جاء الهجوم الصاروخي الإيراني في محيط القنصلية الأمريكية في عاصمة إقليم كردستان العراق، ليرسي مرحلة جديدة من المواجهة بين طهران وواشنطن، فقد أعلنت قوات الحرس الثوري الإيراني مسئوليتها عن العملية، التي انطلقت من الأراضي الإيرانية وشملت إطلاق 12 صاروخًا باليستيًا وفقًا لجهاز مكافحة الإرهاب في الإقليم المتمتع بالحكم الذاتي، وأدانت واشنطن الهجوم.

وقال التلفزيون الرسمي الإيراني الأحد، إن الهجمات قصدت «قواعد إسرائيلية سرية»، وأعلن الحرس الثوري أن العملية استهدفت موقعين إسرائيليين، وأشار في بيان نشر على موقعه الإلكتروني «سباه نيوز» أن القصف جاء بغرض انتقامي ضد «مركز إستراتيجي للتآمر»، محذرًا تل أبيب من أنه في حالة الرد على هذا القصف سيواجهها بـ «ردود حاسمة وقاسية ومدمرة».

وعملت وكالة الأنباء الإيرانية الحكومية (إرنا) على إعادة نشر تصريحات قديمة للمرشد الأعلى للثورة الإيرانية، علي خامنئي، ترجع إلى نحو عشر سنوات ذكر فيها أن رد طهران على أي اعتداء سينتج عنه «تدمير» إسرائيل وانهيارها.

وقال المتحدث باسم وزارة الخارجية الإيرانية سعيد خطيب زادة، إن بلاده حذرت بغداد مرارًا من أنه لا ينبغي استخدام أراضيها، من قبل أطراف ثالثة لشن هجمات على بلاده، لافتًا إلى أن إسرائيل هددت أمن بلاده، انطلاقًا من الأراضي العراقية أكثر من مرة.

وأضاف خطيب زادة خلال مؤتمر صحفي الإثنين: «إيران تتوقع من الحكومة المركزية العراقية أن تضع حدًا لهذا الأمر، كما أن على إسرائيل أن تعلم أن لدينا إشرافًا استخباراتيًا على مواقع تواجدها في المنطقة»، مشيرًا إلى وجود «أوكار تجسس لإسرائيل» في العراق.

وكشفت وسائل إعلام مقربة من الحرس الثوري أن الضربة جاءت ردًا على مقتل العقيد مرتضى سعيد نجاد، والعقيد إحسان كربلائي بور، في سوريا بغارة إسرائيلية، فيما رددت مصادر أخرى ما يفيد بأن الضربة جاءت انتقامًا من عملية نفذها سرب طائرات مسيرة انطلق من قاعدة إسرائيلية في أربيل ضد مقر للحرس الثوري في محافظة كرمنشاه الإيرانية في منتصف شباط/ فبراير الماضي.

 وتم تنفيذ الهجوم الانتقامي في الواحدة والنصف فجرًا وهي نفس الساعة التي اغتيل فيها قائد فيلق القدس قاسم سليماني في العراق في الثالث من يناير/كانون الثاني 2020 تبعًا لموقع «صابرين نيوز» التابع لفصائل مقربة من الحرس الثوري، رغم أن المتحدث باسم لجنة الأمن القومي والسياسة الخارجية في البرلمان الإيراني، محمود عباس زاده مشكيني، نفى علاقة بلاده بالواقعة!

رسائل متعددة

تعد تلك هي العملية الأولى التي تقوم إيران بتبنيها بنفسها في العراق عبر الحرس الثوري، منذ الهجوم على قاعدة عين الأسد الأمريكية الذي كان من الواضح أنه هجوم صوري لحفظ ماء الوجه بعد اغتيال الجنرال الإيراني قاسم سليماني. اعتادت إيران أن تخفي تورطها في هجمات مباشرة على الأراضي العراقية عبر نسبتها إلى ميليشيات مدعومة إيرانيًا، وأحيانًا ما تكون تلك الميليشيات مجرد أسماء وهمية تهدف إلى حماية الفاعلين الأصليين من المسئولية المباشرة. مثّل هذا، من جهة، استفزازًا للدولة العراقية التي تحاول بعض مكوناتها اكتساب نوع من الاستقلال السياسي حيال طهران، كما شكل، من جهة أخرى، تحديًا مباشرًا للنفوذ الأمريكي والحضور الإسرائيلي في المنطقة، خاصة حال صحت الرواية الإيرانية بوجود عناصر الموساد في الموقع المستهدف.

