حظيت الكتب المقدسة بمكانةٍ مهمة في الأنساق الدينية، وذلك باعتبارها كلمة الله، التي تحمل مراده وشريعته إلى العباد، فقد كان من الطبيعي -والحال كذلك- أن يعمل كل دين على إثبات معصومية وحفظ كتابه المقدس، لما في ذلك من تأكيد على صحة معتقداته وأفكاره.

في هذا السياق، من الممكن أن نتفهم سبب الجدل المستمر حول صحة الكتب المقدسة المعتبرة في الأديان الإبراهيمية الثلاث الكبرى، وهي التناخ عند اليهود، والكتاب المقدس عند المسيحيين، والقرآن الكريم عند المسلمين، على الترتيب.

تاريخ الكتاب المقدس

يطلق اسم الكتاب المقدس، على الكتاب الديني المعتمد عند المسيحيين بكافة طوائفهم، سواء كانوا من الكاثوليك، أو الأرثوذكس، أو البروتستانت.

بحسب ما هو معروف، فإن الكتاب المقدس ينقسم إلى قسمين، القسم الأول، وهو المُسمى بالعهد القديم -وهو نفسه الذي يعرفه اليهود باسم التناخ- ويحتوي على كتب اليهود البالغ عددها تسعًا وثلاثين سفراً، وتضم أسفار التوراة الخمسة، فضلاً عن أسفار الأنبياء، والكتب؛ والقسم الثاني، وهو المُسمى بالعهد الجديد، ويحتوي على الكتب المسيحية السبعة والعشرين، والتي تضم الأناجيل الأربعة، وأعمال الرسل، والرسائل، فضلاً عن سفر الرؤيا.

فيما يخص العهد القديم، فإن معظم أسفاره قد كُتبت باللغة العبرية، كما أن بعضها قد كُتب باللغة الآرامية، وقد تم جمعها على يد النبي عزرا الكاتب عقب العودة من السبي البابلي، في منتصف القرن الخامس قبل الميلاد.

كما هو معروف، فقد تمت ترجمة العهد القديم إلى العديد من اللغات، وكان أشهر تلك الترجمات، تلك التي عُرفت بالترجمة السبعينية. بحسب الرواية المسيحية الشائعة، فإن تلك الترجمة قد تمت على يد بطليموس الثاني فيلادلفوس، حاكم مصر في القرن الثالث قبل الميلاد، وذلك عندما قام في سنة 285ق.م، بجمع اثنين وسبعين مترجماً في الإسكندرية، وعهد إليهم بمهمة ترجمة العهد القديم إلى اللغة اليونانية، الأمر الذي سهل من مهمة نشر المعارف اليهودية بين الكثير من اليهود الذين أقاموا في مصر في تلك الحقبة، والذين ضعف ارتباطهم باللغة العبرية كثيراً بعد هجرة أجدادهم من فلسطين.

أما فيما يخص أسفار العهد الجديد، فيمكن القول إن الكثير من الجدل قد دار حولها في القرون الأولى للميلاد، وحول إذا ما كانت تلك الأسفار قانونية وإلهية المصدر، أم أنها منحولة/ أبوكريفية، وفي القرن الرابع الميلادي تحديداً تم الاتفاق على قانونية السبعة والعشرين سفراً، الذين تألف منهم العهد الجديد، لتعتمدهم أغلبية الكنائس المسيحية حول العالم.

أسفار العهد الجديد كُتبت باللغة اليونانية، والتي كانت اللغة الأوسع انتشاراً في القرون الأولى بعد الميلاد، ولا سيما بعد فتوحات الإسكندر المقدوني في كل من آسيا وأفريقيا؛ وفي بدايات القرن الخامس الميلادي، قام القديس جيروم بتقديم ترجمته اللاتينية الشعبية للكتاب المقدس، وهي الترجمة التي عرفت باسم «الفولجاتا»، والتي تم اعتمادها في الكنيسة الكاثوليكية، وتأثرت بها جميع الترجمات الأوروبية اللاحقة.

من جهة أخرى، فإننا نجد أن الإيمان المسيحي التقليدي يؤكد على أن جميع الأسفار الواردة في الكتاب المقدس -بعهديه- هي أسفار إلهية، وأنه قد أوحي بها، سواء عن طريق الوحي الحرفي الذي أوحيت به بعض أسفار العهد القديم، أو عن طريق الوحي الإلهامي الذي أوحيت به الأناجيل وأسفار العهد الجديد، وفي ذلك المعنى يقول العهد الجديد بحسب ما ورد في رسالة بولس الرسول الثانية إلى تيموثاوس «كل الكتاب هو مُوحَى به من الله».

من هنا، يرى المسيحيون في الكتاب المقدس، كلمة الله المعصومة، التي لا يمكن القدح فيها، ويؤكدون على أنها قد حُفظت على مر القرون، وأنها باقية ولن يصيبها الفناء أو الضياع، ويستدلون على ذلك بما ورد في إنجيل متى على لسان المسيح «فإني الحق أقول لكم إلى أن تزول السماء والأرض لا يزول حرف واحد أو نقطة واحدة من الناموس حتى يكون الكل»، وما ورد في إنجيل لوقا «السماء والأرض تزولان ولكن كلامي لا يزول».

