على الرغم من أن المصادر التاريخية الإسلامية قد ذكرت أسماء المئات من الصحابة والتابعين، فإن بعض تلك الأسماء قد أُحيطت بهالة من الغموض، خصوصاً بعدما ارتبطت بالعديد من الأحداث الغريبة والتي تنطوي على نوع من أنواع الخوارق والمعجزات.

في مقدمة تلك الأسماء، يأتي اسم أبي مسلم الخولاني، ذلك الرجل الغامض الذي اختلف المؤرخون حول إذا كان صحابياً أو تابعياً، والذي نُسجت حوله العديد من القصص الأسطورية التي شبهته بالأنبياء والرسل، الأمر الذي يدفعنا دفعاً للتفتيش في سيرته، في محاولة لفهم أسباب تبجيله وتعظيمه في المُخيال السني الجمعي على وجه الخصوص.

أبو مسلم الخولاني في المصادر التاريخية

على الرغم من الشهرة الكبيرة التي تمتعت بها شخصية أبي مسلم الخولاني في المِخيال الإسلامي بوجه عام، والسني منه على وجه الخصوص، فإننا سنلاحظ أن الأغلبية الغالبة من المعلومات المتوافرة عن تلك الشخصية، غير دقيقة، وغير محددة، بل يمكن القول إن الكثير من تلك المعلومات تتعارض مع بعضها البعض بشكل صريح.

هذا التعارض يظهر بشكل واضح فيما يخص تحديد اسمه، إذ سنجد أن أغلبية المصادر التاريخية، تسميه أحياناً بعبد الله بن ثوب، وفي أحيان أخرى، تسميه بعبد الله بن عبد الله، هذا في الوقت الذي وردت فيه بعض الروايات النادرة التي تسميه بيعقوب بن عوف.

الاختلاف يمتد لتحديد سنة ميلاده، ففي الوقت الذي ذهبت فيه بعض الروايات إلى أنه قد ولد يوم معركة حنين في شهر شوال من العام الثامن من الهجرة وذلك بحسب ما رجح أبو نُعيم الأصبهاني المتوفى 430هـ في كتابه «حلية الأولياء وطبقات الأصفياء»، فإن الأغلبية الغالبة من المؤرخين قد رفضوا ذلك، وأكدوا على أنه قد ولد قبل الهجرة النبوية، واستدلوا على ذلك بما تواتر من أخبار تثبت أن أبا مسلم لما دخل إلى المدينة في عهد أبي بكر الصديق، في السنة الحادية عشر من الهجرة، كان رجلاً كبيراً.

مما يتصل بتلك النقطة، الخلاف حول مسألة صحبة الخولاني للرسول، ففي حين عدّه البعض من الصحابة، فإن الأغلبية الغالبة من كتب التراجم والطبقات، قد أكدت على كونه تابعياً، لأنه وإن كان قد أسلم في زمن الرسول، فإنه لم يره قط.

فيما يخص أصوله القبلية، فمن الشائع والمعروف، أن أبا مسلم ينتمي إلى قبيلة خولان، وهي إحدى القبائل الكبيرة التي سكنت اليمن منذ فترة موغلة في القدم، وذلك بحسب ما يذكر الدكتور جواد علي في كتابه «المُفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام». بحسب أرجح الأقوال، فإن أبا مسلم الخولاني قد شارك في الجيش العربي الذي قاتل على الجبهة الشامية، وكان من بين القوات التي قادها خالد بن الوليد أثناء قتال الروم البيزنطيين، فلما استولى المسلمون على تلك المنطقة، سكن أبو مسلم مع قومه من بني خولان في مدينة داريا، وهي مدينة صغيرة تقع بالقرب من مدينة دمشق.

أبو مسلم كان من بين الرواة التي ضمت المتون الحديثية الكثير من رواياتهم، إذ ذكرت تلك المتون عشرات الروايات التي نقلها عن كبار الصحابة من أمثال كل من عمر بن الخطاب، ومعاذ بن جبل، وأبي عبيدة بن الجراح، وأبي ذر الغفاري، وعبادة بن الصامت. هذا في الوقت الذي روى عنه عدد كبير من أعلام التابعين ومشاهيرهم، من أمثال كل من أبي إدريس الخولاني، وأبي العالية الرياحي، وعطاء بن أبي رباح، وعطية بن قيس، وعمير بن هانئ.

