هل يمكن الإمساك بالزمن، إيقافه، الغرق بشكل مكتمل في لحظة جميلة لنعيش فيها للأبد؟ بدأت السينما بلحظة الإيهام الكبرى، جمهور يجلس في قاعة عرض، قطار على شاشة العرض السينمائي الأولى يتحرك نحوهم، ليهرول الجميع هربًا، ما هو الحقيقي إذن وما هو المتخيل؟

أثناء مشاهدة فيلم «Between Revolutions» للمخرج الروماني «فيلاد بيتري» يسيطر عليك شعور بأنك في آلة زمن، بأنك تعيش الحكاية مرة أخرى، لحظة ديجافو تذكرنا بسينما المعلم الإيراني الكبير الراحل «عباس كيارستامي».

حكاية امرأتين

في «Between Revolutions» نتتبع مراسلات امرأتين، بين إيران ورومانيا، الفتاتان درستا معًا الطب في بوخارست، العديد من الطلبة الإيرانيين درسوا في رومانيا أثناء فترة الحكم الشيوعي، صداقة وحياة شابة، لا نراها في زمنها قدر ما نراها كفلاش باك ممتد عبر خطابات الامرأتين.

زهرة من إيران وماريا من رومانيا، نتعرف على صداقتهما وحياتهما خطوة تلو الأخرى، بلغة شاعرية، تنقل لنا اشتياقهما كليهما لزمن صداقتهما، كما تنقل لنا حياتهما الجديدة، زهرة في طهران وماريا التي انتقلت أولًا لمنطقة نائية في رومانيا لتعمل طبيبة عامة قبل أن تعود لبوخارست. يوميات طبيبة رومانية في الأرياف، الأمر لا يختلف كثيرًا عما نراه في أريافنا المصرية.

لكن لماذا عادت زهرة لإيران؟ الإجابة بسيطة، الثورة.

بين ثورتين

نتتبع عبر خطابات الامرأتين شغف زهرة بالتظاهرات في إيران ضد الشاه، الأب ناشط سياسي مدافع عن الحريات الشخصية وحقوق الفقراء، والأسرة تندمج بشكل مكتمل في مظاهرات وبيانات يشارك فيها عشرات الآلاف، من طوائف وفئات وأيديولوجيات مختلفة. هذا الحلم الجميل، الأمل الذي تصفه زهرة في عيون الإيرانيين، يدفع زهرة للبقاء.

المشاهد المختارة بعناية تظهر لنا فحوى الخطابات بتجمعات وخطابات المتظاهرين في بعض الأحيان، كما تظهر الشيء ونقيضه في بعض الأحيان، كأن نشاهد مشاهد من الحياة اليومية الإيرانية لأسرة تزور أحد حمامات السباحة، في نفس لحظة رؤيتنا لمظاهرات تحمل صورة الخميني، الرجل الذي عاد ليحكم إيران.

نشاهد تجمعات ومنشورات مدافعه عن الحريات الشخصية في بدايات الثورة الإيرانية، أمر يبدو كما الحلم.

حياة زهرة التي تتغير رويدًا رويدًا، يتبعها تغير في حياة ماريا أيضًا، حيث تندلع الثورة الرومانية بعد 10 سنين من الثورة الإيرانية، السكرتير العام للحزب الشيوعي الروماني «تشاوشيسكو» يستمع لأغاني المديح ثم يتم قتله، الآلاف من الرومانيين يتظاهرون في الشوارع، قبل أن ينتزع الجيش زمام الحكم.

الآلاف، ربما عشرات الآلاف من الرومانيين يسيرون جنبًا إلى جنب مع المدرعات العسكرية، يدًا بيد مع عناصر الجيش، ويهتفون بشكل ديجافوهي للغاية، الجيش معنا.

بين الواقع والخيال

الفيلم يعتمد بالكامل على مواد تسجيلية لا نبالغ إن وصفناها بالمذهلة، 5 مصادر أرشيفية من رومانيا ومصدر سري من إيران، كلها تحمل جودة سينمائية، لا يمكن لأكبر استديوهات هوليوود أن تصنع تصميم أزياء أو تصميم مواقع تصوير يقترب من جودة الحقيقة، إذا ما قارنا بين ما نراه هنا وما رأيناه مثلًا في Argo الفيلم الأمريكي المتوج بالأوسكار، فيبدو وكأنك تقارن بين الجودة المكتملة وبين ما تراه في مسرحيات الهواة.