النظرة القرآنية للكتاب المقدس

لما كانت شبه الجزيرة العربية قد عرفت وجود اليهود والمسيحيين على أراضيها، عشية الدعوة المحمدية، في بدايات القرن السابع من الميلاد، فقد كان من الطبيعي –والحال كذلك- أن يتحدث القرآن الكريم عن الكتب المقدسة التي عرفها أهل الكتاب، في الكثير من مواضعه، وبينما نجده –أي القرآن- وقد تغافل تماماً عن ذكر مصطلح الكتاب المقدس، فإننا نجده يتحدث عن كتاب التوراة التي أُنزلت على النبي موسى، وعن كتاب الإنجيل الذي أُنزل على النبي المسيح عيسى بن مريم.

في الحقيقة، توجد سمتان مهمتان للتصور الإسلامي الخاص بنزول التوراة والإنجيل، أولهما، أن التراث الإسلامي يحفل بالكثير من الأخبار التي أكدت على أن كلاً من التوراة والإنجيل، قد أنزلا على موسى وعيسى، دفعة واحدة، وليس بشكل منجم ومفرق كما وقع في حالة نزول القرآن الكريم على الرسول، الأمر الذي تغافل عن المدى الزمني الطويل الذي شهد تدوين الأسفار المقدسة، والذي قدره بعض الباحثين المسيحيين بما يقرب من الألف وستمائة عام (الفارق الزمني بين تدوين أسفار التوراة الخمسة على يد النبي موسى، وتدوين سفر الرؤيا على يد يوحنا اللاهوتي).

أما ثاني تلك السمات، فتتمثل في أن القرآن الكريم قد نظر إلى الإنجيل على كونه كتاباً منزلاً من الله عز وجل إلى المسيح، الأمر الذي يختلف بشكل كامل عن النظرة المسيحية التقليدية للأناجيل الأربعة المُعترف بها -متى، ولوقا، ويوحنا، ومرقس- والتي تعتقد أن كل كتاب من الكتب الأربعة كان بمثابة سيرة وتأريخ للمسيح، بحسب وجهة نظر أحد المعاصرين له.

على الرغم من اعتراف القرآن بأن الكتب الإلهية السابقة عليه، قد حملت كلمة الله ورسالته إلى البشر عند نزولها، فإن الآيات القرآنية لم تعط جواباً قاطعاً على محتوى الكتب الإلهية التي كانت موجودة ومنتشرة في زمن البعثة المحمدية، فبينما ذهبت بعض الآيات إلى أن اليهود والنصارى قد حرفوا محتوى تلك الكتب، فإن البعض الآخر منها قد أكد على مصداقية وإلهية هذا المحتوى.

من النوع الأول، ما ورد في الآية 75 من سورة البقرة «أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ»، والآية 13 من سورة المائدة «يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ».

أما النوع الثاني، فمنه ما ورد في الآية رقم 43 من سورة المائدة «وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله»، والتي جاء في تفسيرها بحسب ما ورد في صحيحي البخاري ومسلم، أن اليهود قد سألوا الرسول عن حكم الزنا، فأخرج لهم عبد الله بن سلام -وهو أحد أحبار اليهود الذين أسلموا- حكم رجم الزاني المحصن من التوراة، ومن ذلك أيضاً ما ورد في الآية 47 من سورة المائدة «وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه».

الاختلاف حول معنى التحريف

بقي الخلاف حول مسألة تحريف التوراة والإنجيل، قائماً في الفكر الإسلامي في فترة القرون الأولى من الهجرة، إذ ظهرت بعض الآراء التي أكد أصحابها على وقوع التحريف اللفظي في تلك الكتب، فيما ظهرت مجموعة من الآراء المقابلة، والتي مال أصحابها للقول بأن التحريف المقصود، كان تحريفاً في المعنى وليس اللفظ، وعلى هذا فإن تحريف التوراة والإنجيل، يُقصد به تأويل ما ورد في هذه الآيات، بعيداً عن مراد الله عز وجل.

من أشهر من قال بذلك الرأي، ترجمان القرآن، وحبر الأمة، الصحابي عبد الله بن العباس المتوفى 68هـ، والذي نُقل عنه قوله «معاذ الله أن تعمد أمة من الأمم إلى كتابها المنزل على نبيها فتبدله… وإنما بدلوه وحرفوه بالتأويل…»، وذلك بحسب ما ورد في تاريخ عبد الرحمن بن خلدون المتوفى 808هـ. المحدّث الشهير محمد بن إسماعيل البخاري المتوفى 256ه، كان أيضاً من أشهر من قالوا بذلك الرأي، إذ ذكر في كتابه «صحيح البخاري»، في معنى كلمة يحرفونه «يحرفون: يزيلون، وليس أحد يزيل لفظ كتاب من كتب الله عز وجل، ولكنهم يحرفونه يتأولونه على غير تأويله».