من جهة أخرى، سنجد أن المدونات السنية قد تحدثت كثيراً عن زهده وورعه وعبادته، ومن ذلك ما ذكره شمس الدين الذهبي المتوفى 748هـ في كتابه «سيّر أعلام النبلاء»، من أنه –أي أبي مسلم الخولاني- كان يداوم على صلاة التطوع، حتى قيل إن بعض الناس قد أحصى عدد ركعات صلاته ذات يوم، فوجده وقد صلى ثلاثمائة ركعة؛ ومن ذلك أنه كان يعلق في المسجد سوطاً، وكان يقول «أنا أولى بالسوط من البهائم»، وكان معتاداً على أن يؤدب نفسه بهذا السوط إذا ضعفت همته أو فتر عن العبادة؛ أيضاً، تحدثت الروايات عن حرصه على الجهاد في أرض الروم، وكيف أنه كان معتاداً على الصوم في أثناء السفر.

كل تلك السمات حدت بالكثير من علماء أهل السنة والجماعة للاتفاق على عظم مكانة أبي مسلم، حتى عدّه الكثيرون واحداً من الزهاد الثمانية، وهم ثمانية رجال من أكابر التابعين، من الذين عُرفوا بالزهد والتقوى والصلاح، حتى ضُرب بهم المثل في العبادة، وشاع أمرهم بين العامة والخاصة، ومن ذلك أيضاً ما وصفه به يحيى بن شرف النووي المتوفى 676هـ في كتابه «المنهاج في شرح صحيح مسلم بن الحجاج»، إذ يقول: «وهو –أي أبي مسلم- مشهور بالزهد، والكرامات الظاهرة، والمحاسن الباهرة…».

من الملاحظات المهمة التي توضح كيف تعرضت سيرة أبي مسلم الخولاني للكثير من المبالغة، أن الكثير من الروايات قد أكدت على تعظيم أهل الكتاب –من اليهود والمسيحيين- له، وكيف أنهم قد عظموه وغالوا في التأكيد على مكانته، ومن ذلك ما أورده أبو نُعيم الأصبهاني في كتابه، عندما ذكر أن كعب الأحبار كان يسمي أبا مسلم بـ«حكيم الأمة»، وأيضاً ما ذكره الذهبي من أن بعض المسلمين الشاميين قد مروا على راهب مسيحي في صومعته، فلما رآهم خرج لهم، وسألهم عن أبي مسلم الخولاني، ثم قال لهم: «إذا أتيتموه، فأقرئوه السلام؛ فإنا نجده في الكتب رفيق عيسى ابن مريم…».

رغم كل تلك الشهرة، فإن الخلاف يعود مرة أخرى ليطل برأسه عند مناقشة توقيت وفاة أبي مسلم، ففي حين ذكرت بعض الأخبار أنه قد توفي زمن خلافة معاوية بن أبي سفيان، وأن معاوية لما عرف بوفاته قد أظهر الحزن وقال: «إنما المصيبة كل المصيبة بموت أبي مسلم الخولاني»، فإننا نجد بعض الروايات الأخرى التي تؤكد على أن وفاته قد وقعت في العام الثاني والستين من الهجرة، زمن خلافة يزيد بن معاوية.

كرامات وخوارق لا حصر لها

ذكرت المصادر التاريخية الإسلامية -ولا سيما تلك المصطبغة بالصبغة السنية- عدداً كبيراً من أخبار الكرامات والخوارق التي وقعت على يد أبي مسلم الخولاني. من أشهر تلك الكرامات، ما ذكره ابن عساكر المتوفى 571هـ في كتابه «تاريخ دمشق»، عندما تحدث عن الأسود العنسي الذي ادّعى النبوة في اليمن، وكيف أنه قد سأل أبا مسلم الخولاني إذا كان يصدق دعوته أم لا، فلما سكت أبو مسلم ورفض الإقرار له بالنبوة، أمر العنسي بإشعال نار عظيمة، ثم ألقى بالخولاني فيها، وتؤكد القصة على أن أبا مسلم قد مكث في النار وهو يصلي ويدعو لله عز وجل، فلم يصبه أي أذى، فلما شاهد العنسي وأتباعه هذه المعجزة، أخرجوا أبا مسلم من اليمن حتى لا يفسد عليهم أمرهم.

بعدها تُستكمل القصة بأن الخولاني قد قدم إلى المدينة المنورة وقد سبقه إليها خبر كرامته، فاستقبله عمر بن الخطاب ولم يكن يعرفه، وسأله عن خبر الرجل الذي خرج من النار سالماً في اليمن، فلما عرف أنه هو نفسه، أخذه وانطلق به إلى الخليفة أبي بكر الصديق، وقال «الحمد لله الذي لم يمتني حتى أراني في أمة محمد صلى الله عليه وسلم من صنع به كما صُنع بإبراهيم الخليل».