الزمن صانع ديكور وأزياء لا يمكن منافسته، أزياء الرجال والنساء في إيران وتغيرها وتغيير شكل وأجواء الشوارع بين لحظات التظاهرات ضد الشاه ثم لحظات انتزاع الإسلاميين للحكم يتم إظهارها دون خطب زاعقة، الصورة تكفي، وخطابات الامرأتين التي تخفي أكثر مما تحكي كافية أيضًا.

تغير مزاج الرومانيين الاحتفالي في لحظات الثورة الأولى ثم معاناتهم الاقتصادية بعد قدوم الجيش للحكم يظهر كذلك دون أي حديث سياسي أو اقتصادي، الصورة، وفي بعض الأحيان دون صوت أيضًا تكفي.

الإيهام

يقدم المخرج الروماني فيلاد بيتري رفقة الكاتبة والروائية لافينيا برانيستا وبالطبع بمساعدة منتجهم المنفذ الإيراني وطاقمهم في إيران – الذي لم يتم الإفصاح عنه – لحظة إيهام سينمائية خالدة، نختبر فيها لمدة 68 دقيقة عالمًا لم يعد كما كان.

هذا المنجز على مستوى الصورة والكتابة والمونتاج وشريط الصوت، يترك بلمسة شديدة الذكاء والعطف، الكثير من الفراغات للمشاهد نفسه ليملأها عند نهاية الفيلم، لكي نراهن أن الفيلم سيبقى معك شعوريًّا ولا شعوريًّا بعد أن تنتهي منه. تبقى الحلاوة المختلطة بالمرار في بالك، أو كما يقول شاعرنا المصري الراحل «صلاح جاهين»: «أحلى ما في الحلق طعم المر من الذكرى».

كسر الحائط الرابع

هذا الإيهام والهيام بالفيلم يؤثر عليك كناقد شاهد الفيلم في خضم عمله في لجنة تحكيم أثناء فعاليات مهرجان برلين السينمائي لعام 2023، تكتمل الحكاية بكسر الحائط الرابع بلقائك بمخرج الفيلم وكاتبه، بالطبع بعد أن تتخذ لجنة التحكيم بالإجماع قرارها بالفعل بمنح الجائزة للفيلم.

بعد يومين من التبريكات، وبعد هدوء المشاعر، تعرف أكثر عن الفيلم، وعن الطاقم الإيراني الذي لم يتم الإفصاح عنه، الأمر يذكرنا بالفيلم الفائز بالدب الذهبي في عام 2020 «There is no Evil» أو «لا وجود للشيطان» للمخرج الإيراني محمد روسولوف الذي صور الفيلم خلسة ثم تم بعدها القبض عليه وإطلاق سراحه لأكثر من مرة آخرها هذا العام حينما قضى في السجن ما يزيد عن 6 شهور.

الأمر مختلف هنا أن ما عرضه الفيلم ليس حتى مشاهد تمثيلية، لكنها الحقيقة، الشوارع والبشر، من يمكنه نكران ذلك. يبدو الأمر هنا حساسًا بعض الشيء، لأنك تظن عزيزي القارئ أن الجوائز هنا تمنح لتعاطف سياسي أو إنساني وليس من أجل القيمة الفنية، لكن الأمر في حالتنا هذه مختلف تمامًا. لنفرض مثلًا أن هذا الفيلم تم عرضه لكائنات فضائية، في زمكان مختلف عن زماننا/ مكاننا، فإنه سيظل يحظى بنفس القيمة، فقط خبراتنا الشخصية كبشر هي ما تضيف لهذه القيمة الثابتة، قيمة شعورية مضافة، وهذا ما سيشعر به أي مشاهد مصري بمجرد مشاهدته للفيلم.

يمكننا تمني أن يتاح الفيلم للمشاهدة قريبًا، وإلى حينه يمكنك الاستمتاع بأغاني الإيرانية مارجان فارصاد التي يصحبنا صوتها في الكثير في أحداث الفيلم.