هذا القول بقي قائماً ومعتبراً عند الكثير من العلماء والفقهاء على مر القرون، على سبيل المثال يذكر فخر الدين الرازي المتوفى 606هـ، في كتابه مفاتيح الغيب مجموعة من الأقوال في تفسير معنى التحريف، ثم يعلن عن رأيه الخاص فيقول «إن المراد بالتحريف: إلقاء الشبه الباطلة، والتأويلات الفاسدة، وصرف اللفظ عن معناه الحق إلى معنى باطل بوجوه الحيل اللفظية، كما يفعله أهل البدعة في زماننا هذا بالآيات المخالفة لمذاهبهم، وهذا هو الأصح».

التحول المفصلي الأهم في تاريخ النظرة الإسلامية للكتب المقدسة السابقة للإسلام، وقع ابتداءً من القرن الثالث الهجري/ التاسع الميلادي، وذلك بعد أن تمت ترجمة الكثير من أجزاء الكتاب المقدس للغة العربية، وكانت محاولة رجل الدين اليهودي سعديا بن جاؤون بن يوسف الفيومي، عندما قام بترجمة أسفار التوراة الخمسة في العراق، واحدة من أولى الخطوات المهمة على ذلك الدرب، ولا سيما أن تأثر سعديا بالثقافة الإسلامية، قد وضح بشكل كبير في ترجمته.

بالتزامن مع ترجمة سعديا بن جاؤون في المشرق الإسلامي، وقعت بعض الترجمات المشابهة في الأندلس، في أقصى الغرب الإسلامي، وذلك عندما تمت ترجمة الكتاب المقدس على يد بعض رجال الدين المسيحي المتقنين للغة العربية، ولم يمر وقت طويل حتى وجد العلماء المسلمون أنفسهم وهم يمسكون في أياديهم بنسخ عربية من التوراة والأناجيل، الأمر الذي أثار دهشتهم وانزعاجهم في آن، بعدما اكتشفوا أن تلك الترجمات تحكي قصص الأنبياء المعصومين بطريقة مختلفة تماماً عن الطريقة التي وردت بها قصصهم في القرآن الكريم، وأنها -أي ترجمات الكتاب المقدس- تصف الأنبياء بارتكاب الكبائر والخطايا العظيمة ومنها الشرك بالله والقتل والزنا والكذب، كما أن تلك الترجمات تخلو -بالكلية- من أي إشارات صريحة بخصوص البشارة بالنبي محمد، الأمر الذي يتعارض بشكل صارخ مع ما ورد في النص القرآني.

تلك الصدمة، حدت بالفقيه الأندلسي الشهير أبو محمد علي بن حزم القرطبي المتوفى 456ه -والذي كان واحداً من أهم العلماء المسلمين الذين دافعوا عن المعتقدات الإسلامية ضد العلماء اليهود والمسيحيين المنتشرين في أرض الأندلس- للتأكيد على القول بالتحريف اللفظي للتوراة والأناجيل، وشجّعه ذلك فيما بعد على دراسة تلك الترجمات بشكل دقيق، ونقدها في كتابه الموسوعي الشهير «الفِصل في الأهواء والملل والنحل»، والذي يُعدّ أحد أول الكتب الإسلامية في حقل مقارنة الأديان.

ابن حزم كان واحداً من أوائل العلماء المسلمين، الذين التفتوا للاختلاف بين التصورين القرآني والكتابي للإنجيل، فنراه يذكر في كتابه «إن النصارى لا يدعون أن الأناجيل منزلة من عند الله تعالى على المسيح، ولا أن المسيح عليه السلام أتاهم بها، بل كلهم أولهم عن آخرهم لا يختلفون في أنها أربعة تواريخ ألفها أربعة رجال معروفون في أزمان مختلفة»، وفي السياق نفسه، تتبع ابن حزم الكثير من القصص الواردة في الكتاب المقدس، فقارن بينها من جهة وبين ما ورد في القرآن الكريم من جهة أخرى، فأثبت نقاط الخلاف والتمايز بين الجانبين.

المجهودات الكبرى التي بذلها ابن حزم -ومن تابعه- في دراسة الكتاب المقدس، ألقت بظلالها على النظرة الإسلامية الجمعية للتوراة والإنجيل، إذ انتصرت للرأي الذاهب لتحريفهما تحريفاً لفظياً وحرفياً، ومن ثم لم يكن من الغريب، أن تظهر بعد ذلك بعض الآراء -شديدة التطرف- والتي تحط من شأن الكتاب المقدس ككل، للدرجة التي حدت ببعض الفقهاء المتأخرين من الشافعية للقول «بأنّ غير المحترم من الكتب ككتب الفلسفة وكذا التوراة والإنجيل إذا علم تبدّلهما وخلوّهما عن اسم معظم فإنّه يجوز الاستنجاء به…»، وذلك بحسب ما ورد في «الموسوعة الفقهية الكويتية».