبين فقط، وسباق الحصول على القيمة المالية اللازمة لتسجيل الصفقات بشكل شرعي.

هناك حقيقتان أساسيتان بعد هذا الطرح، الأولى أن برشلونة اتخذ الخيار الأصعب والأكثر مخاطرة، لكنه في نفس الوقت الأصح في الوقت الراهن، والثانية أن ناجلسمان وكل من هم على شاكلته في العالم عليهم أن يقرءُوا كثيرًا عن أي موضوع قبل أن يدلوا بدلوهم فيه!