واستهدفت الصواريخ محيط القنصلية الأمريكية، ولم تسفر عن أي خسائر بالأرواح، لأنها لم تتوجه إلى القنصلية الموجودة في إحدى ضواحي أربيل عاصمة كردستان المكتظة بالسكان، بل توجهت إلى محيط موقع تحت الإنشاء يبعد ثمانية أميال من المدينة، في منطقة مصيف أحد معاقل الزعيم الكردي مسعود بارزاني.

وكان من المقرر افتتاح المبنى الجديد هذا العام بعد أربع سنوات من العمل فيه، لكن الافتتاح تأخر لما قيل إنها ظروف تأثرت بجائحة كورونا، وسوف يتم لاحقًا نقل القنصلية من المبنى الصغير إلى المجمع الجديد الذي يوصف بأنه سيصبح أحد أكبر القنصليات الأمريكية في العالم.

ويشير استهداف هذا المكان الخالي قرب المبنى الجديد إلى أن الضربة تم ضبطها بحيث لا تجلب مزيدًا من الانتقام من الولايات المتحدة، فموقع سقوط الصواريخ لم يكن سوى منطقة مدنية محلية، وذكرت قناة «K24» التلفزيونية الكردية، أن مقرها تأثر بالقصف لقربه من موقع الهجمات، ونشرت فيديو يظهر لحظة وقوع الصواريخ وتناثر محتويات المقر، بينما لم يصب أي أمريكي بأذى، وبهذا أرادت طهران حفظ ماء وجهها عبر الإعلان عن ردها عسكريًا على تل أبيب بقصف أرض محايدة، تنكر الأخيرة وجود مقرات تابعة لها فيها، وكذلك لم يصب أهدافًا أمريكية في الحقيقة وإن بدا عكس ذلك.

ونفى محافظ أربيل وجود أي قواعد إسرائيلية في إقليم كردستان، وبالرغم من أن هناك تعاونًا كبيرًا بين المخابرات الأمريكية والإسرائيلية، إلا أنه بطبيعة الحال لا تتوافر معلومات واضحة عن مقرات سرية للموساد الإسرائيلي في كردستان، لكن هناك تصريح سابق صدر عن المتحدث باسم الحكومة الإسرائيلية، أوفير جندلمان، عقب توجيه إيران أصابع الاتهام لإسرائيل باغتيال العالم النووي محسن فخري زاده عام 2020، حول احتمال استهداف طهران مصالح إسرائيلية في الإقليم، وهو ما نفاه المتحدث باسم حكومة الإقليم جوتيار عادل قائلًا: «وجب إعلام كافة الأطراف، كما أعلنا في السابق أنه لا توجد أي مصالح أو مواطنين إسرائيليين في إقليم كردستان»، وهو ما يشير إلى احتمال أن تكون هناك مصالح لتل أبيب في المنطقة تتكتم عليها حكومة الإقليم، خاصة وأن هناك صلات قديمة بين قادة الحزب الكردستاني الحاكم، وبين جهاز الموساد.

وعلى الرغم من تأكيد السلطات المحلية على عدم وقوع قتلى، فإن موقع قناة «الميادين» المقرب من إيران نشر خبرًا عن مقتل 4 ضباط إسرائيليين، في واقعة تذكر بقصف قاعدة عين الأسد منذ سنتين حين تحدثت مصادر إيرانية عن مقتل 120 أمريكيا في الهجوم وهو ما ثبت عدم صحته.

وكان جيش الاحتلال الإسرائيلي أعلن حالة التأهب في منظومة الدفاع الجوي على طول الحدود مع سوريا ولبنان، بعد اغتياله ضابطين من الحرس الثوري الإيراني في التاسع من مارس/آذار الجاري في غارة جوية بمحيط دمشق.

