في خريف 2015، نشرت مجلة الدراسات الفلسطينية، في عددها الـ 104، نص وثيقة «البدايات» للشهيد خليل الوزير (أبو جهاد)، نائب القائد العام لقوات العاصفة، وعضو اللجنة المركزية لحركة «فتح»، ومهندس العمليات الفدائية، وكاتب نصوص «فتح» الأولى، وقد صدرت هذه الوثيقة عام 1986.ولهذه الوثيقة قصة تستحق أن تُروى؛ فقد عمد أبو جهاد إلى إتلاف نسخ الوثيقة قبل أن يتم توزيعها، ولم يحتفظ إلا بنسخ قليلة، وتُرجع زوجته (أم جهاد) هذا الفعل إلى أن أبا جهاد كان حريصًا على عدم إغضاب أحد من المؤسسين، ولكن المؤرخ السياسي الفلسطيني عبد القادر ياسين كان لديه رواية أخرى عن هذه القصة، حيث أكد أن الوثيقة بعد أن تم نشرها وتوزيعها بالفعل على منافذ البيع، قام ياسر عرفات (أبو عمار) بسحبها جميعًا من السوق. فما الذي كان يخشاه أبو عمار من تلك الوثيقة؟


جذور النكبة وتأسيس حكومة هموم فلسطين

استهل أبو جهاد هذه الوثيقة بتقييم ما جرى في فلسطين ونشوء الدولة الإسرائيلية وما تبعه من تغييب الدولة والدور الفلسطيني، فهو يرى أن هناك حقيقة موثقة وهي «أن الهدف الأساسي للمؤامرة على فلسطين كان تغييب الشخصية الفلسطينية وإلغاء العامل الفلسطيني من معادلة الصراع، وذلك على الرغم من صدور القرار رقم 181 القاضي بتقسيم فلسطين إلى دولتين؛ واحدة فلسطينية وأخرى عربية فلسطينية».لكن القيادات الفلسطينية شعرت بفداحة ما حدث على الساحة الفلسطينية، فقررت الاجتماع لإعلان استقلالية الكيان الفلسطيني، فتم الإعلان عن «حكومة عموم فلسطين»، ولكن اقتصر دورها على لعب دور إداري طفيف؛ مما جعل الاسم الشائع لها «حكومة هموم فلسطين» وليس عمومها.وهنا يرى أبو جهاد أن ما حدث من أزمة في القيادة الفلسطينية آنذاك كان بسبب ما كرَّسه الاحتلال من قوة عسكرية لمنع قيام كيان فلسطيني مستقل، فضلاً عما قامت به الأنظمة العربية من الرفض المطلق لكل ما يتصل بإمكانية تنظيم الشعب الفلسطيني، وأنها بذلت كل جهد لمنع إحياء الكيان الفلسطيني، كما كان في المقابل ارتكاب القيادة الفلسطينية نفسها خطأً فادحًا تمثل في رضوخها للقرار العربي، فلو أن هذه القيادة أصرت على ما أرادت وتمسكت بوحدتها لكان الوضع مختلفًا بصورة تامة.


أكذوبة الأرض اليهودية

وهنا يقر أبو جهاد بالوقائع التاريخية الخاصة بالوجود اليهودي في فلسطين قبل النكبة، فيؤكد أن اليهود كان وجودهم طفيفًا إلى حد كبير في فلسطين حتى بدء الاحتلال البريطاني عام 1917، حيث لم يزد عدد السكان اليهود عن 50 ألف يهودي، ولم يزد ما يملكونه عن 1% من الأرض الفلسطينية. وبين عامي 1917- 1948، وبعد كل أشكال الدعم التي قدمت إلى الحركة الصهيونية لتهجير اليهود من أنحاء العالم إلى فلسطين وزرع المستعمرات اليهودية، فإن عدد اليهود لم يزد حتى عام 1948 عن 650 ألف نسمة، كما لم تزد نسبة الأرض المسيطر عليها بشتى الوسائل والحيل والمصادرات عن 1500 كيلو متر مربع من المساحة الإجمالية لفلسطين، البالغة 27 ألف كيلو متر مربع؛ بمعنى أن الشعب الفلسطيني حتى قيام الدولة الإسرائيلية كان يملك 93% من أرضه.ويؤكد الكاتب على أن بريطانيا لعبت دورها باقتدار في تأسيس الدولة الإسرائيلية على الأراضي العربية الفلسطينية ومنع قيام الدولة العربية في فلسطين، وما تم تأكيده بعد أن ثبتت بريطانيا هذه المهمة في صك الانتداب في البند الذي ينص على «تهيئة كافة الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية والعسكرية لقيام الوطن القومي اليهودي»، ولعل تعيين يهودي ليكون أول مندوب سامي بريطاني على فلسطين يحمل بوضوح الهدف الأساسي للاستعمار.ورغم كل هذا الجهد البريطاني، إلا أن الشعب الفلسطيني لم يقف مكتوف الأيدي، فتحرك ببناء مؤسساته السياسية، فتشكلت العديد من الأحزاب، وفي لحظة تاريخية محددة بدأ عدد من أبناء الفلسطينيين في المدن والقرى، بالاستعداد للمواجهة العسكرية، فنشأت التجمعات القتالية والوحدات العسكرية، وترافق ذلك مع تأسيس «جيش الجهاد المقدس» لمواجهة الاحتلال.


