عرفت «تريفور نوح» من خلال أحد مقاطعه الكوميدية، وهو الكوميديان والمذيع التلفزيوني الأفريقي، الذي اشتهر بتقديمه برنامج «The Daily Show»، بعدها بأيام قليلة صادفت مجموعته القصصية «Born a Crime» قرّرت قرأتها، وعلِقت معي بشدة؛ وفيها يحكي تريفور نوح مشاهد من طفولته؛ علاقته بأمه (باتريشيا)، وكيف كبر طفلًا مُختلطًا، بشرته ملونة، لا أسود ولا أبيض، أبوه ألماني سويسري وأمه أفريقية، قضى سنواته الأولى تحت نظام الفصل العنصري لبلده، جنوب أفريقيا، ثم كيف عاش عندما تغير الوضع وخرج نيسلون مانديلا من السجن.

انتهى الاحتلال ولم تنتهِ ويلاته. كان لوالدته إيمانها الخاص، الذي يحمل تيمة الطقوس (العبادات)، يقضيان يومًا كاملًا من كل أسبوع في زيارة مكثفة لثلاث كنائس، ولكل كنيسة أيضًا تيمتها الخاصة: كنيسة للبيض وكنيسة للسود وكنيسة مختلطة. يتحدث الإنجليزية، والعديد من لغات أفريقيا، كالحرباء. يتلون حتى يضمن البقاء.

تريفور شاب من جيل الثمانينيات، طفولته ليست بعيدة، حكايته تنبض بالحياة، وتحتفظ بآثار الاحتلال لمجتمعه بفجاجتها، لتجد نفسك تتساءل: هل حدث هذا من ثلاثين عامًا فقط؟

استحوذت أمه على مساحة هائلة من نشأته. رأى تريفور العالم من خلالها أولًا، كان فكرتها الثورية، عندما قررت ببساطة أن تُنجب من رجل سويسري أبيض، في وقت كانت فيه فعلتها جريمة، ولا تملك أن تعرف إلى أي مدى سيأتي طفلها مُجسِّدًا لجريمتها، هل سيُولد أبيض، أم سيتخفّى في بشرة سوداء.

ولد تريفور ملونًا، مختلطًا، مجرمًا بالفطرة، لن يحظى أبدًا بصلاحيات البيض، ولن يتخفى في بشرة سوداء ليعيش مع أمه بسلام على الأقل، سيظل تذكيرًا مُستفِزًا للبيض على أن واحدًا منهم لم يتماسك في لحظة وضعف أمام نساء أفريقيا. خلق وجوده مشكلة، لم يفهم تريفور لماذا صعّبت باتريشيا الأمور على نفسها لهذا الحد؟ فهي منْ أتقنت الإنجليزية وتعلّمت الكتابة وأعمال السكرتارية، وكان بمقدورها أن تختار تهديدًا أقل في حياتها.

ترجّت باتريشيا السويسري طويًلا ليمحنها طفلًا، وعدته بألّا تضره أبدًا، أخبرته أنه كان يمكنها أن تتحايل عليه وتحمل منه من دون أن يعرف، لكنها لم ترد طفلها بهذه الطريقة، وافق السويسري في النهاية، ولم يخل باتفاقه معاها وبقي على خفته في علاقته بطفله، يراه وقتما يمكن، ويتجاهله إن ناداه أمام العامة بـ«بابا». تُخفيه أمه في البيت، في أغلب الصور تقف في الخلف، على أنها الخادمة، بينما تقف صديقتها فاتحة البشرة بجواره متظاهرة بأنها أمه، كان ضروريًا تزييف الأدوار. وعلى الرغم من كل شيء، كبر تريفور.

اخترت من الكتاب قصتين لأتحدث عنهما: «الآن هتلر» و«عمى ألوان»، وأترك القصة المُعنوّن بها، لتؤرق فضول القارئ.

في الكتاب حكايات أخرى خاطفة ومدهشة، لم أعثر للأسف على ترجمة عربية للقصص، ولكنها متوفرة بالإنجليزية بنسخة صوتية من إلقاء تريفور نوح نفسه، وهو ما زادها متعة.

