على مدى خمسينَ قرن، كانت بيروت تضيق وتتسع باختلاف الدول التي قامت عليها. قاست بيروت الدمار بشكلٍ مغاير عن باقي بقاع العالم القديم، وما رأيناه في أحداث الثلاثاء الأسود (4 أغسطس/آب 2020)، كان تراباً ينفض من فوق كتفي بيروت، إذا ما قورِن بما قاسته عنقاء الشرق من مُهلِكات في تاريخنا القريب والبعيد، ومع ذلك انسلت من قلب النيرانِ وليدة، وتجددت حتى عجزنا إحصاء كم بيروتاً وُلِدت لتهز عقيدتنا، في أن ما كُسر قد يستحيل إصلاحُه. [1]

دمار الجوع… وقد قامَت مِنه

عام 1915، شملت بيروت ولُبنان فجيعة أقل صوتاً وأكثر تدميراً من الثلاثاء الأسود. ففي رواية «الخُبز»، يروي المؤرخ اللبناني والأستاذ بالجامعة الأمريكية ببيروت «يوسف معوض» شطراً من الحـدث التاريخي الذي أودى بـ 120 – 200 ألف شخص، ماتوا إثر الاحتياج الإنساني الأساسي، قد نسيت الدول المتصارعة في الحرب العالمية الأولى، أن معدة اللبنانيين لا تكترث لِما يتحاربون لأجله، وأنها لن تصبِر حتى يظهر للصراع مُنتصر ومهزوم.

بشكلٍ مُتسارع ومُفزِع، توالت الشدائد البيروتية، فبدأت بغزو الجراد عام 1915، فدمرت كل المحاصيل الزراعية، مُنذرةً بهلاك مُستهلكيها، ولم يُمهِل الزمن لُبنان، فضُرِب الحصار البحري عليها من قِبل دول الحلفاء، وحصار الأتراك البري. أما حصار الحلفاء فقد منع الناس عن الذي يأتي من مِصر مُصاحباً للسلع، وأما الحصار التركي، بقيادة العثماني «جمال باشا»، فقد منع القمح من الدخول، خاصة في جبل لبنان.

إن الحكومة لا يمكنها استعادة حريتها وشرفها إلا عندما يتم تنظيف الإمبراطورية التركية من الأرمن واللبنانيين. الأوائل دمرناهم بالسيف، أما الآخرون فسنميتهم جوعاً.

تلك المقولة التي يعلوها اللغط، تناقلتها الوكالات الإخبارية، عن كلمة «أنور باشا» وزير الحربية عام 1916، الباشا الكبير في الاتحاد والترقي التركي. وبغض النظر عن هذه المقولة، فقد اشتهر أنور باشا وحزبه بحُلمهم بدولة تركية تضم كل تُركيِّ العرق.

وبصرف النظر عن سبب الجريمة وتعدد وكثرة المجرمين، فلمدة ثلاثة أعوام، دار الجوع في لبنان كوحشٍ جُن، حتى نال سوريا، واستطال وثبت حتى لاح الخلاص شديد البُعد، فقد بيع القمح بأسعارٍ خيالية، ووصف «يوسف معوض» امرأة مستلقية في هوان، يعتصر رضيعها ثديها الدامي، يائساً في قطرات تؤجل موته، كانت هذه المرأة في نظري تلخيصاً للبنان الشائخة، وبيروت المنكوبة، التي لم تمل يوماً من أن تُعيد بوحي إرادتها، ولادتها من جديد.

دمار الحرب… وقد قامَت مِنه

ليس ثمة حرب أهلية في التاريخ تجاوزت السنتين. وكان يمكن أن نحسد أنفسنا لو اقتصرت حربنا الأهلية على «حرب السنتين»، ولكن كيف يكون لبنان متميزًا لو أن شعبه مثل كل الشعوب، وتاريخا مثل كل التواریخ، ودولته مثل كل الدول! [2]

لخص «عصام محفوظ» في هذه السطورٍ في كتابه «أبعد من الحرب» بُعداً آخر من بيروت أخرى، يُداهمها الفناء في شكلٍ جديد طائفي وسياسي، بعد مرور أقل من قرن على المجاعة.