كرامة الخروج من النار لم تكن الكرامة الوحيدة التي عُرف بها الخولاني في التراث السني، بل نجده يفعل كرامة أخرى تتشابه كثيراً مع ما وقع مع النبي موسى عندما قاد بني إسرائيل ليعبروا البحر ويهربوا من ملاحقة فرعون وجيشه، قصة تلك الكرامة حكاها ابن كثير الدمشقي المتوفى 774هـ في كتابه «البداية والنهاية»، عندما ذكر أن أبا مسلم كان يشارك في بعض المعارك ضد الروم البيزنطيين في ناحية من نواحي بلاد الشام، ولما وجد المسلمون أنفسهم مضطرين لعبور أحد الأنهار لملاحقة جيش العدو، ولم يكن معهم السفن، فإن أبا مسلم قد دعا الله، قائلاً: «اللهم أجزت بني إسرائيل البحر، وإنا عبادك في سبيلك فأجزنا هذا النهر، ثم قال: اعبروا بسم الله»، وتُستكمل الرواية بأن الجيش كله قد اجتاز النهر دون أن يفقد أحدًا من جنوده.

بحسب المشهور، فإن كرامات أبي مسلم قد قدمت الإفادة والعون للمسلمين في الكثير من اللحظات الحرجة التي واجهتهم، ومن ذلك ما ذكره هبة الله اللالكائي المتوفى 418هـ في كتابه «شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة»، عندما تحدث عن أن المطر لما كان يتأخر، فإن المسلمين كانوا يلجؤون لأبي مسلم، ويستسقون به، فكان المطر عندها ينزل بغزارة. في بعض الأحيان، تم توظيف كرامات الخولاني في بعض المواقف الطريفة نوعاً ما، ومن ذلك ما ذكره اللالكائي في كتابه، أنه «ربما قال الصبيان لأبي مسلم الخولاني إذا مر الظبي: ادع الله يحبس علينا هذا الظبي، فيدعو الله فيحبسه».

أيضاً، تحدثت الكثير من القصص عن كرامات الخولاني مع أهل بيته، ومن ذلك أن جاريته قد صارحته ذات يوم، بأنها قد اعتادت أن تضع له السم في طعامه، وأنها تتعجب من أنه يقوم سليماً معافاً دون أن يصيبه أذى، فقال لها مفسراً: «إِنِّي كُنْتُ أَقُولُ إِذَا أَرَدْتُ أَنْ آكُلَ: بِسْمِ اللَّهِ خَيْرِ الْأَسْمَاءِ الَّذِي لَا يَضُرُّ مَعَ اسْمِهِ دَاءٌ رَبِّ الْأَرْضِ وَرَبِّ السَّمَاءِ».

في السياق نفسه، ذكر اللالكائي خبر أبي مسلم مع زوجته الصالحة، وكيف أن إحدى النساء قد أوغرت صدرها عليه ذات مرة، وزينت لها أن تطلب من الخولاني ما لا يقدر عليه من المال والمتاع، فلما عرف أبو مسلم بذلك، دعا على تلك المرأة فعميت، فجاءته بعدها وقالت: «يا أبا مسلم: إني قد كنت فعلت وفعلت، وإني لا أعود لمثلها، فقال: اللهم إن كانت صادقة فاردد عليها بصرها قال: فأبصرت».

كرامات تحويل الأشياء من صورة إلى أخرى، نُسبت أيضاً إلى أبي مسلم، وفي ذلك يحكي الحسن بن محمد الخلال المتوفى 439هـ في كتابه «كرامات الأولياء»، أن أبا مسلم قد حمل كيسه وخرج يوماً ليشتري دقيقاً من السوق ولم يكن معه وقتها إلا درهماً واحداً، فقابله أحد المساكين وطلب منه الصدقة، وحاول الخولاني أن يهرب منه بشتى الطرق، ولكن لما ألح عليه المسكين، أعطاه أبو مسلم الدرهم، وذهب إلى النجار، وملأ كيسه من نشارة الخشب، ثم رجع إلى منزله وأعطى الكيس لزوجته، وبعد ساعة دعته زوجته للطعام فوجد الخبز على المائدة، ولما سألها من أين صنعتِ هذا الخبز، قالت له: «هذا من الذي جئت به».

تداخل السياسة والتاريخ

من الأسئلة المهمة التي يجدر طرحها على طاولة النقاش، السؤال حول سبب استئثار شخصية أبي مسلم الخولاني -تحديداً- بكل هذا الزخم والحضور في التراث الروائي السني، سواء على صعيد أخبار العبادة والزهد من جهة، أو على صعيد قصص الكرامات والأمور الخارقة للعادة من جهة أخرى.

من الممكن الإجابة على هذا السؤال من خلال الالتفات لأحد الجوانب شبه المجهولة في سيرة أبي مسلم، ألا وهو ذلك الجانب المتعلق بميله السياسي، وموقفه من الحرب الأهلية التي دارت بين معسكر أهل الشام، ومعسكر أهل العراق، في معركة صفين في سنة 37هـ.