الآن هتلر

من عادة الأفريقيين اختيار أسمائهم بعناية، لتدل على معنى، لكن في فترة الاحتلال بدأ الناس يختارون أسماء إنجليزية أو أوروبية يعرفها المحتلون، ويقدرون على نطقها بسهولة، فكانوا يختارون من أسماء القادة، أو مشاهير هوليوود. وأيًا كانت دوافعهم، فهي تدل على علاقتهم ورؤيتهم للآخر، جزء منه يرجع إلى أنهم في هذه الفترة تعلّموا عن التاريخ بسطحية، بشكل يحرمهم من فهم السياق لأي حدث. لذلك، وبحسن نية قررت عائلة ما، تسمية طفلها «هتلر»، ولم يواجه في حياته إلا كل الأمنيات بأن يكبر قويًا وقاسيًا كالقائد هتلر، جاهلين أي شيء عن الهولوكوست ومعاداة السامية.

«هتلر» الذي أصبح صديق تريفور في فترة المراهقة، بهر الجميع بقدراته في الرقص والاستعراض، أسّس تريفور فرقة خاصة به، بعدما جمع كمًا كبيرًا من الأغاني وعرف كيف يُنسِّقها على الدي جي، اشتهرت الفرقة واكتسحت حفلات التخرج.

في أحد الأيام دُعيت الفرقة للمشاركة في حفل ثقافي يضم أنواعًا مختلفة من الموسيقى، رحّب تريفور وفرقته بالفكرة واتجهوا إلى لينكسفيلد، إحدى الضواحي الراقية في جوهانسبرغ. كانت الدعوة من مدرسة ذات مرجعية يهودية، انتظر تريفور وفرقته حتى انتهت عروض الفرق السابقة لهم، من رقصات الفلامنكو، والرقص اليوناني، ورقصات الزولو، وعندما حان دورهم وصعدوا للمسرح، أمام كثير من الأولاد الذي يرتدون الكيباه (غطاء الرأس اليهودي)، أمسك تريفور بالميكروفون وسأل بحماسة: «مستعدون؟»، اشتعلت الصالة مُشجِّعةً، قفز «هتلر» على المسرح، وصاح تريفور ورفقته ليحثوه على الرقص «الآن هتلر… الآن هتلر… الآن هتلر».

بُهت الحضور، الأولاد، والمدرسون، وأولياء الأمور. وفي الحال فصلت إحدى المُدرِّسات الدي الجي الخاص بالفرقة، فانقطع الصوت، وبكل غضب قالت: «كيف تجرؤ؟ يا لك من مقزز!». لم يستوعب تريفور ماذا يحدث، وفي ثوان فهم أن حركات هتلر استفزتها، لأن هتلر لحظتها كان يُحرِّك خصره بإيحاء جنسي، وكأنه يفعلها مع الهواء، وهو جزء من الرقصة، لا بد أنه ما وصفته بـ«المقزز»، لكن هكذا يرقص الأفريقيون، هذه الحركة فعل من ثقافتهم، وهم هنا في الأساس لتبادل ثقافاتهم المختلفة. تماسك تريفور وأخبرها «أرجوكِ أن تهدئي». فردت: «كيف أهدأ؟ هل أتيت هنا لإهانتنا؟»، فقال: «لم نُهِن أحدًا، هذه طبيعتنا».

قالت بغضب: «اخرج من هنا! يا لكم من حثالة! حثالة!». أدرك تريفور الآن ما يحدث، ما هي إلا عنصرية تُمارَس عليهم. فقال: «اسمعي هنا! تحرّرنا الآن ونفعل ما نقرره، لا تقدرين على إيقافنا».

انفجرت المدرسة بسخط: «أوقفناكم من قبل، وسنفعل مُجددًا!». بالطبع كانت السيدة تتحدث عن إيقاف النازيين وعن الحرب العالمية الثانية، لم يفهم تريفور سوى أن امرأة بيضاء تُبرِطم عن قهر شعبه، فقال: «لن يُوقفنا أحد يا امرأة… الآن لدينا نيلسون مانديلا!». صُدمت المُدرِّسة وقالت: «ماذا».

غادر تريفور الصغير ورفقته المدرسة، وهم لا يدركون أبدًا أي إساءة ارتكبوها، كيف يمكن لموقف بسيط أن يفضح خارطته البشعة المهولة، ويبقى مفارقة تسخر من التاريخ.

عمى ألوان

يحكي تريفور أنه في إحدى الليالي انتظر بصبر عودة صديقه تيدي، مر الوقت ثقيلًا ولم يرجع ليلتها. كانا خرجا قبل ساعات ليتسكعا في المول الذي يبعد بضع بنايات عن بيت تريفور.