إنه الفوران البطيء… النار التي تستعر أسفل القدر الصامت مجهول الهوية، حتى ينبعث البخار برائحة لم يرَ لبنان أنكر منها رائحة. ففي عام 1975، كانت أول شرارة لحرب السنتين، أول مرحلة في مراحل طوال من رحى الحرب بتارة الوحدة والخُلُق وكل ذي كبد رطبة، إن بحثت عنها سترى بين الغمامة أسماء بين أقواسٍ كهذه: «الحركة الوطنية اللبنانية» و«تيار اليسار» و«الزعيم الدُرزي والتيار الاشتراكي» و«الفلسطينيون» و«الجيش السوري» و«الإسلام والمسيحية». [3]

ولكن هل علت كل تلك الأسماء فوق صوت الدانة؟ هل تشدق المتحاربون بها وهم يَقتلون ويُقتلون؟ ألم تكن الطلقات أسمعَ صوتاً وأظهرَ بياناً؟ ألم يكن تفاديها الحُلم السامي للجميع؟ ومع ذلك أفنى السياسيون أعماراً لمواصلة الحرب، ونفس الجنود الذين يتمنون تفاديها كل يوم، ضربوا أضعافها مُستجلبين عليهم بالمزيد، مات في الحرب الأهلية 150 ألف شخص في 20 عاماً، وظلت تلك التساؤلات بلا إجابة، وعلى رأسها: من نبكيه أكثر؟ ضياع عقدان من عُمر بيروت ولبنان، أم ضياع الشباب اللبناني صاحب الحق في تلك السنين؟

كان من المفروض أن ينقشع غبار الحرب مُخلِّفاً كتلة رمادية من اللا شيء، ولكن لم يقف الفناء على أطلالها مُبتسماً، لم يمنحه أبناؤها تلك البسمة، وانتهجوا مذهب أسلافهم منذ فجر التاريخ في حمل البناء استعداداً لدمارٍ جديد.

انفجار 2020: نذير الحرب والمجاعة

بيروت
يا وردة جميلة بتفتح في أرواحنا
وهمة أخيرة بتقوم بينا في المحنة
فسامحينا لو اعتادنا نحس العار ما ننطقشي
وكوني ضمير في عز سكوتنا يفضحنا
بيروت
يا ست الحسن يا حية في بلاد الموت قتلناكِ
فسامحينا إذا كنا بجهل الشرق خناكِ
وكوني جميلة يا بيروت ما باقي جميلة إلاكِ.
من كلمات الشاعر المصري «جلال البحيري».

وسط المعمعة الإخبارية التي تلي وتسبق أي حدث في وطننا العربي، شاهدت الانفجار على شبكة التواصل الاجتماعي، برد فعل هادئ، اكتسبته أنا وغيري من بني العرب، من فيض ما شاهدنا من فظائع. بحثت عن تلك القصيدة، وتشبثتُ بها في خوفٍ من الضياع الأخير، وأن تدخل بيروت كعادة العنقاء، المخلوق الفلكلوري المُشتعل، لقلب النار مثلما تفعل كل مرة، فلا تُولد جديدة مثلما عوَّدتنا، وأن تؤنبنا على ما نفعله بها متواكلين عليها، بضياعٍ أخيرٍ تندم عليه البشرية.

أجواء ثقلت بطبول حرب، وتحذيرات بأن بضياع المرفق البيروتي، لن تحتمله لبنان، ولن تستطيع إشباع نفسها من قِلة الواردات، في تكرارٍ سقيم للتاريخ الذي سردناه مسبقاً، ولكن ربما… ربما ليس هذا الصبحُ كالسابق، ابتهجت بأخبار المُساعدات الوافدة، وابتهجت أكثر بصبغ أهرامات مصر بالعلم اللبناني، وقلت ربما في البشرية عِرفان بعد كل ذلك… ربما لن نترك بعضنا البعض كما توارثتنا… وربما لن يضير أهواءنا وعقائدنا وتوجُّهاتنا كأُمم، أن نساند بيروت، المدينة العطشى – منذ فجرها الأول – لاهتمام الإنسانية.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.

المراجع
  1. عصام محمد شبارو، “تاريخ بيروت: من أقدم العصور حتى القرن العشرين”، بيروت، دار مصباح الفكر، 1987.
  2. عصام محفوظ، “أبعد من الحرب”، بيروت، دار الآداب، 1993.
  3. عبد الرؤوف سنو، “حرب لبنان 1975–1990: تفكك الدولة وتصدع المجتمع”، بيروت، منشورات الجماعة اللبنانية، 2015.