قرأ «أحمد العيسوي»، مدرس الفيزياء في المدرسة الثانوية، مقالًا على الإنترنت عن أن الأرض كانت مسكونة بنوع آخر من البشر قبل خلق آدم. عدَّد المقال القبائل والصراعات التي حكمت الأرض، حتى أُبيدت الحياة، وبقيت قلة متناثرة من جنس البشر السابقين على الجنس الذي تناسل من آدم. أثار المقال دهشته وقرَّر أن يشاركه على صفحته في الفيسبوك، ربما وجد مَنْ يناقشه فيُنير له غموض الموضوع.

عاد إلى البيت بعد انتهاء الدروس الخصوصية، وبعدما تناول عشاءَه ونامت زوجته والأولاد، فتح جهاز اللاب توب. وجد تعليقات كثيرة، بعضها مؤيد، والآخر مُتشنِّج يتهمه بالكفر. لفت نظره تعليق من شخص اسمه «عبد الله الترقاوي». نصحه بألَّا يُدخِل نفسه في مثل هذه الأمور حتى لا يخسر مجموعات الدروس، وأشار إلى أنه يعرف أن الأستاذة محاسن التي كان يعطي بنتها درسًا خصوصيًّا في شارع النجاشي، وتركها في منتصف العام، سوف تُبلِغ عنه الإدارة التعليمية، وهذه مجرد بداية.

توترت أعصابه. من هذا الرجل الذي يعرف مكان الدرس واسم السيدة؟ دخل على صفحته ورأى أنه ليس من أصدقائه على الفيسبوك، ومعلوماته محجوبة، لكن صفحته تمتلئ بصور الصحراء والجِمال وبعض الأحاديث بلغة الأمازيغ أو اللغة النوبية أو الفارسية… لا يعرف، لكنه كلام مكتوب بالحروف العربية.

الأستاذ أحمد العيسوي مُرهق من العمل طول النهار. يستيقظ مع أذان الفجر يقود سيارته من زفتى إلى طنطا، مسافة تأخذ أكثر من نصف ساعة، يعطي درسًا قبل ميعاد المدرسة، ثم يحضر بعض الحصص في المدرسة، وبعد ذلك يتوجه إلى سنتر الدروس الخصوصية، وفي السابعة مساءً يُنهِي المجموعات وينتشر في المدينة يعطي «البرايفت». لا يعود إلى البيت إلا في وقت متأخر من الليل.

دخل فراشه في تلك الليلة متعجبًا. منْ ذلك الشخص الذي حدَّثه بالعربية وهو يكتب في صفحته بلغة أخرى، ويبدو أنه لا يعيش في مصر، ومع ذلك يعرف كل شيء عن خط سيره؟ لكن النوم خطفه، وفي الفجر التالي استيقظ مع الأذان، وصلَّى الفجر وركب سيارته في طريقه إلى عمله، لكن الخوف حضر مرة أخرى. الطريق خالٍ وهو يقود على مهل، وبشكل مباغت شعر بأنه مكشوف وأن كل ما يفعل يُسجِّله شخص وراءه، رفع صوت القرآن، وتشبث بصوت الشيخ الحذيفي.

في المدرسة حكى لرفيقه «فتحي محمود» ما حدث، وهو مدرس فيزياء أيضًا، فردَّ عليه: «اسمه عبد الله الترقاوي؟»

رد العيسوي مُندهشًا: «صح».

قال «فتحي محمود» بلهجة العالِم: «إنه من المغرب وله باع في السحر الأسود».

كيف عرف فتحي؟ لم يُركِّز العيسوي في متابعة سؤاله. لقد أذهله أن الأمر مكشوف، ولم يخطر في باله أنها يمكن أن تكون حرب دروس خصوصية، ولأنه أشطر مدرس فيزياء فقد يكون من المعقول أن يُفكِّر أحدهم في أن يُرعِبه، حتى يلهيه قليلًا، ويأخذ منه بعض الدروس، لم يخطر هذا في باله، بل تمادى في الأمر وصدَّق الحكايات الخرافية.

أحمد العيسوي يحب الفيزياء، يُدرِّسها بإتقان ويعرف حلولًا لمسائلها، لكنه لم يربطها أبدًا بالحياة. معلومات علم الفيزياء تعيش في برج عاجي في ذهنه، ليس الملح الذي يأخذ مكانًا في مطبخه هو نفس الملح في علم الفيزياء، وليست المساحة أو الكتلة أو الحركة أو السرعة التي يعاينها كل يوم هي نفسها التي في كتب الفيزياء. قوانين ومعلومات علم الفيزياء تعيش في ذهنه منعزلة عن الحياة الواقعية، إمَّا لكونها حلمًا من أحلام العظماء أو لكون الواقع الذي نعيشه لا يمكن أن يكون محلًّا لصفاء وتناسق قوانين الفيزياء، أو لأنها مجرد وظيفة لكسب المال وتكوين ثروة، أو لأي سبب آخر من الأسباب.