طقوسهما في نهاية كل أسبوع، يتجهان للمول، يقضيان الساعات حتى يتأخر الوقت، فتبدأ المحلات بالإغلاق، بينما يظل المول مفتوحًا بسبب العروض المتأخرة في السينما. كان هناك محل يبيع الجرائد والمجلات، ينتظرانه تحديدًا حتى يغلق، لأنه يغلق ببوابة حديدية فقط، مُفرغة، اكتشفا بالصدفة قدرتهما على الولوج حتى كتفيهما من خلالها والوصول لقطع الشكولاتة المعروضة، ولمدة شهر تمتّعا بالشكولاتة المحشوة بالكحول من دون أن يكشفهما أحد، لكن في هذا اليوم، بينما تريفور بنصفه العلوي داخل المحل يلتقط قطع الشكولاتة، رآه أحد حُرّاس المول. بسرعة ابتعد تريفور وتظاهر أنه يمشي بعادية، حتى سمع صوت الحارس من خلفه «توقف!»، وهنا بدأت المطاردة.

ركض تريفور وتيدي بأنفاسهما، وأدركا أنه إذا أغُلقت أبواب المول فقد هلكا، ركض تريفور خافضًا وجهه، لأن كل حراس المول يعرفونه، يقضي كل وقته هنا، وتأتي أمه لسحب المال. استطاعا الهرب خارجًا، لكن الحراس ما زالوا خلفهما، لن يستمرا في الركض للأبد، خطرت لتريفور فكرة تنهي المأزق، أشار لتيدي حتى يتجها نحو طريق معينة، لم يملكا وقتًا للنقاش، اعترض تيدي مُفارقًا تريفور لأن الطريق نهايتها مسدودة، كان لدى تريفور تفسير، لكنهما افترقا.

آمن تريفور أنه لا أحد يمكنه إيقاعك حيث تعيش، كان في نهاية الطريق المسدودة فتحة صغيرة يمكنها أن تمرر جسدي تريفور وتيدي، لكنها لن تمرر أجساد الحراس البالغة. وبالفعل انفلت تريفور منها ونجحت خطته. لم يعد تيدي في هذه الليلة، وفي الصباح عندما ذهب تريفور للمدرسة، ينهشه قلقه وخوفه، استدعاه المدير إلى مكتبه، هناك وجد صديقه وأهله، أخبره المدير أن تيدي فُصل من المدرسة وسيذهب للسجن الإصلاحي بتهمة السرقة.

ارتعب تريفور وتظاهر أنه لا يعرف شيئًا عمّا حدث، قال المدير: «شارك تيدي في فعلته ولد آخر». دق قلب تريفور حافرًا صدره. «ألا تعرف من هو؟» سأله المدير. «لا» أجاب تريفور. أشعل المدير الشاشة لتعرض تسجيلًا، الكاميرات سجّلت كل شيء. «يا للدنيا! سأذهب للسجن الآن!» فكر تريفور، بدأ التسجيل الذي يعرض ما حدث منذ البداية، وبزوايا مختلفة، أوقف المدير التسجيل، رأى تريفور في عينيه «ألن تعترف الآن؟»، لكنه سمع أيضًا المدير يقول: «هل تعرف منْ الولد الأبيض الذي مع تيدي؟».

تجمّد تريفور، هل يسخر المدير منه؟ وخطف نظرة للتسجيل، أدرك أنه بالأبيض والأسود، وأن الكاميرا لم تقدر أن تحدد بشرته الملونة، فأظهرته أبيض بجانب بشرة تيدي السوداء، ظهر أبيض في التسجيل لكنه ما زال تريفور، ملامحه، هيئته، إنه صديق تيدي الوحيد.

لم يُصدِّق تريفور عندما بدأ المدير في سرد أسماء كل الأولاد البيض في المدرسة، ليؤكد تريفور إن كان هذا الولد واحدًا منهم. ظنها خدعة ستنتهي. لم تنته. انقبض تريفور. شعر أنه غير مرئي. أراد أن يصرخ

هل عميتم حقًا؟ إنه أنا!

ولم يفهم كيف تحولوا هم أيضًا لكاميرات لا تقرأ سوى الأبيض والأسود.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.