الكثير من المصادر التاريخية، تؤكد على أن أبا مسلم كان منحازاً إلى صف والي الشام معاوية بن أبي سفيان، وأنه –أي أبي مسلم- مع عشيرته من بني خولان، قد وقفوا بجانب معاوية في حربه الضروس ضد الخليفة الرابع علي بن أبي طالب. من أهم الروايات التي تلقي الضوء على ذلك الجانب الخفي من سيرة أبي مسلم، ما ذكره أحمد بن يحيى البلاذري المتوفى 279هـ في كتابه «أنساب الأشراف»، إذ يقول:

«…وكانت أم حبيبة بنت أبي سفيان زوج النبي صلى الله عليه وسلم بعثت بقميص عثمان إلى معاوية، فأخذه أبو مسلم الخولاني من معاوية، فكان يطوف به في الشام في الأجناد، ويحرض الناس على قتلة عثمان».

في السياق نفسه، تحدث نصر بن مزاحم المنقري المتوفى 212ه في كتابه «صفين»، عن بعض الأحداث المهمة التي شارك فيها أبو مسلم قُبيل اندلاع الحرب بين الشاميين والعراقيين في صفين، إذ يذكر أن أبا مسلم قد ذهب لمعاوية ليعاتبه على نيته لحرب علي بن أبي طالب، فكان مما قاله له: «يا معاوية علام تقاتل علياً، وليس لك مثل صحبته ولا هجرته ولا قرابته ولا سابقته؟»، ليرد عليه معاوية بأن الأمر خارج عن إرادته، وإنه إنما يقاتل علياً للقصاص من قتل عثمان بن عفان على يد بعض العراقيين.

عندها يذهب أبو مسلم بنفسه حاملاً لرسالة من معاوية إلى علي، ويطلب من علي أن يسلم قتلة عثمان، ولكنه لما يرى أن علياً يرفض تسليمهم، وأن جميع العراقيين قد استعدوا للحرب وقالوا: «نحن جميعاً قتلناه؛ أي عثمان»، فإنه يرجع إلى معاوية، وهو يقول: «الآن طاب الضراب».

ويذكر ابن حبان البستي المتوفى 354هـ في كتابه «الثقات»، أن أبا مسلم الخولاني بعد رجوعه إلى الشام قال لمعاوية:

«والله لتقاتلنّ علياً أو لنقاتلنه فإنه قد أقر بقتل أمير المؤمنين عثمان! فقام معاوية فرحاً فصعِدَ المنبر واجتمع إليه الناس فحمد الله وأثنى عليه. وقام أبو مسلم خطيباً وحرّضَ الناسَ على قتال علي».

بعد ذلك، تتحدث المصادر التاريخية عن أن أبا مسلم كان واحداً من بين كبار المساندين لمعاوية في صفين، وأنه كان يقاتل وهو يرتجز الشعر، فيقول:

ما علتي ما علتي
وقد لبست درعتي
أموت عند طاعتي

الأمر الذي شجع الكثير من الشاميين للاقتداء به واتباعه إلى ساحة المعركة، خصوصاً وأنه كان من بين المشهورين بالزهد والتقوى والصلاح.

كل ما سبق يفسر سبب الحضور القوي لشخصية أبي مسلم الخولاني في المِخيال السني وحده، وكيف أنه قد ظهر بمظهر مخالف تماماً في المِخيال الشيعي، للحد الذي دفع برجل الدين الشيعي المعاصر محسن الأمين العاملي لوصفه في كتابه «أعيان الشيعة»، بأنه «كان فاجراً مرائياً، وكان صاحب معاوية، وهو الذي كان يحث الناس على قتال علي عليه السلام».

من هنا يمكن فهم سبب تعظيم شخصية الخولاني في الذاكرة السنية، وكيف أن الشاميين الذين كان يبحثون عن بعض الرموز التي تصلح لمنافسة علي بن أبي طالب وعمار بن ياسر وغيرهما من أهل الصلاح والتقوى من الذين وقفوا في صف معسكر العراق، قد وجدوا بغيتهم في شخصية الخولاني –سيد التابعين-، فبالغوا في تعظيمه، ونسجوا حوله الروايات والقصص الأسطورية، والتي شبهوه فيها بالأنبياء والرسل، ومما يُرجح ذلك أننا لا نكاد نجد أي ذكر لكرامات وخوارق الخولاني في الكتب المتقدمة، ومنها على سبيل المثال كتاب «الطبقات الكبير» لمحمد بن سعد المتوفى 230هـ، الأمر الذي يدفعنا إلى الشكّ بأن تلك السيرة الأسطورية صناعة أموية محضة.