ما أحسبني في حاجة إلى بيان الحقوق الإنسانية والشرعية والمدنية التي كفلها الإسلام للمرأة وصانها بسياج من حدود الله، أو بيان المنزلة الكريمة التي وضعها فيها، فقد كثُر القول في هذا منذ ظهرت الدعوة إلى تحرير المرأة، وكانت الشريعةُ الإسلامية الغراء هي النبعُ الأول الذي استمدّ منه المسلمون من دعاة التحرير أدلّتهم وأسانيدهم لدفع ما حاق بالمرأة الشرقية في العصور المتأخرة من ظلم، وتحطيم الأغلال التي كبّلتها باسم الدين، والدين منها براء.


محمد والمرأة!

لكن يطيبُ لي مع ما أعرفُ ويعرفُ القراء من هذا كله، أن أروي بعض ما قرأتُ من وصايا الرسول الكريم بالإناث، تمهيدًا طبيعيًا للحديث عن أبوّته لبنات أربع.

نقل البخاري في صحيحه، أن السيدة عائشة قالت: «جاءتني امرأة معها ابنتان تسألني فلم تجد عندي غير تمرة واحدة، أخذتها فقسّمتها بين ابنتيها ثم قامت فخرجت فدخل النبي صلى الله عليه وسلم فحدثته بأمرها فقال: من بلي من هذه البنات بشيء فأحسن إليهن كُنّ له سترًا من النار».

وفي صحيح «مسلم» عن أنس بن مالك أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من عال جاريتين حتى تبلغا، جاء يوم القيامة أنا وهو كهاتين» وضم أصابعه.

وفي سنن «أبي داود» عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من كانت له أنثى فلم يئدها ولم يُهنها ولم يُؤثر ولده عليها، أدخله الله الجنة». وروى البخاري كذلك حديث الصحابي الذي جاء يستأذن الرسول في أن يُوصي بماله للمسلمين إذ كان لم يُرزق بولد ذكر، ولم تكن أحكام المواريث قد نزل بها القرآن بعد، فسأله الرسول: هل لك بنات؟ فلما أجاب بنعم،فأبى عليه الرسول أن يوصي بماله وله بنات.

كذلك فعلَ الرسولُ مع امرأة من الأنصار جاءته بابنتين لها فقالت: «يا رسول الله هاتان ابنتا ثابت بن قيس، قُتل معك يوم أحد، وقد استفادَ عمّهما مالهما وميراثهما كلّه فلم يدع لهما مالًا إلا أخذه، فما ترى يا رسول الله، فوالله لا تنكحان أبدًا وإلا ولهما مال، فقال الرسول متأثرًا: «يقضي الله في أمرك» وأمهلها إلى الغداة، فنزلت آية المواريث، فقال صلى الله عليه وسلم: ادعوا لي المرأة وصاحبها. فلما جاءا قال لعم البنتين: «أعطهما الثلثين واعط أمهما الثمن، وما بقي فهو لك».

وما رؤى أكرم منه قط في معاملة الإناث والترفق بهنّ والانتصاف لهن، ولقد يكفيني هنا أن أُشير إلى موقف شاهد على مدى ما كانت الأنثى تطمحُ إليه من عزة وكرامة في كنف الرسول، عن عائشة رضي الله عنها أن فتاة دخلت عليها فقالت وهي بادية الغضب: «إن أبي زوّجني من ابن أخيه ليرفع له خسيسته وأنا كارهة»- فطيّبت أم المؤمنين خاطرها واستبقتها حتى جاء النبي صلى الله عليه وسلم وسمع شكوى الفتاة، فأرسل إلى أبيها حتى إذا حضر جعلَ أمر الفتاة إليها. فقالت وقد زال عنها ما كانت تشعر به من غضاضة: قد أجزتُ ما صنع أبي، ولكن أردتُ أن أعلم: «هل للنساء من الأمر شيء».

