هناك أعمال أدبية تبدو الكتابة عنها فكرة صعبة. ففي الوقت الذي من المفترض فيه التحضير للكتابة عن أحد تلك الأعمال يكون عقل كاتب المقال ما زال غارقاً في أجواء هذا العمل الذي لا يزول سحره بعد قراءته مهما مرّ الوقت.

تُعد رواية «العمى» للكاتب البرتغالي «جوزيه ساراماغو» واحدة من تلك الأعمال، فمنذ البداية لم أكن أتوقع أن تكون هذه الرواية واحدة من تلك الأعمال التي تُوغل في أعماق أبطالها أو قُرّائها، بواقعيتها الشديدة المفرطة، أو في تعقدها وتلاحمها في أدق تفاصيل حياة أولئك الذين طالهم وباء العمى.

فالعمى هو أيضاً أن تعيش في عالم انعدم فيه كل أمل.

من اللحظات التي تُنبأ بتفشي العمى كوباء يبدأ ظهور «جوزيه ساراماغو» كناقد للسلطات. يبدأ الأمر من ديباجة القوات الأمنية وتعاملها مع المعزولين، ومن ثَمَّ في تبريرهم أحداث القتل وإخلاء مسئوليتها عن نقص الطعام والرعاية الصحية، ومن ثَمَّ انفلات الأمن ووقوع الطعام تحت سطوة السارقين السفاحين، الذين استحلّوا استغلال الفرصة لنهب العميان واغتصاب نسائهم.

قص الحكاية بطريقة ممتعة، أم نقد الأخلاق والسلطة؟

من منطلق قص الحكاية بطريقة ممتعة، فإن هذا ما قد نجح فيه ساراماغو بامتياز، عن طريق استخدام عيون «زوجة الطبيب»، وهي بطلة الحكاية، والمُبصرة الوحيدة في العمل. استخدم ساراماغو عيون زوجة الطبيب لوصف المشاهد والأحداث للعميان، ولوصف مشاعرها هي بالذات حينما تقع عيونها على أي شيء مخيف. هذه المرأة كُتب عليها أن ترى كل هذا الانحدار وتلك البشاعات التي آلت إليها البشرية منذ وقوع هذا الوباء.

يتم إخضاع النساء للموافقة على صفقة «الطعام مقابل الجنس» من قِبل العصابة التي تستولي على الطعام، بسبب امتلاكهم سلاح ناري وتنظيمهم العصابي الذي جعلهم يُخضِعون أكثر من 250 شخصًا، وبدلاً من رفض الوضع والانقلاب عليه، نرى أن الرجال يُسلِّمون نسائهم طواعيةً دون أي ردة فعل تُذكر تقريباً.

وفي النهاية لا يُنقِّذ الموقف سوى المرأة الوحيدة التي ترى كل هذه القذارة والتحولات التي تطرأ على منْ حولها، وأولهم زوجها الطبيب، الذي ما إن شعر بفراغ مكان زوجته بجانبه حتى اعتلى «الفتاة ذات النضارة السوداء» ومارس معها الجنس تحت عيني زوجته، التي كانت تراه ولم تجد أي دافع لإيقافه، في إشارة غريبة لما قد ينتج عن كثرة الضغوط التي قد يتعرض لها العقل البشري العجيب.

تُتابع زوجة الطبيب الرؤية وهي تتمنى أن تُصاب بالعمى لتتخلص من شعورها المفرط بالألم مما تراه، من رؤية القمامة التي تثير التقزز، ورؤية الناس وهم يُفتشون في أكوام القمامة بحثاً عن الطعام، لتتخلص من شعورها بالذنب لأنها ليست مثلهم لسبب تجهله ويجهله الجميع، ولتتخلص من ذلك الثقل الذي يجعلها امرأة واحدة بعينين سليمتين مسئولة عن ستة أشخاص عميان مسئولية كاملة.

إن الصعوبة لا تكمن في معايشة الناس، إنما في فهمهم.

