في أول أيامه في المنصب رسميًا، أصدر الرئيس الجديد جو بايدن قرارًا بإلغاء 17 قرارًا أصدرهم سلفه دونالد ترامب. من أبرز تلك القرارات الملغاة قرار ترامب بمنع دخول الأفراد القادمين من الدول ذات الأغلبية المسلمة لداخل الولايات المتحدة، إضافة إلى عودة الولايات المتحدة لاتفاقية باريس للمناخ، والعودة كذلك إلى منظمة الصحة العالمية وتمويلها كما اعتادت الولايات المتحدة أن تفعل. أيضًا سوف يوقف بايدن بناء الجدار الحدودي مع المكسيك، وتجميد تمويله من ميزانية البنتاجون.

تلك التغييرات الداخلية تشير إلى أن ملامح السياسة الأمريكية سوف تتغير في عهد بايدن، سواء كانت السياسة الداخلية أو الخارجية. فعبارة أمريكا أولًا التي جعلها ترامب محور كافة قراراته، وبناءً عليها لم يفكر مرتين في الانسحاب من أي اتفاقية لا يرى فيها مصلحة لبلاده، فكان ترامب بمثابة التاجر الذي يريد الربح بأي صورة وفي أسرع وقت، كما اعتمد في سياساته الدولية على مشاعره الشخصية تجاه قادة الدول المختلفة.

 لكن يبدو أن تلك التصرفات سوف تتراجع قليلًا ليحل محلها بعض من المواءمة والتفكير في السياسة الدولية باعتبارها منفعة متبادلة، وأن العالم لا يدور حول الولايات المتحدة كما كان ترامب يرى، بل يدور العالم حول المصلحة المشتركة وبعض القيم المُعلنة مثل الديموقراطية وحقوق الإنسان.

لهذا أشاد ترامب بالعديد من الديكتاتوريين، وأهان العديد من حلفاء الولايات المتحدة القدامى، ما يضع على رأس أولويات بايدن إصلاح ما أفسده ترامب وتسكين العلاقات المتوترة بين أمريكا ودول حلفاء شمال الأطلسي، وإعادة الولايات المتحدة إلى كافة الاتفاقيات الدولية كي تستمر في لعب دور القيادة والأخ الأكبر لدول العالم.

المضمون واحد، الاختلاف في الأسلوب

ربما تكون التغييرات التي سيقوم بها بايدن تغييرات في الأسلوب لا في المضمون، لأن السنوات السابقة أثبتت أن الأساليب القاسية التي استخدمها ترامب حافظت على صدارة الولايات المتحدة كذلك، وهو نفس الهدف الذي يسعى إليه رؤوساء الولايات المتحدة عبر التاريخ.

الاختلاف في المضمون قد يتجلى في قضايا أخرى مثل المحافظة على البيئة والتغيير المناخي، فترامب يناقض فيها بايدن تمامًا، الأول يرى التغير المناخي وهمًا اخترعته الدول الأخرى لسلب أموال الولايات المتحدة، وتحجيم اقتصادها. أما بايدن فيؤمن بالتغير المناخي، وأعلن عن خطة بقيمة 2 تريليون دولار لهدف واحد وهو خفض الانبعاثات الغازية.

أما الاتفاق الآخر الذي أعلن بايدن أنه سيعود إليه فهو الاتفاق النووي الإيراني، ما يعني أن بايدن سيتجه إلى الانفتاح على إيران بصورة أكبر، وتقليص العقوبات المفروضة عليها مقابل تخفيضها لبرنامجها النووي. فبايدن يرى أن سياسة الضغط لأقصى حد التي انتهجها ترامب سياسة فاشلة، وأدت إلى تصدّع كبير في العلاقات الدبلوماسية، وأن إيران رغم عقوبات السنوات الأربع الماضية في طريقها لامتلاك سلاح نووي.

اختلاف آخر يُتوقع أن تشهده المنطقة هو إلغاء دعم الولايات المتحدة لحرب اليمن، بجانب العديد من التغييرات التي سيشهدها الشرق الأوسط بالضرورة مع وجود ديموقراطي بدلًا من جمهوري في السلطة.

لكن لا يُحتمل أن يطول التغيير الترحيب الأمريكي الهائل بسياسات التطبيع العربية مع إسرائيل، بل يُعتبر بايدن من الحرس القدامى في الحزب الديموقراطي المؤيدين بشدة لإسرائيل، ولم يصفها في أي خطاب له باسم احتلال أو كيان، كما وصفها أوباما أحيانًا.