نشأة «فتح»

يؤكد الوزير أن العرب استمروا في تدخلهم السافر في كافة الشئون الفلسطينية، وهو التدخل الذي لم يكن في مصلحة فلسطين بل إنه أضر بالقضية بشكل ملحوظ، فقد ساد اتجاهان آنذاك خلال مناقشة قضية فلسطين في المؤسسات السياسية العربية؛الأول: وقد قاده الفلسطينيون وبعض القيادات العربية، ويدعو إلى أن يقوم الفلسطينيون بالمهمة الرئيسية في جهد النضال والتحرير، على أن يقوم العرب بدعمهم.والاتجاه الثاني: يدعو إلى أن يُركن الفلسطينيون جانبًا، وأن تقوم الجيوش العربية بالمهمة كاملة. وهو ما حدث بعد تجريد الفلسطينيين حتى من حقهم في الدفاع عن أرضهم؛ مما كان له أبلغ الأثر في هزيمة 1948، حيث يرى الوزير أن المصادرة العربية للقرار الفلسطيني المستقل، والخضوع للسيطرة الاستعمارية هما العاملان الرئيسيان لنكبة فلسطين، وتشريد أهلها، وقيام الدولة الإسرائيلية.وقد انتقل الوزير بعد ذلك للحديث عن الظروف والملابسات التي أدت إلى نشأة حركة «فتح». فبعد نكبة 1948، بدأ يظهر طلائع من أبناء الشعب الفلسطيني في كل مكان باحثين عن الخلاص الذاتي، وقد حاولوا ذلك من خلال الانضمام لأحزاب، لكنهم اصطدموا بالعقليات الحزبية المتحجرة، ومن هنا بدأ يتكون ويتبلور خط المقاومة المسلحة ضد العدو، فبدأوا بتدريب مجموعات من شباب فلسطين على السلاح، فقامت تلك المجموعات بتنفيذ بعض العمليات النوعية ضد العدو، فقد كان تفجير العمل المسلح هو الشاغل الرئيسي لأبو جهاد وإخوانه في النضال؛ ومن ثم أرادوا بناء تنظيم قادر على استيعاب العمل العسكري وبلورته بدلاً من القيام بأعمال نوعية لم تجد الإطار أو التنظيم الذي يعمل على دفعها بشكل مُجدٍ وفعال أكثر.فكانت النتيجة أنه في منتصف الخمسينيات كان التفكير بتأسيس وبناء حركة «فتح»، والذي يؤكد الوزير أنه قد أخذ ينتقل تدريجيًا من كونه مجرد فكرة إلى فعل على أرض الواقع. فقبل عام 1957، كان هناك لقاءات عديدة بين أبو جهاد وأبو عمار للبحث عن الخلاص من العدو، وضرورة إيجاد الشكل التنظيمي الأنسب والمُعبّر عن الحالة الفلسطينية. وقد تم عقد الاجتماع التأسيسي في بيت أحد الإخوة في الكويت، ووضعوا هناك الخطوط العريضة الأولى للعمل التنظيمي الجديد.وعن ظروف مناقشة اختيار اسم الحركة، يقول أبو جهاد إنه بعد تمهل شديد أخذ المؤسسون يضعون اسمًا للحركة الوليدة، فبناء على أنها حركة لتحرير فلسطين فقد أطلقوا عليها اسم «حركة التحرير الوطني الفلسطيني»، ورمزوا لها بـ «فتح»، والتي تعد اختيارًا معكوسًا لاختصار اسم الحركة «حتف».