يمتلك الجميع أفواهًا للحديث… للطلب… للتمني… ولكن لا شيء آخر يتمكنون من فعله، إذ إن فقدهم لحاسة واحدة يبدو وكأنه أفقدهم كل حواسهم، بل أنه يبدو في بعض المواقف وكأنه ألغى وجود عقولهم بالكامل، ومنحهم ترخيصًا للنزول إلى أقصى درجات البشرية، أو التحول لحيوانات تمشي على أربع، لمعرفة العلامات في الممرات والطرق.

تسوء الأمور في كل مرة يتوقع فيها أي شخص أن السوء قد وصل إلى مداه. يشح الطعام ويتعذّر وجود ماء للشرب أو لقضاء الحاجة. يتم منع الطعام بالكامل حتى تتم الصفقة التي تعقدها العصابة التي لا يعلم أحد من أين أتت. يتحول الجميع إلى حيوانات لا هدف لها إلا الاستمرار في الحياة متنازلين عن كل شيء؛ عن ممتلكاتهم أولاً ثم شرفهم وكرامتهم فيما بعد.

فجأة قد يتحول المرء إلى حيوان أو وحش، فقط حينما تأتيه الظروف المناسبة، يمكن أن تتحول امرأة جميلة كزوجة الطبيب إلى قاتلة كي تنتقم أو كي تُحرِّر الآخرين من السطوة. يمكن أن تتمنى العمى فقط إكراماً لكل العميان، أو كي تتخلص من ثقل خدمتهم، يمكنها أن تكره عجز زوجها أو تكرهه هو شخصياً لأنه حتى وهو في حالة كهذه يقرر خيانتها، فقط لأن الظروف متاحة.

يتحول الأشخاص جميعاً تحت الضغط، وتطفو على السطح كل رغباتهم وشهواتهم. تُحركهم الغرائز فقط دون اعتبار أي شيء آخر. أشد البشر وداعة يمكن أن يكون سفاحاً حينما يسمح له القدر ويضع أمامه ضحية جاهزة أو جلّاد يمكن الانتقام منه دون أي حساب.

السرد ومنظور الحكاية

يُعد سرد الحكاية المركب والمتلاصق والمحبوك بالجمل الطويلة والأسلوب الصحفي التقريري لسارماغو، هو أبرز عوامل شيوع العمل ونجاحه، حيث إن الحكاية المُسهبة والمملة في بعض الأحيان لا تسمح لك بتركها إلا لتستريح أو لتستوعب كل هذا الكم من المصائب الذي قد يترتب على حدوث كارثة غير معلومة المصدر، أو ما ستؤدي إليه من كوارث أخرى. شيء واحد تفقده البشرية لتنحط هكذا وتتحول إلى حيوانات تعيش على أكل المسروق والمنهوب، تبول وتتغوط في أي مكان، تغتصب وتقتل بدافع الرغبة أو الخوف أو فرض السيطرة.

العمى الذي أتى كوباء واختفى كمعجزة قد يرمز لحياة الناس عامةً، يمكن أن يرمز لحياة الفقراء في هذا العالم، والذين لا يرون الجانب الآخر من الحياة… حيث الحياة الحقيقة المُتاح فيها كل شيء. يمكن أن ترمز بيانات الجيش وطريقة إلقائه لها إلى بيانات كل الحكومات، التي لا تُعد أكثر من ثرثرة فارغة لا طائل منها سوى تسكين الآلام ودحض الروح أو الثورة بأقوال أن «الغد أفضل» وأننا «نسعى جاهدين» وأننا «سنفعل ونفعل من أجلكم»… وما إلى ذلك.

يمكن أن ترمز عيون زوجة الطبيب لبصيرة البعض في هذا العالم، التي تُمكِّنهم من رؤية البشاعة والقبح في كل العالم، والتي تجعلهم يشعرون بالأسى تجاه العميان، الذين في الحقيقة لا يكونون أكثر من مجرد أشخاص لا يبصرون الحقيقة.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.