في الفيلم الكوميدي «Click» يكتشف البطل مايكل نيومان (آدم ساندلر) «ريموت كنترول سحري»، يمكنه التحكم في مجريات الواقع مثل شريط فيديو، بإمكانه تعجيل سير الأحداث، جعل الوقت يمر بسرعة أو ببطء، إعادة بعض الذكريات والمشاهد أو تجاوز بعضها للأبد.

وبذلك الريموت يعتقد نيومان، المعماري الشاب، أنه مَلَكَ الدنيا وما فيها، لم يعد بحاجة لتحمل مشاهد الواقع المُملة ولا المواقف المؤلمة، لم يعد بحاجة للانتظار في إشارات المرور، ولا المرور بأوقات المرض والفقر والحاجة، كل ما عليه هو أن يضغط على الزر فينتقل إلى أوقات الصحة والسرور والإنجاز في حياته، ويكون بذلك قد نجح في هزيمة الحياة هزيمة نكراء.

لكن ماذا لو كانت سلطة اختيار سير الحياة قد سُحبت من الإنسان لسبب؟

ما أقصده هو لو كان بإمكان المرء أن يملك اختيار ما يمر به، سواء موقف جيد فيُضاعفه، أو سيئ فيتجنبه، هل يا تُرى ستكون الحياة حينها أفضل حقاً؟ أم من الممكن أن تكون سيطرة الإنسان على أحداث حياته شيئاً مكروهاً ويؤدي به إلى الكوارث؟

الرواقية وحبوب الشجاعة

في رواية «رقصة الوداع» لميلان كونديرا، كان البطل جاكوب دائماً ما يحمل في جيبه حبوب كفيلة للقضاء على حياته في أي وقت.

وذلك لكي يُذّكر نفسه أنه ليس مضطراً لأن يتعايش مع أي ظروف لا تعجبه أو أن يتحمل أي مواقف لا تناسبه، وأن حياته أقصر من أن يعيشها في المكان الخطأ. ولذلك يُذكِّر نفسه –من خلال الحبوب- أنه يتحكم في مصيره بشكل كامل، ويمكنه أن ينهي حياته في أي وقت للتخلص من أي مأزق يضع نفسه به. وبتلك الطريقة يتمكّن من العيش بحرية وشجاعة دون خوف او إحجام.

قد تبدو فكرة مُتطرفة بعض الشيء، لكنها في الحقيقة ليست من تأليف الروائي ميلان كونديرا في الأساس، فكرة العيش على حافة النجاة يرجع أساسها إلى الفلسفة الرواقية القديمة بأثينا في القرن الثالث قبل الميلاد.

والرواقية هي من أكبر وأقدم المذاهب الفلسفية في تاريخ الإغريق، وتعتبر هي والإبيقورية –وفقاً لبرتراند راسل– منْ أنقذا الفلسفة اليونانية بعد الجمود التي عانته بسبب أرسطو وأفلاطون وتركيزهم على العلل الغائية بدل العلل الآلية.

كان الرواقيون فلاسفة يتمتعون بالصلابة والقوة في مجابهة الحياة، حتى إن لفظ stoic (شجاع) قد اشتق من اسم مدرستهم الفلسفية Stoicism. وتعتبر الفلسفة الرواقية من أقرب الفلسفات للأديان الشرقية بعد أن استمدوا الكثير من تعاليمهم من الأفلاطونية الحديثة. لكن على الرغم من اعتبارهم فلسفة محافظة تٌقدِّس الحياة والشجاعة في العيش، فإنهم كانوا يؤمنون بحرية الفرد في التخلص من حياته في أي وقت. فكيف يمكن لفلاسفة حكماء أن يؤمنوا بمثل هذا المبدأ الغريب؟

العيش في تناغم مع الطبيعة

الرواقيون مؤمنون أن الرواقيّ الحقيقي يجب أن يعيش حياته في تناغم مع الطبيعة، وتلك هي وظيفة الإنسان التي خلقه الإله من أجلها (الغرض الأوّلي). لكن في نفس الوقت لو شعر الرواقي أن حياته بدأت في الانحراف عن ذلك المبدأ أو تم وضعه في ظرف سيكون استمراره في الحياة لا يخدم الغرض الأوليّ، فحينها يصبح من حقه أن يتخلص من حياته عند ذلك المنعطف، قبل أن يحيد عن مبادئه ويبدأ في الانحدار.