ولقد أجارت زينت بنت الرسول أبا العاص بن الربيع عندما أسر بالمدينة قبل أن يسلم، واستأمنت أم حكم بنت الحارث بن هشام – عام الفتح لعكرمة بن أبي جهل – فأمنه الرسول مع أنه كان قد ذكر اسمه بين الذين أمر بقتلهم، ولو وجدوا تحت أستار الكعبة.

وفي يوم الفتح، لاذَ رجلان مِن بني مخزوم ببيت أم هانئ بنت أبي طالب، فدخلَ أخوها علي في أثرهما فقال: والله لأقتلنّهما. فأخبَرت النبي خبر الرجلين من بني مخزوم وإصرار أخيها علي على قتلهما، فقال صلى الله عليه وسلم: «قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ، وأمّنا من أمنت فلا يقتلهما».


ثورة في كرامة المرأة

لقد كانت معاملة النبي للإناث، على قرب العهد بالجاهلية فوق الذي طمعن فيه أو طمحن إليه من عزة وكرامة.

وما من رَيب في أن البيئة كانت محتاجة إلى هذا المثل الصالح والقدوة الطيبة في شخص الرسول الكريم لتقاوم ما ألفته في معاملة الإناث، ويكفي لنقدم تلك الحاجة أن نسترجع هنا حديث عمر «والله إن كنا في الجاهلية ما نعدّ للنساء أمرًا حتى أنزل الله تعالى فيهن ما أنزل، وقسّم لهن ما قسّم. فبينا أنا في أمر ائتمره إذ قالت لي امرأتي لو صنعت كذا وكذا؟ فقلت لها: ومالك أنت ولما هاهنا؟ وما تكلُّفك في أمر أريده؟ فقالت لي: عجبًا يا ابن الخطاب، ما تريدُ أن تراجع أنت، وأن ابنتك لتراجِع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يظل يومَه غضبان؟ فأخذتُ ردائي ثم انطلقتُ حتى دخلتُ على «حفصة» فقلتُ لها: يا بنية، إنك لتراجعين رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يظل يومه غضبان؟ فأجابت: إنا والله لنراجعه. ثم خرجتُ حتى دخلت على «أم سلمة» لقرابتي منها، فكلمتُها، فقالت لي: عجبًا لك يا ابن الخطاب قد دخلتَ في كلِّ شيء حتى تبتغيَ أن تدخل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأزواجه؟! فأخذتني أخذًا كسرتني به عن بعض ما كنتُ أجد».

وهذا الخبر وحده يغنيني عن مزيد بيان لمدى الحاجة القصوى في بيئة الرسول إلى مَثل أعلى يرونها على تغيير موقفها من الإناث، فهذا عمر صهر النبي وصاحبه الذي أعزّ الله به الإسلام، قد وَعى ما نزل من آيات الله في النساء، وكان من أفقه المسلمين بالدين القيّم، ومع ذلك كَره أن تشترك معه زوجته في أمرٍ له، وأنكرَ منها أن تُشير عليه برأي، فلمّا تمثّلت بابنته حفصة استفظعَ واستنكر وانطلق إليها مُغضبًا يسألها فيما سمع، وإنه ليطمعُ في أن تجيب بالنفي، لكنها أكّدت له أنها ونساء النبي يراجعنه صلى الله عليه وسلم، فانصرف عمر عنها مغضبًا لا يكاد يُصدّق أذنيه، إلى أن ردّته «أم سلمة» بكلمتها الصادعة: «عجبًا لك يا ابن الخطاب، قد دخلت في كل شيء تبتغي أن تدخل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأزواجه».

وتلقى عمر الدرس البليغ من بيت الرسول، وكذلك تلقاه الصحابة والمسلمون.

هذا هو «محمد بن عبد الله» في إنسانيته الرفيعة وبشريته المثالية وأبوته الرحيمة التي تفيض بأرق العواطف وأنبلها.


نُشر في مجلة الهلال المصرية عدد أغسطس 1978م/شعبان 1398م.