ظلَّت الفيزياء معزولة في ذهنه عن باقي انطباعاته وأفكاره. تعيش في وجدانه يستمتع بوجودها وبالتفكير فيها وبتأملها، ويمنحه تناسقها متعة ينقلها لتلاميذه، وتساعده على عيش الحياة العشوائية التي يُعاينها كل يوم وهو يهرول من درس إلى آخر في أرجاء المدينة.

ذات يوم دخل المكتبة ليعطي درسًا مجانيًّا لإحدى البنات الفقيرات، وبعد الدرس خطر له أن يسأل عن كتاب يجد فيه معلومات عمَّن سكن الأرض قبل آدم، وحكى الحكاية لأمين المكتبة، وفيها حكاية السحر الأسود وعبد الله الترقاوي، فأخبره الأمين أن هناك روايتين، الأولى هي القصة الدينية والتي تبدأ البشرية فيها بآدم، والثانية هي القصة العلمية التي ترى أن الكائنات تطورت من بعضها، وختم كلامه قائلًا: «خذ ما تحب».

اندهش العيسوي من كلام أمين المكتبة وقال: «ألا يمكن أن نصدق الاثنتين معًا؟»

ضحك أمين المكتبة: «هذه هي المسألة».

اعترضت زميلتهما (أمينة المكتبة) وأمسكت بحكاية السحر الأسود وأكَّدت وجوده وبراعة أهل الصحراء فيه. حكت قصة سمعتها عن شخص كان عائدًا بسيارته من صحراء ليبيا، وفي منتصف الطريق رأى قطيعًا من الغنم. كان على أبواب عيد الأضحى، فقرَّر أن يشتري الأضحية من الطريق ويضعها في حقيبة السيارة. أوقف الراعي وطلب أن يشتري إحدى نعاجه، لكن الراعي طلب سعرًا خرافيًّا. عندها بدا للمسافر أن الراعي مجنون، فاحتد عليه واتجه إلى سيارته، وقبل أن يركب كان قد تحول إلى أحد أفراد القطيع.

ذُهِل الأستاذ أحمد العيسوي قائلًا: «يعني كل هذا القطيع بشر في صورة غنم؟»

قالت: «بالضبط… السحر الأسود قادر على فعل ذلك».

نظر أحمد العيسوي من نافذة المكتبة وفكَّر أنه أحيانًا يشعر أن الناس تسير كالسائمة، كالجِمال الشاردة، وفكَّر أن هذا أوقع من كل الحكايات التي سمعها، ونسي موضوع حكاية الأرض ونشأة البشر، وبدأ ينشغل بحكاية السحر الأسود. منْ أدرانا؟ يمكن في أي لحظة أن نتحوَّل إلى قطيع من الغنم، أو أننا بالفعل قطيع من الأغنام في صورة بشر.

توترت حياته، وفقد بعض وزنه، وبعض مجموعات الدروس، وراح يفكر في أنه يمكن في أي لحظة أن يتحول إلى أحد أفراد القطيع.

في أحد أحلامه ظهر له البدوي صاحب الأكاونت على الفيسبوك، قائلًا: «يكفي بك عقابًا ما حدث، تأمل حياة الغنم إنها أغنى من حياة البشر، على الأقل لا تحمل الهموم، لا تتصارع، لا يقتل بعضها بعضًا، تعيش حياة مريحة جدًّا، استعد حتى تتحول إلى كائن آخر».

خيَّره البدوي بين أن يتحوَّل إلى خروف أو حمار أو جمل، احتار أحمد العيسوي طويلًا وقال بسذاجة: «ألا يمكن أن أتحول إليها جميعًا، أو أقضي شهرًا في الحمار وشهرًا في الجمل وشهرًا في الخروف، حتى يمكنني أن أحدد اختياري بدقة؟» نظر إليه البدوي بغضب وقال: «أنت لا تصلح أن تكون كائنًا، عليك أن تنزل في سلم المخلوقات، ستتحول إلى حجر».

استيقظ أحمد العيسوي من نومه فرحًا، هذا أجمل مصير بالنسبة إلى مدرس فيزياء؛ أن يتأمل قوانين الطبيعة في جوف الحجر.