والمثل الأعلى للرواقيين في تلك المسألة هو المعلم الأول سقراط، الذي اختار أن يشرب السم على أن يهرب من السجن، لأنه أدرك أن حياته بعد الهرب لن تُساعده على العيش وفقاً لمبادئه. ذلك ما يؤمن به الرواقيون على الرغم من أن بعض الروايات تقول إن سقراط اختار السم لأنه أدرك إن موته سيكون له تأثير أكبر من هروبه، وسيخدم فلسفته وقضيته بشكل أفضل.

ومع أن مبدأ الرواقيين في حرية النجاة يبدو مُتقناً بشكل فلسفي، إلا أنه يضع المدرسة الفلسفية نفسها في مأزق يهدد مبدأها الأوّلي الذي ينص على العيش في تناغم مع الطبيعة.

بوذا والزواج الكاثوليكي

يقول الحكيم بوذا في تعاليمه عن الحقائق النبيلة الأربعة، إن أول حقيقة هي إن الوجود ذاته هو «الدوكا». والدوكا هي المعاناة، ولكي يتمكن الإنسان من العيش في هذا العالم فعليه أن يتقبل الدوكا كشيء مُسلّم به في الحياة، بل وكأن الدوكا هي أصل الحياة.

فلو أن الرواقي أصبح يعيش الحياة وهو يحمل في جيبه خيار ترك الحياة (حبوب الشجاعة الخاصة به)، فما الذي يمنعه من القفز من المركب مع أول موجة عالية تضرب البحر؟

خصوصاً وأن من مبادئ الرواقية أن أحكام المرء على أحداث حياته تكون في معظم الأوقات هي سبب تعاسته، لأن الانسان لديه عادة التهويل والمبالغة حين يواجه اي عوائق، بل تعتبره المدرسة الرواقية غير قادر على وضع الأمور في حجمها الطبيعي لحظة حدوثها، فما بالك عندما يكون التساؤل الذي نبحث عن هو عمّا إذا كان الموقف الذي نحن بصدده هو نهاية العالم، أم من الممكن العيش في تناغم مع الطبيعة من خلاله؟

وهنا أتحدث عن تجربة شخصية عزيزي القارئ، فقد مررت في سنوات عمري القصير بما يتجاوز السبع مواقف التي ظننت أنهم نهاية العالم، ومع ذلك ما زلت حياً، ومازالت الحياة لم تنتهي بعد بل كانت آفة التهويل والمبالغة هي ما سوّلت لي ذلك. فالاعتقاد أن الإنسان يمكنه أن يواجه الحياة وهو يحمل في مؤخرة رأسه فكرة إن لديه اختيارًا آخر سوى المواجهة، لهو اعتقاد مغشوش وله عواقب وخيمة قد ينتج عنها تضييع الحياة نفسها من دون وجه حق، وذلك ما نرى عكسه في مبدأ الزواج الكاثوليكي.

الحياة كزيجة كاثوليكية

يشترط الزواج الكاثوليكي على الزوجين من البداية أنه بمجرد اتمام الزيجة فلا يوجد خيار آخر سوى البقاء في الزواج للأبد بلا مهرب ولا مخرج، وذلك لأن الوثاق الأبدي يجبرهم على حل مشكلاتهم سوياً ومواجهة أي عوائق بلا تردد، لأن خيار الطلاق غير مطروح من الأساس، فلا يوجد أمامهم سوى القبول بالسرّاء والضرّاء، في حين لو أُعطوا الخيار لربما ترك كل منهم الزواج مع أول مشكلة.

إذاً فالحياة لا تختلف كثيراً عن الزواج الكاثوليكي من حيث المبدأ، وذلك ما اكتشفه «مايكل نيومان» في نهاية فيلم Click: إن الحياة معادلة، في طرفها الأيمن توجد المعاناة، وفي طرفها الأيسر يقبع المعنى، ولو حاولنا بأي طريقة التخلص من طرف على حساب الآخر، لاختل ميزان الحياة وفقدت المعنى والقيمة.

فالأصل في الحياة هو المعاناة، وقبول المرء للمعاناة على طريقة بوذا هو سبيله للوصول إلى المعنى، واستعداد المرء لمواجهة المعاناة بشكل تطوعي هو ما يمّكنه من الاستمرار في العيش في تناغم مع الطبيعة دون محاولة تجنب أي شعور أو مضاعفة الآخر.

وكما يقول الشاعر الألماني «راينر ماريا ريلكي»:

دعَ كل شيء يحدث لك، جميلاً كان أو مريعاً، فقط واصل التقدم، لا شعور يدوم.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.