ويأتي الهجوم في وقت وصلت فيه المحادثات النووية بين طهران والقوى الكبرى (بما فيها الولايات المتحدة) إلى مرحلتها النهائية، ويبدو أن الإيرانيين يحاولون تسخين المشهد وممارسة ضغط على واشنطن في لحظة لا تبدو فيها راغبة في الدخول في أي مواجهة عسكرية إطلاقًا، بل تتعجل إبرام تفاهمات مع إيران لإعادتها إلى الاتفاق النووي لأسباب داخلية منها إحراز إنجاز تحتاج إليه إدارة بايدن الآن، وأخرى خارجية منها التفرغ لمواجهة تداعيات الأزمة الأوكرانية، وهنا أيضًا توصل إيران رسائل لواشنطن مفادها أنها لن تتخلى عن أذرعها المسلحة في المنطقة، وهو مطلب أمريكي رفضت طهران إدراجه في المفاوضات النووية الجارية في العاصمة النمساوية فيينا.

وقد توقفت المباحثات بشكل مؤقت يوم الجمعة بسبب مطالبة روسيا (أحد أطراف الاتفاق النووي) بإعفاءات من العقوبات الأمريكية في تعاملاتها الاقتصادية مع إيران وهو ما رفضته الولايات المتحدة.

العراق: بلاد ما بين النارين

يقف العراق في موقف يُحسد عليه فهو لا يستطيع اتخاذ أي رد فعل حقيقي ضد إيران، بسبب نفوذها الهائل عليه، وامتلاكها فصائل مسلحة قوية على امتداد أراضيه، كما تملك الولايات المتحدة قوات عسكرية مرابطة هناك، ولذلك ظلت الأراضي العراقية الملعب المفضل بين طهران وواشنطن.

واستدعت وزارة خارجية العراق، الأحد، السفير الإيراني لديها، وسلمته مذكرة احتجاج، وفقًا لما أعلنه المتحدث باسم الخارجية العراقية أحمد الصحاف في بيان نشرته وكالة الأنباء العراقية «واع».

ووجه المرجع الشيعي مقتدى الصدر، الحائز على الأغلبية البرلمانية، في بيان نشرته وكالة الأنباء العراقية أيضًا، مطالبات إلى الجهات الرسمية برفع مذكرة احتجاج للأمم المتحدة والسفير الإيراني على الحادث.

ويأتي الهجوم الإيراني وسط أزمة سياسية تعيشها البلاد مع تعثر المفاوضات لتشكيل تحالف برلماني وانتخاب رئيس للجمهورية ورئيس للوزراء، وقد بدأت هذه الأزمة بعد الانتخابات التشريعية التي جرت في 10 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، وخسرت فيها قوى «الإطار التنسيقي» (تحالف القوى الشيعية في البرلمان العراقي) المقربة من طهران، وتدخلت إيران مرارًا لصالحهم دون أن يؤدي ذلك لحلحلة الأمور، فالصدر يريد تكوين حكومة أغلبية بالاشتراك مع تحالف «السيادة»، بقيادة الزعيمين السنيين خميس الخنجر ومحمد الحلبوسي (رئيس البرلمان العراقي)، والحزب الديمقراطي الكردستاني، ويهدف لاختيار ابن عمه جعفر السفير الحالي للعراق بالمملكة المتحدة ليكون رئيسًا للحكومة المقبلة.

ويريد «الإطار التنسيقي» الدخول في كتلة برلمانية واحدة مع الصدر لتشكيل جبهة شيعية، وإبعاد الصدر عن «التحالف الثلاثي» (تحالف القوى السنية والحزب الديمقراطي الكردستاني مع التيار الصدري)، وقد شهد الحراك السياسي في العراق نشاطًا ملحوظًا خلال الأيام الأخيرة بعد تجمد المشهد لأسابيع.

وتعرضت مقرات تابعة لتحالف خميس الخنجر، لهجمات خلال الفترة الماضية فيما اعتُبر رسائل تهديد من «الإطار التنسيقي»، ونفس الشيء حدث مع الحزب الديمقراطي الكردستاني، الذي قُصفت معاقله الأحد، وهو الحزب الذي من المقرر أن يتم اختيار رئيس البلاد من بين أعضائه ضمن تسويات ومباحثات بذلت طهران جهودًا لافتة للتأثير عليها.