القواعد الأولى للعمل الثوري

منذ اللحظة الأولى، كان الشاغل الرئيسي لأبو جهاد وإخوانه في النضال هو استنباط قوانين وقواعد العمل الثوري بما يتلاءم مع الظروف على الساحة الفلسطينية، وقد تلخصت القواعد الأولى للعمل الثوري الخاص بالحركة إلى أربع قواعد رئيسية وهي:القاعدة الأولى: هي اعتبار مسألة الوحدة الوطنية إحدى الضرورات المطلقة التي لا يمكن التهاون حيالها، فيكون اتساع الصدر ورحابة الأفق ميزة أولى من ميزات «فتح» بهدف استيعاب كل الطاقات الخيَّرة من أبناء الشعب الفلسطيني.القاعدة الثانية: هي توظيف كل الطاقات من أجل تفجير الكفاح المسلح من حيث كونه ركيزة ثابتة تسعى إلى تحقيق الحرب الشعبية طويلة الأمد.القاعدة الثالثة: أنه خلال المسار الطويل لابد من العمل الحثيث على تفتيت جبهة الأعداء سواء عن طريق شن النضالات العسكرية الثورية، أوعن طريق العمل على تفتيت البنية الداخلية للخصم من خلال إحداث الشروخ في هذه البنية.القاعدة الرابعة: والتي تشكل إحدى الضرورات، فهي أن تكون الحركة دومًا على وعي كامل بالظروف العربية المحيطة، والعمل على منع الإرادات العربية من احتلال إرادة الحركة الثورية.


«فتح» ومنظمة التحرير الفلسطينية

منذ اللحظة الأولى لنشوء منظمة التحرير الفلسطينية، وحركة فتح لا تعتبرها إلا محاولة من الأنظمة العربية لقطع الطريق على البدايات الثورية التي أخذت تشق طريقها في فلسطين، ورغم هذا التقييم من قِبل الحركة إلا انها اعتبرتها إطارًا رسميًا يحوز على شرعية عربية، ولا بد للشعب الفلسطيني أن يحتفظ به.ويرى الوزير أن خطأ قيادة المنظمة القاتل، أنها لم تجد ما تهاجم الحركة به سوى شعار الكفاح المسلح، ولذلك أخذت فتح على عاتقها محاولة إعادة إنتاج منظمة التحرير الفلسطينية، وقد أصبحت الفرصة مواتية بعد هزيمة 1967، فبعدما تجلى فشل جلّ أساليب العمل العربية السائدة في مقاومة العدو الصهيوني، واستقالة رئيس منظمة التحرير الفلسطينية أحمد الشقيري بعد تلك الهزيمة، تقدمت «فتح» برؤيتها البديلة لكي تشكِّل الرهان الجديد للجماهير العربية، فقدمت الحركة رؤيتها وأساليب عملها وتكتيكاتها الجديدة إلى الجماهير لتستحوذ على الشعبية الأكبر، ولتأخذ بذلك النصيب الأكبر من بين باقي الفصائل الأخرى داخل المنظمة إلى وقتنا هذا.


لماذا أخفى أبو عمار «البدايات»؟

وفقًا لما ذكره أبو جهاد في وثيقته، فإن الاجتماع التأسيسي للحركة، والذي عُقد في الكويت، حضره خمسة أشخاص؛ وهم: أبو عمار، أبو جهاد، عادل عبد الكريم، يوسف عميرة، توفيق شديد.ولكن المؤرخ السياسي الفلسطيني عبد القادر ياسين – في تصريحات لـ «إضاءات» – نفى أن يكون أبو عمار من بين من حضروا الاجتماع التأسيسي، وأكد أن الأسماء التي وردت في الوثيقة كلها صحيحة فيما عدا أبو عمار، فقد حضر إلى جانب الأربعة المذكورين «عبد الله الدنان» وليس أبو عمار. ويُرجع ياسين سبب وضع أبو جهاد لاسم أبو عمار من بين المؤسسين، أنه لم يُرد أن يصطدم بالأخير بعد نشر الوثيقة.وعلى الرغم من أن أبو جهاد قد أقحم ياسر عرفات وجعله من بين المؤسسين الأوائل لـ «فتح»، إلا أن عرفات لم يدع الوثيقة تخرج للنور، وقام بسحبها قبل أن تصل لأيدي القراء كما أشرنا من قبل، فقد وجد أبو عمار أن الوزير كتب في هذه الوثيقة ما يؤكد على أن الوزير هو الذي كان متصدرًا للقيادة والتأسيس، وأنه صاحب الدور الأبرز داخل الحركة. فهو صاحب الفكرة، وهو الذي جمع النواة المؤسسة لها، وطالما أكد عرفات أنه هو والوزير من قاما بتأسيس «فتح».إلا أن جميع المصادر – حسب ياسين – تؤكد أن عرفات لم يكن له الدور الأول أو حتى الثاني في مسألة التأسيس. وتكمن تفاصيل قصة سحب عرفات لهذه الوثيقة حسب ياسين، أن القاص الفلسطيني المعروف يحيى رباح كان يدير وحدة بحثية مرتبطة بعضو اللجنة المركزية لفتح «هاني الحسن»، وقد أبلغه الأول في ربيع 1986 بأمر الوثيقة، فقرأها الحسن، وأبلغ عرفات بها، وبعد أن أطلع عرفات عليها قرر سحبها فورًا للأسباب سالفة الذكر.