التطبيع يجمع النقيضين

اتفاق بايدن وترامب حول ضرورة التطبيع العربي الإسرائيلي، يضاف إليه اتفاقات أخرى في السياسة الخارجية. فبايدن مثل ترامب يريد إنهاء الوجود العسكري الأمريكي في أفغانستان والعراق، ويتفق كلاهما أيضًا في الجملة الإضافية التي تُلحق بإنهاء الوجود العسكري، الاحتفاظ بعدد قليل من الجنود في البلدين للمساعدة في محاربة الإرهاب. كذلك لن يُخفض بايدن ميزانية البنتاجون، ولن يُعلق عمليات القتل والاستطلاع بواسطة الطائرات بدون طيار.

ثم يعود الاثنان ليختلفا في طبيعة التعامل مع القيصر الروسي، فبينما كان ترامب مستعدًا ليغفر لبوتين أي شيء، فإن بايدن يبدو أكثر تربصًا بالجانب الروسي لفرض المزيد من العقوبات عليها. فقد أعلن بايدن غير مرة أنه يعتبر روسيا خصمًا لا حليفًا، وأنه سيرد بعنف على التدخل الروسي في الانتخابات الأمريكية، كما سيتعامل بصرامة مع الأقوال المتناثرة عن قيام الروس بإغراء جماعات طالبان وإمدادهم بالمال من أجل استهداف القوات الأمريكية في أفغانستان.

لكن في الوقت نفسه يقول بايدن إنه سيتعاون مع روسيا من أجل الحفاظ على اتفاقات الحد من السلاح النووي، وقد كان ترامب قد انسحب من اثنتين منهما متهمًا روسيا بعدم الوفاء بعهدها.

أما بخصوص الصين فبايدن سوف يفعل مثلما فعل ترامب، حرب ضروس مع الصين وتضييق عليها في كافة الأصعدة، لكن ما قد يختلف هو طريقة القيام بتلك الحرب. وتُعتبر الصين من الملفات النادرة التي يتبنى الجمهوري والديموقراطي نحوها نفس وجهة النظر، المعاملة المشددة والتضييق التجاري، لكن الاختلاف يكمن في الأسلوب.

ولاية أوباما الثالثة

بايدن يُعتبر ثمرةً طبيعيةً وأصيلة للمجتمع الأمريكي وللمؤسسات الحاكمة فيه، وقد برهن أكثر من مرة على أنه يلتزم بموازين القوى التقليدية، ويحترم التقاليد العريقة التي اعتادتها السياسة الأمريكية. فرغم أن السياسة الداخلية ستكون محكومةً بتوجه الأغلبية الديموقراطية في الكونجرس، غير أنه وعد بالتعاون المشترك مع الجمهوريين للوصول إلى أفضل السياسات التي يتوافق حولها الطرفان.

ويمكن ببساطة فهم ملامح سياسات بايدن الخارجية عبر العودة إلى فترة الرئيس الأسبق باراك أوباما وفهم ما جرى فيها من تعديلات في مجرى السياسة الخارجية، حيث استطاع أوباما، على سبيل المثال، أن يُصر على موقفه بضرورة استبدال الرئيس السوري بشار الأسد، وفي نفس الوقت لم يصطدم بروسيا. كما تمكّن أوباما من تجميد النمو الصيني، دون أن يصطدم بها بشكل مباشر كما فعل ترامب.

ومن الملفات التي يتوقع أن يديرها بايدن بصورة مختلفة هي التعاطي مع الرئيس التركي «رجب طيب أردوغان». فبعد أن اعتادت تركيا على لغة التهديدات والعقوبات، ينتظر الأتراك من بايدن أن يعتمد على الحوار والتفاوض. كما تتمنى تركيا أن يتخذ بايدن موقفًا مضادًا لجماعة كولن بحيث تتجلى آثار ذلك الموقف، فرغم أن إدارة ترامب قد فرضت عقوبات على المدارس التابعة له، وبدأت تحقيقات موسعة مع كبار قادته، إلا أن تلك الإجراءات لم تسفر عن شيء.

إجمالًا، يدور همس في الأوساط الرسمية في مختلف الدول بأن فترة بايدن ما هي إلا إحياء لفترتي أوباما، وأن سياساته لن تختلف كثيرًا عن سياسات أوباما، حيث خدم بايدن كنائبٍ له لثمان سنوات، لكن بايدن المتلعثم ظاهرًا، والمتهم بقضايا تحرش باطنًا، يمكن أن يفجر مفاجآت عدةٍ بالسير على نهجه الخاص، وحتى إذا كانت سياساته لن تختلف عن أوباما، فإنها بالتأكيد لن تتطابق، والسنوات الأربع القادمة ستظهر صواب تلك التكهنات من عدمها.